قسمت 15

فتحصّل: أنّ المستفاد من القرآن الكريم وجوب القتال على المسلمين و أنّ أمره مفوّض إلى وليّ الأمر و ليس لغيره الاستقلال به، و أنّ على الناس وجوب اتّباع أمره.

نعم مقتضى إطلاق الآيات استواء جميع أقسام القتال في ذلك و أنّ القتال الدفاعي أيضا مفوّض إلى وليّ الأمر و إطلاقها مقتض لعدم جواز المبادرة بلا إذن منه إلى الدفاع و لو كان تأخيره موجبا لوقوع ضرر على البلاد الإسلامية أو حدوث ضرر مالي أو نفسي بالنسبة إلى الامّة. اللّهمّ إلّا أن يدّعى انصرافها إلى الموارد المتعارفة من اطلاع وليّ الأمر عن هجوم المهاجمين أو البغاة و قدرته على القيام بالدفاع، فلو لم يطّلع أو لم تكن القوى المسلحة الدافعة حاضرة في الناحية المحتاجة للدفاع فهذه الآيات منصرفة عنه، و لا محالة مقتضى أدلّة وجوب القتال في سبيل اللّه الشامل بإطلاقه للجهاد الدفاعي وجوب مبادرة

                       

الرعية أنفسهم بالقتال في عين إقدامهم السريع على إعلام الأمر لوليّ الأمر كما مرّ.

هذا خلاصة الكلام في الآيات الشريفة.

 [الأخبار الدالّة على أنّ أمر الجهاد بيد وليّ الأمر]

و أمّا السنّة المباركة فما يدلّ منها على أنّ أمر الجهاد إلى وليّ الأمر روايات متعدّدة و هي تنقسم إلى قسمين: فقسم منها يدلّ على تفويض أمر الجهاد إلى وليّ الأمر فله الدعوة إليه متى شاء و يجب على الامّة اتّباعه و ليس لغيره الاستقلال به بلا إذن منه و لا أمر.

و قسم آخر إنّما يدلّ على ثبوت أمر الدعوة إلى الجهاد له من دون دلالة على نفي حقّ الاستقلال في القيام به عن غيره.

أمّا القسم الأوّل فأخبار متعدّدة:

1- منها ما في صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- في حديث طويل وارد في قصّة دعوة جمع ممّن اجتمع و بايع محمّد بن عبد اللّه ابن الحسن له عليه السّلام أيضا إلى بيعته- قال لهم: يا عمرو اتّق اللّه و أنتم أيّها الرهط فاتّقوا اللّه فإنّ أبي حدّثني- و كان خير أهل الأرض و أعلمهم بكتاب اللّه و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله- أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من ضرب الناس بسيفه و دعاهم إلى نفسه و في المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلّف «1».

بيان دلالته: أنّ صدر الرواية متضمّن لنقل أنّ محمّد بن عبد اللّه بن الحسن الّذي بايعوه كان بصدد القيام و القتال في وجه الدول الجائرة داعيا للناس إلى نفسه، و قد سأل الإمام عليه السّلام عن حكم اللّه إذا غلبوا على الكفّار فكانوا لا يعلمونه فبعد ذلك قال لهم هذه المقالة، و عليه فالمراد بضرب الناس بالسيف و دعوتهم إلى النفس هو مثل ما كان يصدر عن محمّد بن عبد اللّه المذكور.

و يكون الإمام عليه السّلام بنقله لكلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مقام تخطئتهم مع أنّه مع قطع النظر عن الصدر فنفس العبارات أيضا ظاهرة في ذلك المعنى، فإنّ ضرب‏

                       

الناس بالسيف و دعوتهم إلى النفس لا معنى له إلّا القتال الّذي يأتي به أولياء امور الناس ليدخل الناس تحت ولايتهم و زعامتهم، و كيف كان فقد نصّ الحديث على منع هذا القتال لغير من هو أعلم الناس بحكم اللّه تعالى، و مفهومه الواضح جوازه لمن هو أعلم الناس، فالصحيحة متكفّلة لكلتا جهتي النفي و الإثبات.

