قسمت 14

إلّا أنّ هذا كلّه في الجهاد الابتدائي، و إلّا فإن دهم المسلمين عدوّ يخشی منه علی أصل الإسلام أو علی نفس المكلّف فالدفاع حينئذ جائز و إن كان في زمن الجائر لكنّه يقصد الدفاع لا معاونة الجائر. و مسألة الدفاع مذكورة في الشرائع أيضا قريبة ممّا في المختصر، فراجع.

                       

هذا محصّل عبارة الشرائع و المختصر و سيأتي لها شرح عند ذكر كلام الرياض و الجواهر، فانتظر.

و قد ذكر شرح عبارته في المختصر العلّامة ابن فهد الحلّي [المتوفّی 841 ه] في المهذّب البارع بما يظهر منه ارتضاؤه له، فراجع «1».

13- و قال الفقيه يحيی بن أحمد بن سعيد الهذلي [المتوفّی سنة 690 ه] في كتابه الجامع للشرائع: «... و لا قتال حتّی يدعوهم الإمام أو أميره إلی الإسلام و التزام أركانه، فإن أبوها أو شيئا منها حلّ القتال ...» «2».

فهو قدّس سرّه و إن كان في مقام بيان شرط الشروع في القتال إلّا أنّ اشتراطه لحلّه بدعوة الإمام أو أميره بحيث لم يجز إلّا بعد دعوة أحدهما إلی أركان الإسلام و إباء الكفّار لقبول كلّها و شي‏ء منها فيه دليل واضح علی أنّ جواز القتال مشروط بإذن الإمام أو أمره، إلّا أنّ الظاهر اختصاصه بالجهاد الابتدائي فإنّ الدفاعي غير منوط بالدعوة المذكورة كما لا يخفی.

14- و قال الحسن بن يوسف المطهّر العلّامة الحلّي [المتوفّی 726 ه] في كتاب الجهاد من التذكرة: «الجهاد قسمان، أحدهما: أن يكون للدعاء إلی الإسلام، و لا يجوز إلّا بإذن الإمام العادل أو من نصبه لذلك عند علمائنا أجمع، لأنّه أعرف بشرائط الدعاء و ما يدعوهم إليه من التكاليف دون غيرها- ثمّ استدلّ بخبر بشير الدهان، ثمّ قال:- و قال أحمد: يجب مع كلّ إمام برّ و فاجر لرواية أبي هريرة عن النبيّ صلّی اللّه عليه و آله أنّه قال: «الجهاد واجب عليكم مع كلّ إمام «3» برّا كان أو فاجرا» و هو محمول علی القسم الثاني من نوعي الجهاد ... و الثاني: أن يدهم المسلمين العدوّ فيجب علی الأعيان عند قوم و علی الكفاية عند آخرين و قد سبق «4».

                       

أقول: قوله: «و قد سبق» إشارة إلی ما أفاده في المسألة السابعة من الجهاد بقوله: «و إن لم يستقرّ الكفّار في بلادهم بل قصدوا بلدة من بلاد المسلمين قاصدين لها فالوجه أنّ الوجوب لا يتعيّن وصفه بل يكون فرض كفاية- و هو أحد وجهي الشافعيّة- فإن قام به البعض و إلّا وجب علی الأعيان- إلی أن قال:- و البلاد القريبة من تلك البلدة يجب عليهم النفور إليها مع عجز أهلها لا مع عدم العجز و هو أحد وجهي الشافعية، و الثاني أنّه لا يجب. و أمّا البلاد البعيدة فإن احتيج إلی مساعدتهم وجب عليهم النفور و إلّا فلا» «1».

فحاصل المستفاد من عباراته قدّس سرّه: أنّ إذن الإمام أو أمره معتبر في الجهاد الابتدائي، و ادّعی عليه أنّ عليه علماءنا أجمع، و هذا بخلاف الجهاد الدفاعي عن هجوم الكفّار فإنّه واجب و غير مشروط بإذن الإمام العادل بل يجب في الدولة الجائرة أيضا، و لم يتعرّض لجهاد البغاة.

و قال قدّس سرّه في المسألة 241: كلّ من خرج علی إمام عادل ثبتت إمامته بالنصّ عندنا و الاختيار عند العامّة وجب قتاله إجماعا، و إنّما يجب قتاله بعد البعث إليه و السؤال عن سبب خروجه و إيضاح ما عرض له من الشبهة و حلّها له ... إلی آخره «2».

و قال في المسألة 242: «و يجب قتال أهل البغي علی كلّ من ندبه الإمام لقتالهم عموما أو خصوصا أو من نصبه الإمام، و التأخير عن قتالهم كبيرة و يجب علی الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ما لم يستنهضه الإمام علی التعيين فيجب عليه، و لا يكفيه قيام غيره كما قلنا في قتال المشركين» 3.

فقد صرّح بوجوب قتال البغاة علی الإمام و بأنّ للإمام أو منصوبه دعوة الناس إلی قتالهم و استنهاض أحد بالخصوص، فيدلّ علی أنّ له إقامة الحرب عليهم و أنّ للمسلمين اتّباع دعوته. و كلماته قدّس سرّه في أحكام و فروع قتال البغاة مشحونة بذكر

                       

الإمام و فرض أنّه العازم علی قتالهم و ما ينتهي إليه أمر قتالهم إلّا أنّه مع ذلك لم أجد تصريحا منه قدّس سرّه بأنّه ليس لغير الإمام أو منصوبه الاستقلال بجهاد البغاة.

15- و قال العلّامة أيضا في القواعد في المقصد الأوّل من كتاب الجهاد المعقود لذكر من يجب الجهاد عليه: «و إنّما يجب بشرط الإمام أو نائبه و إنّما يتعيّن بتعيين الإمام أو النائب لمصلحة أو لعجز القائمين عن الدفع بدونه- إلی أن قال:- و في الرباط فضل كثير و هو الإقامة في الثغر لتقوية المسلمين علی الكفّار و لا يشترط فيه الإمام لأنّه لا يشتمل قتالا بل حفظا و إعلاما» «1». ثمّ ذكر في المقصد الثاني من يجب قتاله، و ذكر أنهم ثلاثة: الحربي و الذمّي و البغاة 2.

فعبارته الاولی جعلت الإمام أو نائبه شرط وجوب الجهاد و جعلت الإمام أو نائبه المتصدّي لأمر الحرب حتی إن كان بتعيين أحدهما لشخص خاصّ و استنهاضه له يتعيّن عليه القيام بهذا الواجب، و واضح بإطلاق الكلام و بمعونة التقسيم المذكور في المقصد الثاني أنّ الجهاد المذكور في كلامه يشمل كلّا من الأقسام الثلاثة.

و ذيل عبارته الثانية الواردة في بيان فضل الرباط حيث علّل فضله بقوله:

 «و لا يشترط الإمام لأنّه لا يشتمل قتالا بل حفظا و إعلاما» يدلّ بوضوح علی أنّ القتال مشروط بحضور الإمام كما مرّ في عبارات المحقّق قدّس سرّه. فكلامه في القواعد يدلّ بافتائه بتمام ما هو المطلوب. و في سائر كلماته في كتاب الجهاد دلالات اخر تظهر لمن راجعها.

16- و قال المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه ذيل قول العلّامة رحمه اللّه في الإرشاد: «و يستحبّ المرابطة بنفسه و بفرسه و غلامه و ان كان الامام غائبا» قال قدّس سرّه: «قال في المنتهی:

 «الرباط فيه فضل كثير و ثواب جزيل، و معناه الإقامة عند الثغر لحفظ المسلمين- الی أن قال:- و انّما يستحبّ المرابطة استحبابا مؤكّدا في حال ظهور الإمام عليه السّلام،

                       

أمّا في حال غيبته فإنّها مستحبّة أيضا استحبابا غير مؤكّد لأنّها لا تتضمّن قتالا بل حفظا و إعلاما و كانت مشروعة حال الغيبة».

و فيه أيضا: «و أنّه لو حصل المقاتلة فهو جهاد حقيقي لكونه بإذنه عليه السّلام صريحا، و إن حصل القتال في الثغر حال الغيبة فهو للدفع، فيقصد الدفع عن نفسه و عن إخوانه المسلمين و أهله و لا يقصد به الجهاد فإنّ ذلك ليس بجهاد. كذا قال في المنتهی» «1» و دلالة ما أفاده في المنتهی في بحث الرباط علی المطلوب واضحة كما مرّ.

17- و قال الشهيد الأوّل [الشهيد سنة 786 ه] في كتاب الجهاد من الدروس:

 «و إنّما يجب بشرط دعاء الإمام العادل أو نائبه. و لا يجوز مع الجائر اختيارا، إلّا أن يخاف علی بيضة الإسلام- و هي أصله و مجتمعه- من الاصطلام، أو يخاف اصطلام قوم من المسلمين فيجب علی من يليهم الدفاع عنهم، و لو احتيج إلی مدد من غيرهم وجب لكفّهم لا لإدخالهم في الإسلام ... و ظاهر الأصحاب عدم تسمية ذلك كلّه جهادا بل دفاع» «2».