و من الواضح أنّ أعلم الناس بحكم اللّه تعالى هو الرسول الأعظم و الأئمّة المعصومون صلوات اللّه عليهم الّذين قد مرّت دلالة الأدلّة القطعية من الكتاب و السنّة على أنّهم عليهم السّلام أولياء أمر الناس كلّ في زمانه، فالصحيحة تامّة الدلالة على تفويض أمر الجهاد إليهم و عدم جوازه لغيرهم إلّا تحت لوائهم و بأمرهم أو إذنهم.

ثمّ إنّ ضرب الناس بالسيف للدعوة إلى الناس يشمل الجهاد الابتدائي و هو واضح، و هكذا الجهاد بغاية دفع الكفّار الّذين هجموا على البلاد الإسلامية أو البغاة من الرعية، فإنّ الغاية من جميعها أن يدخل الناس تحت لواء ولاية وليّ الأمر حيث إنّ ولاية أمر الوليّ أمر جعله اللّه تعالى له بغاية وصول الناس إلى الخيرات و ابتعادهم عن الشرور.

فالصحيحة تامّة الدلالة على إثبات جميع جوانب المطلوب.

2- و منها صحيحة عبد اللّه بن المغيرة قال: قال محمّد بن عبد اللّه للرضا عليه السّلام و أنا أسمع: حدّثني أبي عن أهل بيته عن آبائه عليهم السّلام أنّه قال لبعضهم [له بعضهم- خ الوسائل‏]: إنّ في بلادنا موضع رباط يقال له: قزوين، و عدوّا يقال له: الديلم، فهل من جهاد أو هل من رباط؟ فقال: عليكم بهذا البيت فحجّوه، فأعاد عليه الحديث، فقال: عليكم بهذا البيت فحجّوه، أما يرضى أحدكم أن يكون في بيته ينفق على عياله من طوله ينتظر أمرنا؟ فإن أدركه كان كمن شهد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بدرا، و إن مات منتظرا لأمرنا كان كمن كان مع قائمنا عليه السّلام هكذا في فسطاطه- و جمع بين السبّابتين- و لا أقول: هكذا- و جمع بين السبّابة و الوسطى- فإنّ هذه‏

                       

أطول من هذه، فقال أبو الحسن عليه السّلام: صدق «1».

و سند الحديث معتبر صحيح و ذلك أنّ محمّد بن عبد اللّه المذكور و أباه و إن كانا غير معلومين و لعلّه ابن عبد اللّه الأفطح إلّا أنّ قول أبي الحسن الرضا عليه السّلام في آخر الحديث «صدق» يجعله صحيحا مثل أن يكون عبد اللّه بن المغيرة ينقله عن الرضا عليه السّلام، و السند إلى ابن المغيرة صحيح بلا إشكال.

نعم روى ثقة الإسلام الكليني قدّس سرّه مثل هذا الحديث بسند صحيح عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن محمد بن عبد اللّه قال: قلت للرضا عليه السّلام: جعلت فداك إنّ أبي حدّثني عن آبائك عليهم السّلام أنّه قيل لبعضهم- فذكر نحوه- و في آخره: فقال أبو الحسن عليه السّلام: «صدق، هو على ما ذكر» «2». فمحمّد بن عبد اللّه في هذا السند مجهول و لم يرو البزنطي أنّه كان حاضرا في مجلس الإمام، فلا طريق إلى اعتبار هذا السند إلّا من طريق أنّ ابن أبي نصر لا يروي إلّا عن ثقة.