و قال فيه أيضا: «و لا يجوز القتال إلّا بعد الدعاء إلی الإسلام بإظهار الشهادتين و التزام جميع أحكام الإسلام، و الداعي هو الإمام أو نائبه» 3.

و قال قدّس سرّه فيه أيضا: يجب قتال البغاة علی الإمام العادل إذا استنفر عليهم، قال اللّه تعالی: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّی تَفِي‏ءَ إِلی‏ أَمْرِ اللَّهِ. و قال النبيّ صلّی اللّه عليه و آله: «ما سمع داعينا أهل البيت أحد فلم يجبه إلّا كبّه اللّه علی منخريه في النار» «4».

فالجملة الاولی من الفقرة الاولی دلّت علی أنّ للإمام العادل الّذي هو وليّ أمر الامّة الإسلامية أن يدعو الناس إلی الجهاد و أنّه يجب حينئذ إجابة دعوته، و هذه الجملة و إن لم تنصّ علی أزيد من اشتراط بوجوب الجهاد بدعوة الإمام إلّا

                       

أنّ تقييد الدفاع الواجب علی الناس في غير زمن تولّيه خارجا بقوله: «وجب لكفّهم لا لإدخالهم في الإسلام» فيه شهادة واضحة علی أنّ الجهاد الابتدائي للدعوة إلی الإسلام لا مجال له إلّا تحت لواء الإمام العادل الّذي هو وليّ أمر المسلمين. نعم لم يتعرّض في هذه الفقرة لاشتراط الدفاع بدعوة الإمام و وليّ الأمر.

و في الفقرة الثانية لمّا اشترط في الداعي إلی الإسلام أن يكون هو الإمام أو نائبه دلالة واضحة علی أنّ القتال مشروط بحضوره أو حضور نائبه، و هو شامل للجهاد الابتدائي بل مختصّ به لعدم مجال للدعوة في المهاجمين.

و أمّا الفقرة الثالثة فقد تضمّنت اشتراط وجوب قتال البغاة باستنفار الإمام للناس عليهم بلاد تعرّض لأنّ أصل جواز الدفاع عنهم مشروط باستنفاره، إلّا أنّ من الواضح أنّه لا دلالة في شي‏ء من كلماته علی الخلاف أصلا.

18- و قال الشهيد الثاني زين الدين بن عليّ بن أحمد [الشهيد سنة 966 ه] في كتاب الجهاد من المسالك: «اعلم أنّ الجهاد علی أقسام، أحدها: أن يكون ابتداء من المسلمين للدعاء إلی الإسلام. و هذا هو المشروط بالبلوغ و العقل و الحرّية و الذكورية و نحوها و إذن الإمام أو من نصبه و وجوبه علی الكفاية إجماعا. و الثاني:

أن يدهم المسلمين عدوّ من الكفّار يريد الاستيلاء علی بلادهم أو أسرهم أو أخذ مالهم و ما أشبهه من الحريم و الذرّية. و جهاد هذا القسم و دفعه واجب علی الحرّ و العبد و الذكر و الانثی إن احتيج إليها و لا يتوقّف علی إذن الإمام و لا حضوره ...» «1».

فهو قدّس سرّه قد صرّح باشتراط أصل الجهاد الابتدائي بإذن الإمام أو من نصبه، فأمر الجهاد الابتدائي موكول إلی وليّ الأمر بنحو الانحصار، و أمّا الدفاع عن هجمة الكفّار فحكم بأنّه واجب و لا يتوقّف علی إذن الإمام و لا حضوره فنفی اشتراط إذنه بالمرّة، و قد عرفت من كلام بعض من تقدّم ذكر كلامه كابن حمزة قدّس سرّه‏

                       

في الوسيلة اشتراط إذنه مهما أمكن، و سنرجع إليه إن شاء اللّه تعالی.

19- و قال السيّد عليّ بن محمّد الطباطبائي قدّس سرّه [المتوفّی سنة 1231 ه] في رياض المسائل- بعد أن فسّر الجهاد شرعا ببذل الوسع بالنفس و المال في محاربة المشركين أو الباغين علی الوجه المخصوص-: «و قد يطلق علی جهاد من يدهم المسلمين من الكفّار بحيث يخافون استيلائهم علی بلادهم و أخذ مالهم أو ما أشبهه».

و قال في شرح ما مرّ من عبارة المختصر: «و إنّما يجب الجهاد بالمعنی الأوّل علی من استجمع الشروط المزبورة مع وجود الإمام العادل و هو المعصوم عليه السّلام أو من نصبه لذلك، أي النائب الخاصّ و هو المنصوب للجهاد أو لما هو أعمّ. أمّا العامّ كالفقيه فلا يجوز له و لا معه حال الغيبة، بلا خلاف أعلمه، كما في ظاهر المنتهی و صريح الغنية، إلّا من أحمد كما في الأوّل، و ظاهرهما الإجماع، و النصوص به من طرقنا مستفيضة بل متواترة، منها أنّ القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام مثل الميتة و الدم و لحم الخنزير «1»، و منها: لا غزو إلّا مع إمام عادل «2»، و في جملة اخری: الجهاد واجب مع إمام عادل «3». و لا يكفي وجود الإمام بل لا بدّ من دعائه إليه، و علی هذا الشرط فلا يجوز الجهاد مع الجائر إلّا أن يدهم المسلمون من أيّ عدوّ يخشی منه علی بيضة الإسلام أي أصله و مجتمعه، فيجب حينئذ بغير إذن الإمام و نائبه أو يكون بين قوم مشركين و يغشاهم عدوّ فيجاهد حينئذ و يقصد الدفع عن الإسلام و عن نفسه في الحالين لا لمعاونة الجائر ... و لا يخفی أنّ هذا الاستثناء منقطع، إذ الجهاد الّذي يعتبر فيه إذن الإمام و سائر الشروط إنّما هو الجهاد بالمعنی الأوّل دون غيره اتّفاقا، و الجهاد المذكور بعد الاستثناء غيره، و لذا

                       

قال في الشرائع بعده: «و لا يكون جهادا ...» «1».

و أصل كلامه قدّس سرّه كمتنه- علی ما عرفت- و إن كان في مقام ذكر شرط آخر لوجوب الجهاد و هو حضور الإمام العادل أو منصوبه الخاصّ و دعائه إلی الجهاد فلا يستفاد منه أكثر من الجهة الإثباتية- أعني أنّ للإمام أن يقوم بجهاد الأعداء و علی الامّة أن يتبعوه- إلّا أنّ تعرّضه لعدم جواز الجهاد للنائب العامّ كالفقيه و لا معه و تفريع عدم جواز الجهاد مع الجائر علی هذا الشرط دليل علی أنّه قدّس سرّه ناظر إلی جهة نفي هذا الحقّ غيره و هو مقتضی اثنين من أدلته الثلاثة المذكورة فإنّ في الأوّل منها «إنّ القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام ...» فدلّ علی حرمة الجهاد مع غير الإمام العادل و هو ما قلناه. و في الثاني منها «لا غزو إلّا مع إمام عادل» فنفی صدق الغزو عمّا كان مع غير إمام عادل بل اشترط في صدقه أن يكون مع إمام عادل، و لعلّ ظاهره أنّ مشروعية الجهاد و جوازه منوط به، فتأمّل.

مضافا إلی أنّ قوله قدّس سرّه في ذيل كلامه: «الجهاد الّذي يعتبر فيه إذن الإمام و سائر الشروط إنّما هو الجهاد بالمعنی الأوّل» كالصريح في أنّ الجهاد- و لو بالمعنی الأوّل- مشروط بإذن الإمام، فلا محالة لا مجال معه مع انتفاء إذنه و هو المطلوب.

و بالجملة: فدلالة كلامه علی أنّ جواز الجهاد مشروط بإذن الإمام واضحة و قد ادّعی عليه الاتفاق في ذيل الكلام، و إلّا خلاف في صدره، و استظهر دعوی الإجماع عليه من العلّامة في المنتهی و ابن زهرة في الغنية. لكنّه خصّ هذا الاشتراط بالجهاد بمعناه الأوّل المذكور في كلامه- أعني جهاد المشركين و البغاة- و قال بعدم اشتراط الجهاد الدفاعي عن الكفّار بإذن الإمام، بل ربما يستظهر من كلامه دعوی الاتفاق عليه، و عليه فربما يستظهر من كلامه الأخير أنّ الجهاد لأهل الكتاب أيضا غير مشروط بإذنه لعدم دخوله في المعنی الأوّل، و الكلام يأتي فيه إن شاء اللّه تعالی.

                       

20- و قال صاحب الجواهر [المتوفّی سنة 1266 ه] في كتاب الجهاد من الجواهر- بعد استظهار أنّ الجهاد شرعا بذل النفس و ما يتوقّف عليه من المال في محاربة المشركين أو الباغين علی وجه مخصوص-: «و لكن لا ريب في أنّ الأصلي منه قتال الكفّار ابتداء علی الإسلام، و هو الّذي نزل فيه: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ و يلحق به قتال من دهم المسلمين منهم و إن كان هو مع ذلك دفاعا، و قتال الباغين ابتداء فضلا عن دفاعهم علی الرجوع إلی الحقّ- إلی أن قال:- الجهاد بالمعنی الأوّل و هو فرض علی كلّ مكلّف حرّ ذكر غير همّ و لا معذور ... نعم فرضه علی الكفاية بلا خلاف أجده فيه بيننا بل و لا غيرنا بل كاد يكون من الضروري فضلا عن كونه مجمعا عليه ....