و كيف كان فالصحيحة تامّة الدلالة على تمام المطلوب و ذلك أنّ السائل قد سأل بقوله: «فهل من جهاد أو هل من رباط؟» عن جوازهما و سؤاله مفروض في زمن تولّي ولاة الجور لإدارة أمر الامّة، و حينئذ فقول المجيب «عليكم بهذا البيت فحجّوه» بيان لنفي السبيل حينئذ إليهما و أنّ المطلوب حجّ بيت اللّه و الإعراض عن الجهاد بل و عن الرباط الّذي ربما يؤدّي إلى القتال الدفاعي، فيدلّ الجواب على حرمة القتال مع الجائر، و بعد ذلك فزيادة قوله عليه «أما يرضى أحدكم أن يكون في بيته ينفق على عياله من طوله ينتظر أمرنا ... إلى آخره» دليل على أنّ نهاية الإعراض و المنع هو ظهور أمرهم و قيام قائمهم، فيدلّ دلالة واضحة على أنّ ملاك‏

                       

هذا المنع أنّه لا يكون الأمر بيدهم عليهم السّلام و هو عبارة اخرى عن أنّ أمر القتال مفوّض إلى وليّ أمر الامّة و أن لا يجوز الإقدام عليه إلّا بأمره و تحت لوائه أو بإذن منه.

كما أنّ نفس تعليق الجواز على انتظار أمرهم و قوله بعده: «فإن أدركه- يعني أمرهم- كان كمن شهد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بدرا» يدلّ دلالة واضحة على أنّ إلى قائمهم الّذي هو متصدّي إدارة امور المسلمين بالفعل أمر القتال و أنّ إدراكه في القتال كإدراك غزوة بدر مع الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فيدلّ على أنّ إلى وليّ الأمر أمر الجهاد.

و السائل و إن ذكر الرباط إلّا أنّه لم يقتصر عليه بل عطف عليه قوله «هل من جهاد» و أجاب المجيب بذاك التعليق الّذي عرفت حدود دلالته، و معلوم أنّ الجهاد مطلق يعمّ الابتدائي و الدفاعي عن هجمة الكفّار أو البغاة، فبالنتيجة تدلّ الصحيحة على أنّ أمر القتال بأقسامه الثلاثة مفوّض إلى وليّ أمر الامّة و هو المطلوب. كما دلّت أيضا على عدم جواز الاستقلال بالجهاد و لا جواز الجهاد مع غير وليّ الأمر جائرا كان أو غير جائر.

3- و منها موثّقة سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لقي عبّاد البصري عليّ بن الحسين صلوات اللّه عليهما في طريق مكّة فقال له: يا عليّ بن الحسين تركت الجهاد و صعوبته و أقبلت على الحجّ و لينته! إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى‏ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ «1»، فقال له عليّ بن الحسين عليهما السّلام: أتمّ الآية، فقال: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ «2» فقال عليّ بن الحسين عليهما السّلام: إذا رأينا هؤلاء الّذين هذه‏

                       

صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحجّ» «1».

و رواه الشيخ في التهذيب بسند فيه إرسال عن أبي حمزة الثمالي قال: قال رجل لعليّ بن الحسين عليهما السّلام ... الحديث، و في آخره: فقال عليّ بن الحسين عليهما السّلام:

إذا ظهر هؤلاء لم نؤثر على الجهاد شيئا «2».

بيان دلالتها: أنّه عليه السّلام بعد اعتراض ذلك الرجل عليه في تركه للجهاد و بعد أمره بقراءة الآية التالية و قراءتها قال: «إذا رأينا هؤلاء الّذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحجّ» و بقرينة أنّ أمر الجهاد كان بيد ولاة الأمر فكان في زمان هذه المساءلة بيد ولاة الجور فمعنى قوله عليه السّلام: «إذا رأينا هؤلاء» أو «إذا ظهر هؤلاء» أنّه إذا تولّى أمر المسلمين الّذين هذه صفتهم، و بملاحظة أنّ الولاة الّذين لهم هذه الصفة هم النبيّ و الأئمّة المعصومون عليهم السّلام فتدلّ الموثّقة على أنّ أمر الجهاد بيد أولياء الأمر في الإسلام.