و علی كلّ حال، فلا خلاف بيننا بل الإجماع بقسميه عليه في أنّه إنّما يجب علی الوجه المزبور بشرط وجود الإمام عليه السّلام و بسط يده أو من نصبه للجهاد و لو بتعميم ولايته له و لغيره في قطر من الأقطار، بل أصل مشروعيّته مشروط بذلك فضلا عن وجوبه- ثمّ ذكر أخبارا عديدة استدلّ بها علی اشتراط المشروعية به ثمّ قال:- إلی غير ذلك من النصوص الّتي مقتضاها كصريح الفتاوی عدم مشروعية الجهاد مع الجائر و غيره، بل في المسالك و غيرها عدم الاكتفاء بنائب الغيبة فلا يجوز له تولّيه، بل في الرياض نفی علم الخلاف فيه حاكيا له عن ظاهر المنتهی و صريح الغنية إلّا من أحمد في الأوّل، قال: و ظاهرهما الإجماع مضافا إلی النصوص المعتبرة وجود الإمام، لكن إن تمّ الإجماع المزبور فذاك، و إلّا أمكن المناقشة فيه بعموم ولاية الفقيه في زمن الغيبة الشاملة لذلك المعتضدة بعموم أدلّة الجهاد فترجّح علی غيرها- إلی أن قال شرحا لعبارة المتن:-

و قد تجب المحاربة علی وجه الدفع من دون وجود الإمام عليه السّلام و لا منصوبه، كأن يكون بين قوم يغشاهم عدوّ يخشی منه علی بيضة الإسلام، أو يريد الاستيلاء علی بلادهم أو أسرهم و أخذ مالهم، أو يكون بين أهل الحرب فضلا عن غيرهم‏

                       

و يغشاهم عدوّ يخشی منه علی نفسه فيساعدهم دفعا عن نفسه ... و لا يكون ذلك و نحوه جهادا بالمعنی الأخصّ الّذي يعتبر فيه الشرائط المزبورة- إلی أن قال:-

قلت: قد يقال بجريان الأحكام المزبورة عليه إذا كان مع إمام عادل عليه السّلام أو منصوبه و إن كان هو دفاعا أيضا، لكنّه مع ذلك هو جهاد كما وقع لرسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله لمّا دهمه المشركون إلی المدينة، و إطلاق المصنّف و غيره نفي الجهاد عنه إنّما هو مع عدم وجود الإمام العادل عليه السّلام و لا منصوبه، فهو حينئذ ليس إلّا دفاعا مستفادا من النصوص المزبورة و غيرها، بل هو كالضروري، بل ظاهر غير واحد كون الدفاع عن بيضة الإسلام مع هجوم العدوّ و لو في زمن الغيبة من الجهاد، لإطلاق الأدلّة، و اختصاص النواهي بالجهاد ابتداء للدعاء إلی الإسلام من دون إمام عادل عليه السّلام أو منصوبه، بخلاف المفروض الّذي هو من الجهاد من دون اشتراط حضور الإمام و لا منصوبه و لا إذنهما في زمان بسط اليد، و الأصل بقاؤه علی حاله. و احتمال عدم كونه جهادا حتّی في ذلك الوقت مخالف لإطلاق الأدلّة و إن كان قد يظهر من خبر يونس الآتي في المرابطة كون الجهاد هو الابتداء إلّا أنّه محمول علی إرادة كون ذلك الأكمل من أفراده، و إلّا فالجهاد أعمّ كما يشعر به تقسيمهم إيّاه إلی الابتداء و إليه» «1».

فحاصل كلامه: أنّ الجهاد الابتدائي للمشركين بل مطلق الكفّار في زمن حضور الإمام و بسط يده مفوّض إليه و جوازه مشروط بإذنه، بل لا يبعد إلحاق الجهاد الابتدائي أو الدفاعي للباغين به فإنّه أيضا داخل في تفسيره الأوّل للجهاد، و أمّا الدفاع عن الكفّار المهاجمين فهو واجب في زمان بسط يد الإمام و غيبته و هو مصداق للجهاد، لكن ليس في كلامه ما يدلّ علی اشتراط مشروعيّته زمن بسط اليد بإذنه، و قد ادّعی علی اشتراط إذنه في مشروعية الجهاد الابتدائي أنّ‏

                       

أخبارا كثيرة تدلّ عليه. نعم استظهر هو قدّس سرّه أنّه لو لم يكن إجماع لكان عموم ولاية الفقيه مقتضيا لأن يجوز له الجهاد الابتدائي أيضا.

هذه نبذة من كلمات علمائنا الأخيار قدّس سرّهم ممّن تعرّض لحكم الجهاد، و المتحصّل منها: أنّ الجهاد الابتدائي للكفّار منوط بإذن وليّ الأمر أو أمره و إن كان ظاهر عبارة بعض كصاحب الرياض التعرّض لخصوص المشركين، و قد نسبه إلی علمائنا أجمع في التذكرة و ادّعی عليه الإجماع في المسالك و اللاخلاف و الاتفاق في الرياض مستظهرا لدعوی الإجماع عن عبارة المنتهی. نعم جعل الجواز حقّا و مختصّا بما إذا كان وليّ الجهاد داعي حقّ و لا دلالة في كلام إصباح الشيعة علی شي‏ء من الاختصاص و عدمه أصلا.

و أمّا جهاد البغاة علی وليّ الأمر فمقتضی كلام أكثرهم القريب من الكلّ أنّه أيضا منوط بإذن الإمام و أمره و يأتي فيه دعوی الاتفاق و اللاخلاف عن الرياض و استظهاره لدعوی الإجماع عن المنتهی و الغنية، و قول بعضهم بهذا الاختصاص يستفاد من إطلاق عنوان الجهاد أو القتال الواقع في كلامهم كالمراسم و الشرائع و لم يتعرّض لحكمه المبسوط و إصباح الشيعة و الجامع للشرائع، كما أنّ العلّامة في التذكرة و الشهيد في الدروس إنّما تعرضا لأنّ من حقّ وليّ الأمر أن يقوم بجهاد البغاة و يدعو الناس إليه لكن لم يتعرّضا لاختصاص هذا الحق به.

و أمّا القتال لدفع هجمة الكفّار فمقتضی كلمات أكثرهم أنّه غير منوط بإذن الإمام و لا أمره. نعم إطلاق عبارة فقه القرآن بل الوسيلة يقتضي أنّه أيضا منوط بإذن وليّ الأمر كما لم يتعرّض لحكمه الجامع للشرائع.

و كلماتهم في قتال البغاة و أنّه مختصّ بإذن وليّ الأمر و مفوّض إليه مطلقة تقتضي عدم جواز بدار المسلمين أنفسهم حتّی فيما أوجب تأخير الأمر إلی إقدام وليّ الأمر وقوع ضرر مالي أو نفسي علی المسلمين أو جمع منهم أو تخريب بعض بلادهم أو أماكنهم.

                       

كما أنّ كلماتهم في جواز بل وجوب مبادرة المسلمين أنفسهم إلی دفع هجمة الكفّار بحسب إطلاقها تقتضي أن لا يجب إعلام وليّ الأمر أو منصوبه بهجوم الكفّار و لا بدفاع المسلمين لكي يتصدّی إدامة الأمر هو نفسه أو من يأمره.

إلّا أنّه سيأتي إن شاء اللّه تعالی أنّ مقتضی الأدلّة التامّة الدلالة أنّ المسلمين يجب عليهم القيام مقام دفع البغاة إذا أوجب تأخير الأمر إلی إعلام وليّ الأمر و إقدامه بالجهاد لهم ضررا ماليّا أو غير ماليّ علی بعض بلاد المسلمين أو نفوسهم أو أموالهم في عين أنّه يجب إعلام الأمر إلی وليّ الأمر حتّی يكون إدامة الأمر متحقّقة بأمره كما يريد.

كما أنّ مقتضی الأدلّة أنّه يجب في الجهاد الدفاعي عن هجمة الكفّار- في حين أنّ المسلمين أنفسهم يقومون بالدفاع عنهم و القتال لهم دفاعا- فيجب عليهم أيضا المبادرة فورا ففورا إلی إعلام الأمر لوليّ الأمر حتّی يكون إدامة الأمر عن أمره و رأيه.

و حيث إنّ الاطمئنان و العلم العادي حاصل بأنّ الفتاوی الّتي حكيناها عن الفقهاء العظام قدّس سرّهم مستنبطة عن مثل أو نفس الأدلّة الّتي يأتي ذكرها فليس في المصير إلی خلاف ما يقتضيه إطلاق كلماتهم بأس.