و ممّا يؤيّد إرادة الأئمّة و ولاة الأمر من المذكورين في الآية الثانية موثّقة اخرى لسماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من أخذ سارقا فعفا عنه فذلك له، فإذا رفع إلى الإمام قطعه، فإن قال الّذي سرق منه: أنا أهبه له لم يدعه الإمام حتّى يقطعه إذا رفع إليه [رفعه- خ الاستبصار] و إنّما الهبة قبل أن يرفع إلى الإمام، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ فإذا انتهى الحدّ إلى الإمام فليس لأحد أن يتركه «3».

                       

فترى أنّه عليه السّلام طبّق عنوان وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ على الإمام، فيدلّ على أنّ سائر العناوين المذكورة في الآية المباركة اريد منها الأئمّة عليهم السّلام، و الأئمّة هم ولاة أمر الامّة بنصّ القرآن الشريف كما مرّ.

و قريب من هذه الموثّقة الثانية ما رواه العيّاشي عن يونس بن عبد الرحمن عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: من أخذ سارقا فعفا عنه [فذلك له- خ برهان‏] فإذا رفع إلى الإمام قطعه، و إنّما الهبة قبل أن يرفع إلى الإمام، و كذلك قول اللّه:

وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ فإذا انتهى الحدّ [بالحلال- نسخة العيّاشي‏] إلى الإمام فليس لأحد أن يتركه «1».

و بيان دلالتها عين ما ذكرنا ذيل سابقتها.

و أوضح منها جميعا ما رواه العيّاشي عن صباح بن سيابة في قول اللّه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ قال: ثمّ قال: ثمّ وصفهم فقال:

التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ ... الآية. قال: هم الأئمّة عليهم السّلام 2.

فخبر صباح قد فسّرهم بالأئمّة عليهم السّلام بالتنصيص، إلّا أنّه لم يسنده إلى المعصوم بل فيه إضمار يدلّ عليه «ثمّ قال»، مضافا إلى أنّه مرسل كخبر يونس.

فبالجملة: فمن هذه الأحاديث المستفيضة يستفاد أنّ المذكورين بالأوصاف في الآية الثانية هم الأئمّة المعصومون عليهم السّلام و هو الّذي كان ظاهر الموثّقة الواردة في مقامنا و بالقرائن الّتي ذكرناها ذيلها لا يبعد استظهار أنّ المراد منها أنّ أمر الجهاد مفوّض إلى الأئمّة الّذين هم ولاة الأمر في الإسلام و هو المطلوب. و حيث إنّ الجهاد فيها مطلق فيتمّ المطلوب في أقسامه الثلاثة.

4- و منها ما رواه الكليني و الشيخ رحمهما اللّه عن الكليني بسند معتبر إلى بشير الدهّان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: إنّي رأيت في المنام أنّي قلت لك: إنّ القتال مع‏

                       

غير الإمام المفترض طاعته حرام مثل الميتة و الدم و لحم الخنزير، فقلت لي: نعم هو كذلك، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: هو كذلك هو كذلك» «1».

و الحديث دالّ بالصراحة على حرمة قتال الإنسان مع غير الإمام المفترض الطاعة، و يستفاد منه حرمة القيام بالقتال لنفس من ليس بإمام مفترض الطاعة، و إطلاقه يقتضي سريان حكم الحرمة زمن ولاية ولاة الجور أو زمن ولاية نفس الإمام المفترض الطاعة، فدلالته على حرمة استقلال غيره بالجهاد و حرمة الجهاد معه واضحة.

و لا ينبغي الريب في أنّه يستفاد منه مفهوما أنّ أمر القتال مفوّض إلى خصوص المفترض الطاعة بحيث أوجب حرمة استقلال غيره بالجهاد و حرمة الجهاد مصاحبا لغيره و تحت لواء غيره، و حيث إنّ القتال فيه مطلق يعمّ الابتدائي منه و الدفاعي بقسميه فتكون دلالة الحديث على تمام المطلوب واضحة مع العناية إلى أنّ الإمام المفترض الطاعة عبارة اخرى عن وليّ أمر الامّة، إلّا أنّ سند الحديث ضعيف بمجهولية بشير.

5- و منها ما رواه الكليني و الشيخ عن الكليني قدّس سرّهما بسند معتبر عن ابن أبي عمير عن الحكم بن مسكين عن عبد الملك بن عمرو قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا عبد الملك مالي لا أراك تخرج إلى هذه المواضع الّتي يخرج إليها أهل بلادك؟ قال: قلت: و أين؟ فقال: جدّة و عبادان و المصيصة و قزوين، فقلت:

انتظارا لأمركم و الاقتداء بكم، فقال: اي و اللّه لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ «2» قال: قلت له: فإنّ الزيدية يقولون: ليس بيننا و بين جعفر خلاف إلّا أنّه لا يرى الجهاد، فقال: أنا لا أراه؟! بلى و اللّه إنّي لأراه، و لكن أكره أن أدع علمي إلى جهلهم «3».

                       

بيان دلالته: أنّ موضوع السؤال الأوّل و إن كان- لعلّه- عدم الخروج إلى الرباط الّذي ربما يلزمه القتال الدفاعي إلّا أنّه بملاحظة ذيل الحديث ممّا نقله عن الزيدية و ما أجاب عنه الإمام يعلم أن لا خصوصية له و أنّ الموضوع الأصيل هو مطلق الجهاد الشامل للأقسام الثلاثة.

و حينئذ فقول الراوي في الجواب عن سؤال تركه «انتظارا لأمركم و الاقتداء بكم» يعطي بوضوح أنّ أمر الجهاد مفوّض إلى الإمام المفترض الطاعة و أنّه يرتقب و ينتظر ولايتهم حتّى يخرج إلى الجهاد تحت لوائهم، و هكذا ينتظر الاقتداء بهم و بأوامرهم، فكان مرتكزه أنّ أمر الجهاد مفوّض إليهم، و الإمام عليه السّلام صدّق ارتكازه هذا بقوله: «اي و اللّه لو كان خيرا ما سبقونا إليه» فيدلّ دلالة تامّة على تفويض أمر الجهاد إليهم و على نفي الخير مطلقا الّذي هو مساوق للحرمة عن الجهاد تحت لواء غيرهم، فالحديث تامّ الدلالة على تمام المطلوب من تفويض الجهاد بأقسامه الثلاثة إليهم و حرمة الجهاد مع غيرهم و لغيرهم.

إلّا أنّ في اعتبار سنده كلاما، فإنّ الحكم و عبد الملك لم يوثّقا إلّا أن يعتمد على نقل ابن أبي عمير الّذي لا يروي إلّا عن ثقة عنهما، مضافا إلى أنّه ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه، و فيه تأمّل.

6- و منها ما عن مزار ابن قولويه بسنده المعتبر عن عبد اللّه بن عبد الرحمن الأصمّ عن جدّه عن أبي جعفر عليه السّلام «في حديث» قال عليه السّلام: الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض في وقت الجهاد، و لا جهاد إلّا مع الإمام «1».

و دلالته على تمام المطلوب واضحة، فإنّ ظاهره في المستثنى منه نفي تحقق الجهاد أو نفي جوازه في غير مورد الاستثناء، و معناه عدم سبيل إلى الجهاد مع غير الإمام سواء كان هذا الغير من ولاة الجور أو من الرعية الّذين يعيشون تحت لواء الإمام فلا مجال لهم إلى الجهاد و لا معهم، كما أنّ الاستثناء دليل واضح على ثبوت‏

                       

هذا الحقّ للإمام نفسه. و معلوم أنّ الظاهر من الإمام من كان إماما عند قائله- أعني الإمام الباقر عليه السّلام- و هو الإمام المنصوب من عند اللّه تعالى، فالرواية تامّة الدلالة.

إلّا أنّ عبد اللّه بن عبد الرحمن بصريّ ضعيف غال ليس بشي‏ء كما عن النجاشي، و جدّه مجهول.

7- و مثله ما عن تحف العقول عن أمير المؤمنين عليه السّلام في وصيّته لكميل بن زياد قال: يا كميل لا غزو إلّا مع إمام عادل «1».