إذا عرفت ما ذكرنا نقول: إنّ البحث عن أنّ لوليّ أمر الامّة و إليه تصدّي أمر الجهاد يدور علی قطبين:

فتارة يبحث عن مجرّد ثبوت هذا الحقّ لهم، بمعنی أنّ من حقوق وليّ الأمر الثابتة له بمقتضی الإمامة العظمی و الولاية أنّ يقوم بأمر القتال ابتداء لدعوة الكفّار إلی الإسلام أو لدفع هجمة الكفّار علی بلاد الإسلام أو صدّ الباغين علی ولاية وليّ أمر الامّة من بين نفس رعايا الدولة، فله أن يقوم بأمر القتال و أن يدعو المسلمين إليه فيجب عليهم اتّباعه و إطاعته. فيبحث حينئذ عن هذه الجهة الثبوتية.

و اخری يبحث عن أنّه ليس لأفراد الامّة و الرعية القيام مستقلّا بأمر الجهاد

                       

الابتدائي و لا دفع هجمة الكفّار أو صدّ الباغين بل لا يجوز القيام بكلّ منها إلّا بأمره أو إذنه و تحت لواء ولايته، فيبحث حينئذ عن نفي هذا الحقّ عن غيره.

نعم، و يبحث في هذا القطب الثاني عن أنّه إذا كان تأخير دفع هجوم الكفّار أو تأخير القيام في وجه البغاة موجبا لوقوع ضرر علی كيان المسلمين أو بلادهم أو وقوع ضرر نفسي أو مالي علی المسلمين فيجوز بل يجب علی المسلمين القيام بدفع هجمة الكفّار و الباغين في حين أنّه يجب عليهم أيضا إعلام أمر هجوم الكفّار أو بغي البغاة إلی وليّ الأمر فورا ففورا لكي يتولّی هو أمر الدفاع بقاء.

و التحقيق الّذي لا مرية فيه أنّ مقتضی الأدلّة المعتبرة عموم ولاية وليّ الأمر لأمر الجهاد في كلتا جهتي الإثبات و النفي و وجوب استقلال المسلمين بالدفاع في الفرض المذكور في حين إقدامهم بإعلام الأمر إلی وليّ الأمر لكي يكون بقاء الدفاع تحت أمره.

و الاستدلال علی هذه الدعاوی من وجهين:

الوجه الأوّل: هو ذلك الوجه العامّ الّذي استندنا إليه في إثبات كثير من اختيارات وليّ الأمر، و هو أنّ نفس ولاية الأمر لأمّة يقتضي ذلك، و ذلك بالتوجّه إلی نكتتين:

الاولی: أنّه قد مرّت بالتفصيل دلالة أدلّة كثيرة معتبرة قطعية من الكتاب الشريف و السنّة المباركة المتواترة علی أنّ نبيّ الإسلام و الأئمّة المعصومين صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين قد جعلهم اللّه تعالی أولياء امور البلاد الإسلامية و الامّة المسلمة أو غير المسلمة ممّن يحقّ له شرعا أن يعيش في ظلّ هذه البلاد و تحت لواء هذه الولاية الإلهية، فكلّ منهم قد جعل له من اللّه تعالی الولاية و القيّمية و الراعية علی البلاد و الامّة.

و هذه الولاية و القيّمية ليست أمرا بدعيّا ليس له عند العقلاء عهد و سابقة، بل هو أمر معهود معروف عندهم، فإنّ لأهل كلّ مملكة من ممالك الأرض من له الولاية علی امورهم و امور بلادهم من جمع أو فرد هو ملك لهم أو رئيس جمهور

                       

و أمثاله. نعم الفرق المهمّ بين ما عند الناس و ما في الإسلام أن يعيّن هذا الجمع أو الفرد عند الناس أنفسهم إمّا بتعيين منهم و انتخاب علی الأنحاء المختلفة الدارجة بينهم و إمّا بقهر و غلبة سلاحية ابتداء أو دائما، فهذا فرق أصيل بين ولاية من يلي أمرهم عند أنفسهم و بين ولاية وليّ الأمر في الإسلام، فإنّ ولايته إنّما هي بنصب من اللّه تعالی، فقد نصبه اللّه و هو مالك كلّ أحد و شي‏ء، فلا حقّ و لا أيّ أمر آخر للناس علی وليّ الأمر من اللّه تعالی، و قد مرّ بيان ذلك.

إلّا أنّ هذا الفرق إنّما هو بحسب منشأ ثبوت منصب الولاية، و إلّا فأصل الولاية في الموردين أمر واحد بحسب الحقيقة.

ثمّ إنّ هذه الولاية الإلهية بمقتضی إطلاق أو عموم أدلّتها مطلقة متعلّقها كلّ ما كان مرتبطا بالرعية و بلادهم، و كلّ ما كان راجعا إلی الجماعة المسلمة أو غير المسلمة الّذين يعيشون تحت لواء هذه الولاية الإلهية لا يخرج عن دائرتها شي‏ء أصلا.

النكتة الثانية: أنّ من لوازم الولاية الّتي لا يعقل عند العقلاء انفكاكها عنها أن تكون إدارة امور الامّة من وظائف وليّ الأمر و مفوّضة إليه بحيث كان عليه أن يدبّر و يصل إلی التصميم اللازم و المناسب لإدارة امورهم و امور بلادهم و امور مملكتهم، فإن قصّر فيه فلم يدبّر أو لم يعمل بما رآه مصلحة فقد خان و كان مسئولا و معاقبا عند العقلاء الّذين عيّنوه وليّا، في حين أنّ التدبير و أخذ التصميم و العمل الصحيح مفوّض إليه و ليس لغيره من الرعايا أن يقوموا بإتيان هذه الأعمال و يستقلّوا في إدارة الامور إلّا أن يكونوا تحت لواء أمره أو إذنه.

و حينئذ من الواضح الّذي لا شبهة فيه أنّ أمر الحرب و الجهاد سواء كان بغاية توسيع حدود البلاد أو بغاية دفع هجمة الكفّار من خارجها علی بعض أقطارها أو بعض رعاياها أو بغاية إطفاء نار بغي من بغی علی ولايته و صار بصدد الخروج عن مقتضی إمارة هذه الولاية من البغاة الّذين هم أيضا من الرعايا، فأمر الجهاد في جميع هذه الموارد مفوّضة إليه، و عليه أن يقوم بكلّ منها مراعيا لمنتهی‏

                       

الشرائط اللازمة الرعاية و ليس لأحد و لا لجمع الاستقلال في القيام بشي‏ء منها.

نعم حيث إنّ كلّا من الأهداف المذكورة هدف مرغوب عند الرعية و هم يرون الدفاع عن بلادهم و جميع رعاياها لازمة و هكذا يرون إطفاء نار شرّ البغاة أيضا لازما فلو فرض غفلة وليّ الأمر أو عدم حضور قواه المسلحة فيهجم في قطر من البلاد عدوّ أو أثار نار البغي أحد أو جمع و كان تأخير الأمر إلی حضور قوی وليّ الأمر موجبا لتسلّط المهاجمين أو الباغين علی ناحية أو بلدة أو لقتل نفوس جمع من الرعايا أو ورد ضرر مالي عليهم أو علی بلادهم فعلی الرعية أنفسهم- للمنع عن حدوث هذه الحوادث المهمّة- أن يقوموا بالدفاع و يمنعوا عن إيراد أيّ فاجعة من المهاجمين في حين الإقدام السريع العاجل بإعلام الأمر لوليّ الأمر حتّی يكون هو المتصدّي لأمر الدفاع بقاء. و هكذا الأمر في إطفاء شرّ نار البغاة و بالحقيقة يكون الإقدام بالدفاع بمقدار الضرورة و بإعلام الأمر لوليّ الأمر جمعا بين الحقّين.

فبعد التوجّه إلی هاتين النكتتين تعترف بوضوح أنّ مقتضی الولاية المطلقة الإلهية و لا سيّما بعد ملاحظة وجوب الجهاد الابتدائي لدعوة الكفّار إلی الإسلام و وجوب دفع هجمة الكفّار أو صدّ الباغين فمقتضاها أن يكون أمر التصدّي للجهاد في الموارد الثلاثة من وظائف وليّ الأمر الإلهي و من اختياراته و ليس لغيره من الرعايا القيام بها إلّا بأمره أو إذنه إلّا في المورد المستثنی الّذي ذكرناه و هو دفع المهاجمين أو البغاة بالنحو الّذي بيّنّاه.

و ذلك لما عرفت أنّ هذا المعنی بحدوده إنّما هو مقتضی الولاية من غير فرق بين أن تكون ناشئة من الجهات المختلفة البشرية أو من النصب الإلهي، و الحمد للّه.

هذا هو الوجه الأوّل.

و أمّا الوجه الثاني: فهو أن يستدلّ للمطلوب بأدلّة خاصّة واردة في أمر الجهاد و هي آيات من الكتاب الكريم و روايات متعدّدة من السنّة المباركة.