و رواه في المستدرك عن بشارة المصطفى بإسنادها إلى كميل، و قال: و يوجد في بعض نسخ النهج «2».

و هو كما ترى في الدلالة مثل رواية ابن قولويه إلّا أنّ سنده أيضا ضعيف بالإرسال و عدم ثبوت اعتبار سند بشارة المصطفى، فراجع المستدرك.

8- و منها ما رواه الكليني في الكافي و الصدوق في الخصال و عليّ بن إبراهيم في تفسيره بسندهم المعتبر عن القاسم بن محمّد عن سليمان بن داود المنقري عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سأل رجل أبي صلوات اللّه عليه عن حروب أمير المؤمنين عليه السّلام و كان السائل من محبّينا، فقال له أبو جعفر عليه السّلام [و في الخصال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام ... فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام‏]: بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بخمسة أسياف: ثلاثة منها شاهرة فلا تغمد حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها و لن تضع الحرب أوزارها حتّى تطلع الشمس من مغربها، فاذا طلعت الشمس من مغربها آمن الناس كلّهم في ذلك اليوم، فيومئذ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً «3». و سيف منها مكفوف [ملفوف- خ خصال‏].

و سيف منها مغمود سلّه إلى غيرنا و حكمه إلينا.

                       

و أمّا السيوف الثلاثة الشاهرة فسيف على مشركي العرب، قال اللّه عزّ و جلّ:

فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ... «1». و السيف الثاني على أهل الذمّة، قال اللّه تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ 2 ... و السيف الثالث سيف على مشركي العجم يعني الترك و الديلم و الخزر ....

و أمّا السيف المكفوف [الملفوف- خ خصال‏] فسيف على أهل البغي و التأويل، قال اللّه عزّ و جلّ: وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‏ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‏ءَ إِلى‏ أَمْرِ اللَّهِ فلمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ منكم من يقاتل بعدي على التأويل كما قاتلت على التنزيل، فسئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من هو؟ فقال: خاصف النعل يعني أمير المؤمنين عليه السّلام ...

و أمّا السيف المغمود فالسيف الّذي يقوم [يقام- خ خصال‏] به القصاص، قال اللّه عزّ و جلّ: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ «3» فسلّه إلى أولياء المقتول و حكمه إلينا.

فهذه السيوف الّتي بعث اللّه بها محمّدا صلّى اللّه عليه و آله فمن جحدها أو جحد واحدا منها أو شيئا من سيرها و أحكامها فقد كفر بما أنزل اللّه على محمّد صلّى اللّه عليه و آله «4».

و روى مثله الشيخ في التهذيب في باب ذكر أصناف أهل الجزية بإسناده عن الصفّار عن عليّ بن محمّد القاساني عن القاسم بن محمّد عن سليمان بن داود المنقري عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه عن أبيه عليهما السّلام «5».

و روى الشيخ في تهذيبه أيضا في باب أصناف من يجب جهاده بإسناده عن‏

                       

محمّد بن أحمد بن يحيى عن عليّ بن محمّد القاساني عن القاسم بن محمّد عن سليمان بن داود المنقري عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه عن أبيه عليهما السّلام نحوه ممّا يختلف مع ما مرّ في الألفاظ إجمالا بلا اختلاف بينه و بينها في المعنى أصلا «1».

و الكلام في الحديث تارة من حيث السند و اخرى من جهة الدلالة.

أمّا السند فجميع الإسناد مشترك في القاسم بن محمّد عن المنقري عن حفص ابن غياث، فحفص بن غياث لا يبعد الاعتماد عليه لما عن الشيخ الطوسي قدّس سرّه في الفهرست «من أنّه عامّيّ المذهب له كتاب معتمد» فإنّ الاعتماد على كتابه يكشف عن أنّه بنفسه أيضا كان معتمدا مضافا إلى أنّ للصدوق رحمه اللّه في من لا يحضره الفقيه طريقا إليه و قد تعهّد هو قدّس سرّه في أوّل الفقيه أن يروي عن الثقات و لا أقلّ من دلالة عبارته هذه على أنّ المذكورين في متنه عن المعصوم ثقات.