 [الآيات الدالّة علی أنّ أمر الجهاد بيد وليّ الأمر]

أمّا الكتاب الكريم فالآيات الواردة فيه في أمر الجهاد كثيرة جدّا، و ما نذكر منها

                       

فهي انموذج من ذلك الكثير، فنقول: يمكن تقسيم هذه الآيات الشريفة علی طوائف:

الطائفة الاولی: ما وردت في حثّ المؤمنين علی الجهاد.

1- فقد قال اللّه تعالی: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلی‏ تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ «1».

فهذه الآيات المباركة تدعو إلی الإيمان باللّه و الرسول و إلی الجهاد بالأنفس في سبيل اللّه و تعدّها تجارة تنجي من العذاب و توجب غفران الذنوب و دخول الجنّة و مساكن طيبة، فالجهاد مرغوب فيه كمال الترغيب.

2- و قال تبارك و تعالی: إِنَّ اللَّهَ اشْتَری‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفی‏ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ «2».

فالآية الاولی أخبرت مؤكّدا أنّ اللّه تعالی قد اشتری من المؤمنين أنفسهم و هكذا أموالهم في مقابل أنّ لهم الجنّة، فبالنتيجة ليست أنفس المؤمنين ملكا لهم بل هي ملك اللّه تعالی فعليهم أن يقاتلوا في سبيله و لهم الجنّة و ليس أحد أو في بعهده من اللّه.

و ظاهر الآية الثانية انها عدّ لأوصاف هؤلاء المؤمنين فليبشّر المؤمنون. فهاتان الآيتان كالآيات السابقة دعوة إلی الجهاد في سبيل اللّه من دون تعيين لمن يحاربونه.

3- و قال تعالی: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ «3».

                       

فقد أمر اللّه تعالی المؤمنين بقتال الكفّار الّذين يلونهم بشدّة و غلظة، و الكفّار عامّة لجميع أنواع الكفرة.

4- و قال تبارك و تعالی: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1».

فقد أمر اللّه تعالی بأنّه بعد ما انقضت الأشهر الأربعة الّتي ذكرت أوّل السورة بقوله تعالی: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ «2» و الخطاب فيه للمشركين و أجّل اللّه تعالی للمشركين الّذين حجّوا تلك السنة- و هي السنة التاسعة من الهجرة- أربعة أشهر حتّی يرجعوا إلی مأمنهم فهم في مأمن في هذه البرهة من الزمان، و هذه الأربعة أشهر من الحادي عشر من ذي الحجّة إلی العاشر من الربيع الثاني علی ما في روايات متعدّدة، فإذا انسلخت الأربعة يجب قتل المشركين حيث وجدوا إلّا أن يؤمنوا، و يستثنی منهم ما ذكره اللّه تعالی بقوله: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلی‏ مُدَّتِهِمْ «3» و انضمام هذه الآية إلی آية الانسلاخ يدلّ علی وجوب قتل المشركين الّذين لم يعاهدوا إلی زمن نزول الآية أو عاهدوا أو نقضوا عهدهم، فالآيات دالّة علی وجوب قتال المشركين كافّة حتّی يكون الدين للّه تعالی.

5- و قال تعالی بعد عدد آخر من الآيات: أَ لا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ* وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلی‏ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ «4».

و هذه الآيات تأكيد في الأمر بمقاتلة المشركين كافّة الّذين مرّ الأمر

                       

بقتالهم و قتلهم في الآيات السابقة.

6- و قال تبارك و تعالی: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّی يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ «1».

و هذه الآية المباركة أمر بمقاتلة أهل الكتاب إلی أن يعطوا الجزية و هم صاغرون.

فانضمام جميع هذه الآيات يعطي وجوب قتال غير المسلمين، أهل كتاب كانوا أو غيرهم، و كانت غاية القتال لأهل الكتاب أن يسلموا أو يعطوا الجزية، و غاية قتال سائر الكفّار كالمشركين هو الإسلام.

و سيأتي في الطوائف الاخر أيضا ما يدلّ علی وجوب القتال، فانتظر.

لفت نظر توضيحي: إنّ الآيات الاول من التوبة- و لعلّها إلی العاشرة- نزلت في سنة التسع من الهجرة، و إنّ رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله لم يمنع المشركين الحجّ في سنة الفتح، فبعد نزول الآيات أرسل عليّا عليه السّلام يوم الحجّ الأكبر في السنة التاسعة بالبراءة و منع المشركين عن الحجّ و أوجب اللّه تعالی قتالهم و علی ما مرّ بيانه ذيل الآيات، و عليه فهذا الأمر بالقتال أمر بالجهاد الابتدائي للمشركين.

و حيث إنّ سورة التوبة مدنية كلّها فمن المحتمل جدّا أن تكون آية قتال أهل الكتاب أيضا نزلت في نفس تلك السنة، فلعلّ وجوب الجهاد الابتدائي كان قد شرع في هذه السنين الأخيرة، و لذلك قد ينقدح الإبهام في انعقاد الإطلاق في آيات الجهاد، إلّا أنّ من الواضح أنّ النبيّ الأكرم صلّی اللّه عليه و آله قد جاهد المشركين في السنين الاول من هجرته غزوة بدر و احد و الأحزاب الّتي هي غزوة الخندق و غزاها في شوّال في السنة الخامسة من الهجرة، فإن فرض إبهام من حيث زمان نزول آيات البراءة فإنّه لا ريب في أنّ آيات سورة الصفّ بل آيتي سورة التوبة اللتين نقلناهما بعد آيات الصفّ، و هكذا آية الأمر بقتال من يلي المسلمين من‏

                       

الكفّار و إن كانت من سورة التوبة، إلّا انها جميعا مطلقة تشمل كلّ جهاد و محاربة دفاعيا كان أو ابتدائيا، غاية الأمر أنّ الغزوات المتحقّقة في أوائل البعثة كانت في الغالب دفاعية إلّا انها لا توجب اختصاص المطلقات بخصوص الدفاعي بل تعمّ الابتدائي منه. نعم قد وقعت منه صلّی اللّه عليه و آله قبل نزول الآيات الاول من التوبة معاهدة ترك المحاربة مع المشركين و هذه الآيات قد أمرت بحفظ عهد الصلح بالنسبة لمن أوفی بعهده منهم إلی بلوغ غاية هذه المعاهدة و أوجبت قتال سائر المشركين بل و هؤلاء المعاهدين منهم بعد انقضاء مدّة عهدهم علی ما عرفت.

و بالجملة: فالقرآن المجيد كما عرفت نبذا من آياته المباركة يدلّ علی أنّ الجهاد أمر مرغوب فيه و يعمّ كلّا من نوعي الجهاد الدفاعي و الابتدائي علی ما مرّ من التفصيل، و سيأتي إن شاء اللّه توضيح لهذا المعنی عند ذكر الروايات.

نعم لعلّه لم يقع منه صلّی اللّه عليه و آله جهاد للبغاة من المسلمين كما سيأتي ذكر عنه في خبر الأسياف الخمسة إن شاء اللّه تعالی، إلّا أنّ هذا كلّه لا يمنع انعقاد الإطلاق للقتال الواقع في الآيات الشريفة بالنسبة له أيضا.

و بعبارة اخری: أنّ المأمور به و المدعوّ إليه في هذه الآيات هو الجهاد أو القتال في سبيل اللّه أو قتال الكفّار أو قتال أو قتل المشركين أو قتال أهل الكتاب، و كلّ من هذه العناوين صادق علی الجهاد الابتدائي و علی الجهاد الدفاعي عنهم إذا هجموا علی بلاد المسلمين و علی قتال أهل الذمّة فيما إذا بغوا علی وليّ الأمر، كما أنّ الجهاد في سبيل اللّه أو القتال فيه يعمّ قتال البغاة من الرعية المسلمة علی وليّ أمر الامّة، و عليه فجميع الأقسام المتصوّرة للقتال من الابتدائي و الدفاعي بقسميه مشمول هذه الآيات، و مجرّد تقسيمه في كلمات الأصحاب و عقد اصطلاح من بعضهم أحيانا علی عدم تسمية جهاد البغاة مثلا جهادا لا يمكن رفع اليد عن إطلاقها بعد صدق العناوين علی جميع الأقسام بلا ريبة و لا شبهة، و هكذا يكون الأمر في سائر الطوائف من الآيات، فكن علی بصيرة و تذكّر.

                       

الطائفة الثانية من الآيات: ما أمر اللّه فيها نبيّه صلّی اللّه عليه و آله بجهاد الكفّار.

1- فقال اللّه تعالی: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ* «1».

فقد أمر اللّه تعالی نبيّ الإسلام بجهاد الكفّار و المنافقين، و من الواضح أنّ جهادهم متوقّف علی إعداد جند و وسائل لازمة للهجوم عليهم و للمقاومة قبالهم من الأجهزة المختلفة بحسب الأزمنة و بحسب تقدّم الحادثة العلمية، فلا محالة أنّه صلّی اللّه عليه و آله هو المأمور بإعداد الجيش و تجهيزه بالمقدار اللازم، فتدلّ الآية المباركة علی ثبوت هذا الحقّ له و علی توجّه هذا التكليف إليه، و لازمه القهري أن يجب علی الرعية أيضا اتّباعه و إلّا لما كان إلی الإتيان بذلك المأمور به سبيل.

و حيث عرفت في الطائفة الاولی من الآيات دعوة المؤمنين كلّهم و أمرهم بالقتال و الجهاد في سبيل اللّه و بجهاد الكفّار فمع التوجّه إلی أنّ النبيّ الأعظم صلّی اللّه عليه و آله وليّ أمر الامّة فبانضمام هذه الآية إلی الآيات السابقة يستفاد بوضوح أنّ آيتنا هذه في مقام بيان وظيفة وليّ الأمر و أنّه يجب عليه إدارة أمر الجهاد و رئاسته بإعداد الجيش و أجهزته اللازمة، فهو صلّی اللّه عليه و آله مضافا إلی توجّه الدعوة و الأمر الوارد بالجهاد في الطائفة الاولی من الآيات إليه قد وجّه إليه أمر خاصّ آخر هو أنّه الموظّف بإعداد الجند و تجهيزه و تصدّي أمر الجهاد بالنحو الأصلح.

بل لا ينبغي الريب أنّه بعد ما كان المعهود عند العقلاء أنفسهم أنّ أمر الجهاد إلی وليّ الأمر في كلّ أمّة فلا ينبغي الريب في انهم بهذا الارتكاز يفهمون من الأمر الوارد في هذه الآية أنّ اللّه تبارك و تعالی بأمره هذا يكون بصدد إعلام أنّ أمر الجهاد في شريعة الإسلام مفوّض إلی النبيّ صلّی اللّه عليه و آله بما أنّه وليّ الأمر، فأمر الجهاد يكون مفوّضا إليه ليس لأحد و لا لجمع غيره كما أنّه في عين الحال موظّف به و مكلّف به.

و بعد ذلك فلمّا كان مقام ولاية الامّة ثابتة من اللّه تعالی بعده صلّی اللّه عليه و آله للأئمّة

                       

المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين لكلّ في زمانه الخاصّ به فالمستفاد من الآية أنّ هذا التوظيف أو التفويض إلی الرسول إنّما كان بما أنّه وليّ أمر الامّة، فلا محالة يثبت بعينه للأئمّة المعصومين عليهم السّلام أيضا.

بل المتأمّل الدقيق يفهم من هذه الآية منضمّة إلی آيات الطائفة الاولی أنّ هذا التوظيف و التفويض تحليل و تبيين للولاية الإلهية الإسلامية فيثبت لمن كان وليّ أمر الامّة في زمان الغيبة أيضا، و التفصيل موكول إلی محلّه إن شاء اللّه تعالی.

2- و قال تبارك و تعالی: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَی الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ* الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ «1».

ففي هذه الآيات ظاهر الآية الثانية و الثالثة أمر للنبيّ صلّی اللّه عليه و آله بتحريض المؤمنين علی القتال بالنحو المذكور فيهما، و تحريض المؤمنين علی القتال عبارة اخری عن إعداد الجند و أمرهم بالحضور في الصفّ الحرب بالكيفية المذكورة، و هو عبارة اخری عن تصدّي أمر القتال، فمفاد هاتين الآيتين أيضا أمر له صلّی اللّه عليه و آله بقتال من يجب قتاله، و لا يبعد أن تكون الآية الاولی من هذه الآيات تمهيدا لأمر القتال المأمور به في الآيتين الاخريين بأنّ اللّه و من يتبعك بحسب إيمانهم و إسلامهم كافوك فعليك قتال الكفّار مثلا بهم و اللّه من ورائك و المؤمنون معك.

و ممّا ذكرنا تعرف دلالة هذه الآيات أيضا علی أنّ النبيّ و الأئمّة عليهم صلوات اللّه مكلّفون بالقتال و هو مفوّض إليهم لا مجال لاستقلال غيرهم به كما مرّ بيانه في الآية السابقة فتذكّر.

                       

3- و قال تبارك و تعالی: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَی اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ اللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلًا «1».

و الخطاب فيها كما تری إلی الرسول صلّی اللّه عليه و آله أمر نفسه بالمقاتلة للّذين كفروا و بتحريض المؤمنين عليها، و عقّبه تعالی بأنّ المرجوّ أن يكفّ اللّه الّذي هو أشدّ بأسا و أشدّ تنكيلا بأس الّذين كفروا. فبالجملة ففيها أمر بالقتال و بإدارة أمره بتحريض المؤمنين، فمفادها قريب من مفاد الآيات الثلاث السابقة فهي أيضا تدلّ علی أنّ وليّ الأمر مكلّف بالقتال و بإدارة أمره و أنّ القتال مفوّض إليه لا غير.

و قد يستشكل دلالة هذه الآية نظرا إلی بعض الروايات الواردة ذيلها، فقد روی الكليني قدّس سرّه في الروضة من الكافي بسند- ليس فيه من يتأمّل في وثاقته إلّا علي بن حديد- عن مرازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ رجلا أتی رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله- فذكر حديثا عنه صلّی اللّه عليه و آله و فيه:- ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّ اللّه كلّف رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله ما لم يكلّفه أحدا من خلقه، كلّفه أن يخرج علی الناس كلّهم وحده بنفسه إن لم يجد فئة تقاتل معه و لم يكلّف هذا أحدا من خلقه قبله و لا بعده، ثمّ تلا هذه الآية:

فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ... الحديث «2».

و روی العيّاشي أيضا عن سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام قول الناس لعليّ عليه السّلام: إن كان له حقّ فما منعه أن يقوم به؟ قال: فقال: إنّ اللّه لا يكلّف هذا الإنسان واحدا إلّا رسول اللّه [و في نسخة البرهان عنه هنا: ... هذا إلّا إنسانا واحدا رسول اللّه‏] صلّی اللّه عليه و آله؛ قال: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ فليس هذا إلّا للرسول، و قال لغيره: إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلی‏ فِئَةٍ فلم يكن يومئذ فئة يعينونه علی أمره «3».

                       

و قريب منها روايات اخر، فراجع تفسير العيّاشي و البرهان «1».

فيقال- بعد ملاحظة الروايات-: إنّ الآية المباركة إنّما كانت في مقام ذكر هذا التكليف الاختصاصي للنبيّ صلّی اللّه عليه و آله و لا مجال حينئذ لاستفادة ما ذكرناه منها.

لكنّ المتأمّل يعلم أنّه لا منافاة بين هذا المذكور في هذه الأخبار و بين ما ذكرناه، و ذلك أنّ ما ذكر في هذه الأخبار إنّما هو بحسب الدقّة أخذا و تصريحا بما تدلّ عليه الآية المباركة بحسب الإطلاق، فهو صلّی اللّه عليه و آله مأمور بالقتال مطلقا و مأمور أيضا بتحريض المؤمنين به و الجمع بينه و بين ما دلّ علی وجوب القتال علی المؤمنين أيضا يقتضي أن يستفاد أنّ عليه صلّی اللّه عليه و آله تحريض الناس أيضا، فلا محالة أمر الحرب مفوّض إليه كما ذكرنا.

4- و قال تبارك و تعالی: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ* فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. «2»

فالآيتان الأوّلتان تبيين لأنّ هؤلاء الكفّار الّذين لم يؤمنوا و لم يفوا بعهدهم في كلّ مرّة دوابّ و هم عند اللّه شرّ الدوابّ. و الآية الثالثة متكفلة لأنهم يمكن أن يثقفوا في الحرب- و الثقف و إن كان في الأصل بمعنی إدراك الشي‏ء بحذق في النظر إلّا أنّه كما في مفردات الراغب استعمل كثيرا في مجرّد إدراكه و منه الآية- فالآية حينئذ تقول إنّك إن تدرك هؤلاء الكفّار في الحرب فقاتلهم شديدا يوجب تشريد من خلفهم من الكفّار ممّن هو مثلهم و انفتات جمعهم بالمرّة.

فالآية الثالثة أمرته بتشديد القتال لهؤلاء الكفّار، و أمره صلّی اللّه عليه و آله بذلك بالخصوص مع أنّ المؤمنين كلّهم مدعوون إلی القتال مأمورون به- علی ما عرفت نبذا من أدلّته في الطائفة الاولی من الآيات- يكون أمرا له بما أنّه وليّ أمر الامّة، فلا

                       

محالة يكون فيه دلالة قوية علی أنّ أمر القتال و أهدافه مفوّض إلی وليّ الأمر و هو مكلّف به زائدا عمّا يكلّف به سائر المؤمنين، و هكذا كلّ وليّ أمر كما مرّ بيانه.

و يلحق بهذه الطائفة الطائفة الثالثة من الآيات و هي ما تدلّ علی أنّه صلّی اللّه عليه و آله كان عاملا بالأوامر المذكورة في الطائفة الثانية من الآيات فكان متصدّيا لأمر القتال و تنظيم المعركة و الأمر بحضور المؤمنين و مرجعا لاستئذان من كان له عذر أو يبدي عذرا عن الحضور في الجهاد:

1- فقد قال اللّه تبارك و تعالی: وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَ اللَّهُ وَلِيُّهُما وَ عَلَی اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ* وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ* بَلی‏ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ «1».

فالآية الاولی الواردة في حرب احد- بظاهرها- تحكي أنّه صلّی اللّه عليه و آله كان يعيّن مقعد كلّ من أعضاء الجند للقتال و هو لا محالة في معركة الحرب، و هذا عبارة اخری عن تنظيم معركة الحرب و مصداق للائتمار بالأوامر المذكورة في الطائفة الثانية. و في صحيحة أبي بصير المروية في تفسير القمّي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

كان سبب نزول هذه الآية أنّ قريشا خرجت من مكّة تريد حرب رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله فخرج يبغي موضعا للقتال «2»، فقد فسّر عليه السّلام تبوئة المقاعد للقتال بابتغاء الموضع المناسب للقتال، لا بتعيين محلّ المجاهدين، إلّا أنّه كما تری أيضا تصدّی إمارة الحرب فلا ينبغي الريب في أنّ هذه الآية ائتمار للأوامر الواردة في الطائفة الاولی، كما أنّ الآية الرابعة تحكي أنّه صلّی اللّه عليه و آله قد تصدّی في حرب بدر تقوية

                       

روحيّات المجاهدين بأنّ اللّه تعالی يمدّكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ثمّ بخمسة آلاف اخری أن يصبر أعضاء الجند و يتّقوا، و هذا كلّه تصدّيه لأمر القتال و امتثاله لتلك الأوامر.

3- و قال اللّه تعالی- مخاطبا لنبيّه في من استأذنه أن لا يخرج معه إلی غزوة تبوك الواقعة سنة 9 من الهجرة-: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ* إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ* وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ* ... وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ «1».

فالآيتان الاوليان كالرابعة تعرض كلّ واحدة منها للاستئذان منه لعدم الخروج إلی غزوة تبوك، و واضح عرفا أنّ الاستئذان له إنّما يكون إذا كان بيده أمر القتال فيأمر من يريد و يراه لازما بالخروج إليه و يأذن لمن رأی جواز عدم خروجه بأن لا يخرج، فهو دليل علی ائتماره صلّی اللّه عليه و آله بأوامر اللّه المذكورة و كون أمر الجهاد و الحرب بيده.

4- و قال تبارك و تعالی في الطائفة الثانية ممّن استأذنوه لعدم الخروج إلی تبوك و كانوا منافقين و لم يؤمنوا باللّه و اليوم الآخر فثبّطهم اللّه و خلّفهم في المدينة فقال فيهم: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلی‏ طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ «2».

فإذا رجع الرسول و المؤمنون من غزوة تبوك فربما احتمل مجي‏ء هؤلاء المستأذنون المخلفون عن تلك الغزوة و استئذانهم لرسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله أن يأذن لهم في الخروج معه إلی الحروب الآتية فأنزل اللّه تعالی علی رسوله ما يجب أن يفعله بعد استئذانهم المحتمل الآتي، فعليه أن يقول لهم: إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ.

                        

هذه ترجمة و توضيح للمراد من هذه الآية، و في فرضها للاستئذان بعد ذلك أيضا منه صلّی اللّه عليه و آله دلالة واضحة علی أنّه كان إليه أمر الحرب خارجا و كان مؤتمرا بأوامر اللّه تعالی الماضية كما عرفت.

5- و قال تبارك و تعالی: وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَ جاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَ قالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ «1».

فالإتيان فيها باستئذان اولی الطول له صلّی اللّه عليه و آله حتّی يأذن له أن يتخلّف عن ذلك الجهاد الّذي انزلت فيها سورة دليل علی أنّه كان إليه أمر الجهاد خارجا.

2- و قال اللّه تعالی في أمر غزوة الأحزاب- الواقعة سنة 5 من الهجرة- حين اشتدّ الحرب، فيذكر اللّه تعالی الحوادث الواقعة حينه: وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً* وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً «2».

ففي هذه الغزوة أيضا كان المنافقون الّذين يريدون الفرار عن الحرب كانوا يأتونه فيستأذنونه في أن يقعدوا عن الحرب، و الاستيذان عنه لا يكون إلّا إذا كان بيده تمام أمر الحرب و الجهاد، فتدلّ هذه الآية الشريفة أيضا علی ائتماره صلّی اللّه عليه و آله بتلك الأوامر الّتي حكيناها في الطائفة الاولی من الآيات الشريفة.

هذه نبذة من آيات الاستيذان منه صلّی اللّه عليه و آله، و في القرآن الشريف آيات اخر واردة في مسألة الاستيذان و دالّة علی أنّ أمر الحرب كان بيده، فراجع.

فهذه الطائفة من الآيات فيها دلالة تامّة علی أنّه صلّی اللّه عليه و آله قد امتثل أمر اللّه تعالی و أخذ بيده تمام أمر الحرب و الجهاد.

الطائفة الرابعة من الآيات: ما تدلّ علی وجوب اتّباع الامّة للدعوة إلی القتال فتدلّ علی ثبوت هذه الوظيفة للناس و انها واجبة عليهم كأحد الواجبات الاخر

                       

و علی ثبوت حقّ إمارة القتال و تصدّيه لوليّ أمر الامّة حتّی أوجبت دعوته للناس إليه وجوب جواب ثبت لهذا الدعاء، و هذا المعنی مطابق و تأكيد لما مرّ من أنّ نفس ثبوت حقّ الدعوة إلی الجهاد لوليّ الأمر يقتضي وجوب اتّباع الناس المولّی عليهم المدعوّين له و وجوب حضورهم في معركة الجهاد.

1- فقد قال اللّه تعالی: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَی الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ* إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اللَّهُ عَلی‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ* إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلی‏ وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ «1».

فالآية الاولی من هذه الآيات الخمس في مقام توبيخ المؤمنين الّذين إذا قيل لهم انفروا إلی الجهاد في سبيل اللّه اثّاقلوا إلی الأرض و لم ينفروا سريعا و بلا تثاقل، فتدلّ علی وجوب اتّباع الأمر بالنفر في سبيل اللّه.

و الآية الثانية تصرّح بتعلّق عذاب أليم بمن لم يمتثل الأمر بالنفر و لم ينفر عقيبه، فهي دليل آخر علی وجوب امتثال الأمر بالنفر.

و الآية الثالثة قرينة واضحة علی أنّ الأمر بالنفر كان من ناحية رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و لذا كان عدم النفر به ترك نصره، فقال اللّه تعالی: إنّ اللّه تعالی ينصره الآن كما نصره أوائل البعثة إذ أخرجه الّذين كفروا من مكّة فنصره اللّه تعالی إذ ذاك و أنزل‏

                       

سكينته عليه و أيّده بجنود لم يرها الناس.

و بعد هذه التأكيدات المتتالية فالآية الرابعة أخذت الأمر ثانيا من الأوّل و أمر الناس بالنفر خفافا و ثقالا للجهاد و بالجهاد في سبيل اللّه بالأموال و الأنفس، و هذا الأمر الثاني كتكرار للأمر الأوّل بالنفر، و ظاهره الوجوب بلا شبهة لا سيّما بعد تلك القرائن المتقدّمة، و الخفاف و الثقال جمعان للخفيف و الثقيل و لا يبعد- كما أفاده سيّدنا الاستاذ العلّامة الطباطبائي قدّس سرّه في الميزان- أن يكون الثقل بقرينة المقام كناية عن وجود الموانع الشاغلة الصارفة للإنسان عن الخروج إلی الجهاد نظير كثرة المشاغل المالية و حبّ الأهل و الولد و الأقرباء و الأصدقاء الّذي يوجب كراهة مفارقتهم و فقد الزاد و الراحلة و نحو ذلك، فالأمر بالنفر خفافا و ثقالا و هما حالان متقابلان في معنی الأمر بالخروج علی أيّ حال و عدم اتّخاذ شي‏ء من ذلك عذرا يعتذر به لترك الخروج «1».

و منه تعرف أنّ الثقال لا يراد به الصفات الموجبة لسقوط وجوب النفر إلی الجهاد الّتي ذكرت في قوله تعالی: لَيْسَ عَلَی الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَی الْمَرْضی‏ وَ لا عَلَی الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَی الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «2» حتّی تكون بينهما منافاة فيقال بأن آيتنا منسوخة بتلك الآية كما حكي عن السدّي، بل المراد به هي تلك الامور الشاغلة الموجبة لثقل النفر إلی الجهاد و لا يحدث معها بنفسها أيّ مانع. نعم إنّ إطلاق وجوب النفر كإطلاقات وجوب القتال يعمّ من كان له أحد تلك الموانع فيقيّد بالأدلّة المرخّصة كما لا يخفی. هذا كلّه حول الآية الرابعة.

و أمّا الآية الخامسة فهي أيضا تأكيد لوجوب النفر بعد الأمر به و إن بعد مسير هذه الغزوة- الّتي يقال إنّها غزوة تبوك الّتي كانت مع جند ملك الروم- أوجب تثاقل من تثاقل و أظهر أعذارا غير واقعية و لا مسموعة. و قوله تعالی فيها:

                       

 «لا تبعوك» دليل آخر علی أنّ الأمر بالنفر كان من ناحية النبيّ صلّی اللّه عليه و آله.

فهذه الآيات تدلّ بوضوح علی وجوب امتثال أمر وليّ الأمر بالنفر إلی الجهاد و مورد نزولها و إن كانت غزوة تبوك، إلّا أنّه لا يضرّ بإطلاقها الواضح الّذي جعل تمام موضوع وجوب النفر هو أمر وليّ الأمر بالنفر كما لا يخفی.

ثمّ إنّ الأمر المذكور في هذه الآيات و إن كان منشأ من النبيّ الأعظم صلّی اللّه عليه و آله إلّا أنّه لا ريب في عدم اختصاص وجوب النفر عقيبه بخصوص شخصه، بل بعد أن كان هو صلّی اللّه عليه و آله بنصّ القرآن الشريف و الأدلّة الكثيرة الاخری وليّ أمر أمّة الإسلام فلا محالة لا يری العقلاء لشخصه خصوصية و يفهمون من الآيات تعميم الحكم المذكور بالنسبة إلی غيره من أولياء الأمر كما لا يخفی.

2- و قال اللّه تعالی: وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَی الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ* وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ* الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «1».

و في مجمع البيان: «الجمعان جمع المسلمين و جمع المشركين يعني يوم احد» «2». و واضح أنّ الآية الاولی إشارة إلی ما أصاب المؤمنين في غزوة احد، فبيّن اللّه تعالی أنّه كان بإذن اللّه و أنّ من جملة غاياته أن يميّز اللّه تعالی المؤمنين و المنافقين. و أوضح أنّ المراد بالمنافقين هم الّذين وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا عن حريمكم و أنفسكم فاعتذروا بانهم لا يعلمون القتال و قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ، فاللّه تعالی يوبّخهم علی هذه المقالة بأنّ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ و في هذا التوبيخ دلالة واضحة علی حرمة فعلهم و تركهم للعمل بأمرهم بالقتال، فإنّه عدل للكفر، و حيث إنّ الأمر بالقتال‏

                       

المذكور في قوله تعالی: وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا أمر بالحضور للقتال من ناحية نبيّ اللّه وليّ أمر المسلمين فالآية المباركة تدلّ بالوضوح علی أنّ عدم الامتثال له و الاعتذار بتلك الإظهارات السيّئة معصية و عدل للكفر، و هو عبارة اخری عن وجوب اتّباع أمر وليّ أمر الإسلام، و مورده و إن كان النبيّ الأعظم صلّی اللّه عليه و آله إلّا أنّه لمّا كان بنصّ القرآن الكريم وليّ أمر المسلمين يفهم العقلاء أنّ الحكم هو ذلك في غيره من اولي أمر الإسلام و المسلمين.

3- و قال اللّه تعالی: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ* الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ «1».

قال في مجمع البيان ذيل هذه الآيات: لمّا انصرف أبو سفيان و أصحابه من احد فبلغوا الروحاء ندموا علی انصرافهم عن المسلمين و تلاوموا فقالوا: «لا محمّدا قتلتم و لا الكواعب أردفتم قتلتموهم حتّی إذ لم يبق منهم إلّا الشريد تركتموهم فارجعوا فاستأصلوهم». فبلغ ذلك الخبر رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله فأراد أن يرهب العدوّ و يريهم من نفسه و أصحابه قوّة، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان؛ فقال:

ألا عصابة تشدّد لأمر اللّه تطلب عدوّها فإنّها أنكأ للعدوّ و أبعد للسمع، فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من القراح و الجراح الّذي أصابهم يوم احد، و نادی منادي رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله: ألا لا يخرجنّ معنا أحد إلّا من حضر يومنا بالأمس، و إنّما خرج رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله ليرهب العدوّ و ليبلغهم أنّه خرج في طلبهم فيظنّوا به قوّة و أنّ الّذي أصابهم لم يوهنهم من عدوّهم فينصرفوا، فخرج في سبعين رجلا حتّی بلغ حمراء الأسد و هي من المدينة علی ثمانية أميال.- ثمّ ذكر ما حاصله: أنّ رجلا ذهب بعد ما رأی النبيّ و أصحابه إلی أبي سفيان و خوّفهم بما فعله المسلمون فقال:-

                       

و انصرف أبو سفيان إلی مكّة و مرّ الركب [من عبد قيس‏] برسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و هو بحمراء الأسد فأخبره بقول أبي سفيان: [إنّا قد أجمعنا الكرة عليه و علی أصحابه لنستأصل بقيّتهم‏] فقال رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله: حسبنا اللّه و نعم الوكيل، ثمّ انصرف رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله إلی المدينة بعد الثالثة ... و هذا قول أكثر المفسّرين.

و قال مجاهد و عكرمة: نزلت هذه الآيات في غزوة بدر الصغری، و ذلك أنّ أبا سفيان قال يوم احد حين أراد أن ينصرف: يا محمّد موعد ما بيننا و بينك موسم بدر الصغری القابل إن شئت، فقال له رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله: ذلك بيننا و بينك- ثمّ ذكر ما حاصله: أنّ أبا سفيان رجع عن وعده و النبيّ و أصحابه عملوا به فأقاموا ببدر و لم يلقوا أبا سفيان و لا أصحابه و انصرفوا إلی المدينة سالمين، ثمّ قال:- و قد روی ذلك أبو الجارود عن الباقر عليه السّلام «1».

فأيّ من شأني النزول كان فظاهر دعوة الرسول و مناديه انها دعوة إلی القتال، و مفروض الآية الاولی أنّ الّذين استجابوا لهذه الدعوة قد أصابهم القرح، و هذا القرح بحسب كلا الاحتمالين هو قرح غزوة احد، فالآيات الشريفة نزلت في تجليل هؤلاء المسلمين حيث أجابوا دعوة الرسول، و من الواضح أنّ الاتيان فيها باللّه تعالی في قوله: «الّذين استجابوا اللّه و للرسول» إنّما اريد به تكريم الرسول الأعظم صلّی اللّه عليه و آله بأنّ كلّ ما يأمر به فإنّما هو في مقام العمل بما يحبّ اللّه و يريد لا أنّه ليس من الرسول أمر. و عليه فدلالة الآيات علی استحسان اجابة الرسول بيّنة و إن كان الإنصاف أنّه لا دلالة فيها بنفسها علی خصوص الوجوب إلّا أنّه لا ينافيه أيضا، و قد مرّت الدلالة علی وجوب الاستجابة في الآيات السالفة.

ثمّ إنّه قد روی العيّاشي في تفسير هذه الآيات أخبارا لا دلالة فيها علی أنّ الآيات نزلت في إجابة الدعوة إلی القتال «2».

                       

نعم عن مناقب ابن شهر آشوب عن ابن عبّاس و أبي رافع و أيضا عن خصوص أبي رافع ما ينطبق علی ما نقله المجمع عن أكثر المفسّرين «1».

و في تفسير البرهان أنّه روی من طريق الجمهور أنّها نزلت في عليّ عليه السّلام حيث وجّهه النبيّ في نفر في طلب أبي سفيان «2». هذا.

و قد يمكن أن يقال بإشعار آيات الاستيذان في ترك الخروج إلی القتال بأنّ أذهان المسلمين قد ارتكزت علی وجوب الحضور في صفّ القتال إلّا لمن كان له عذر و أذن له الرسول صلّی اللّه عليه و آله، و مآل هذا إلی انعقاد ارتكازهم علی وجوب امتثال دعوته و أمره بالقتال.

و هنا آيات اخر دالّة علی لزوم اتّباع أمره يقف عليها المتتبّع المتأمّل، بل الأمر في سائر الطوائف من الآيات أيضا كذلك، فما نقلناها في كلّ من الطوائف إنّما كانت نموذجا و الحمد للّه.

این مورد را ارزیابی کنید
(0 رای‌ها)
محتوای بیشتر در این بخش: « قسمت 13 قسمت 15 »

پیام هفته

همکاری با نفوذیان خائن و اختلاس‌گران بی دین
قرآن : لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ کامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (سوره نحل، آیه 52)ترجمه: تا روز قیامت بار گناهان خود را تمام بردارند ، و [ نیز ] بخشی از بار گناهان کسانی را که ندانسته آنان را گمراه می کنند. آگاه باشید ، چه بد باری را می کشند.حدیث: و ایما داع دعی الی ضلالة فاتبع علیه، فان علیه مثل اوزار من اتبعه، من غیر ان ینقص من اوزارهم شیئا!: (مجمع‌البیان، ج6، ص 365)ترجمه: ... و هر کس دعوت به ضلالت کند و از او پیروی کنند همانند کیفر پیروانش را خواهد داشت، بی آنکه از کیفر آنها کاسته شود.

ادامه مطلب

موسسه صراط مبین

نشانی : ایران - قم
صندوق پستی: 1516-37195
تلفن: 5-32906404 25 98+
پست الکترونیکی: این آدرس ایمیل توسط spambots حفاظت می شود. برای دیدن شما نیاز به جاوا اسکریپت دارید