و سليمان بن داود المنقري قال فيه النجاشي: ليس بالمتحقّق بنا غير أنّه روى عن جماعة من أصحابنا من أصحاب جعفر بن محمّد عليهما السّلام و كان ثقة «2». و مع تصريح النجاشي بأنّه ثقة فلا يعتنى إلى ما عن الغضائري من تضعيفه و أنّه ضعيف جدّا لا يلتفت إليه يوضع كثيرا على المهمّات.

و القاسم بن محمّد قد وقع في جميع الطرق إلّا أنّه وصفه في الخصال بالأصبهاني فهو قرينة على أنّه المراد في الطرق الاخر أيضا. و القاسم بن محمّد الأصبهاني- على ما يظهر من كتب الرجال- هو ابن محمّد القمّي و هو المعروف بكاسولا، و فيه عن النجاشي: أنّه لم يكن بالمرضي. و عن خلاصة العلّامة أنّه قال ابن الغضائري: أنّه يكنّى أبا محمّد حديثه يعرف تارة و ينكر اخرى و يجوز أن يخرج شاهدا. و عن فهرست الشيخ ذكره فيمن لم يرو عنهم من غير توثيق، و قال هو و النجاشي فيه: «له كتاب» قالوا: «إنّه وقع في طريق الصدوق في من لا يحضره الفقيه إلى الزهري و إلى سليمان بن داود المنقري و إلى حفص بن غياث» و لعلّه‏

                       

يكشف عن اعتماد الصدوق رحمه اللّه بثقته، و إذا اضيف إليه أنّ ابن الغضائري أيضا لم يضعّفه بل قال فيه: «حديثه يعرف تارة و ينكر اخرى و يجوز أن يخرج شاهدا» و أنّه لم يرد تضعيفه صريحا و إن قال فيه النجاشي: «لم يكن بالمرضي» فمن ذلك كلّه لا يبعد استظهار وثاقته و لا سيّما في هذا الحديث الّذي أجمع المشايخ الثلاثة على روايته بطرق متعدّدة. هذا كلّه إن جعل القاسم بن محمّد هذا غير القاسم بن محمّد الجوهري، و أمّا إذا قيل باتحادهما- كما استظهره صاحب جامع الرواة- فيزيد على القرائن المذكورة رواية ابن أبي عمير و صفوان بن يحيى عنه و قد قال الشيخ فيهما و في أحمد بن أبي نصر البزنطي: انهم لا يروون إلّا عن ثقة.

و قد وقع في طريقي الشيخ عن عليّ بن محمّد القاساني و هو مذكور مع إبراهيم بن هاشم في طريق الكافي أيضا، و قال الشيخ في رجاله عند ذكر أصحاب الهادي عليه السّلام: «عليّ بن شيرة ثقة، عليّ بن محمّد القاشاني ضعيف أصبهاني من ولد زياد مولى عبد اللّه بن عبّاس من آل خالد بن الأزهر» «1» فترى أنّه قد صرّح بتضعيفه و بأنّه غير ابن شيرة الثقة. و قال النجاشي: عليّ بن محمّد بن شيرة القاساني [القاشاني‏] أبو الحسن كان فقيها مكثرا من الحديث فاضلا، غمز عليه أحمد بن محمّد بن عيسى، و ذكر أنّه سمع منه مذاهب منكرة، و ليس في كتبه ما يدلّ على ذلك ثمّ ذكر كتبه و طريقه إليه «2». فقد نقل غمز أحمد بن محمّد عليه بأنّه سمع منه مذاهب منكرة و ردّه النجاشي بقوله: «و ليس في كتبه ما يدلّ على ذلك» و حيث يحتمل أن يكون غمز أحمد بن محمّد منشأ تضعيف الشيخ رحمه اللّه مع أنّ نفس الغمز المذكور لا دليل فيه على عدم ثقته و مع ردّ النجاشي له فلا يبعد أن يقال بأنّه ثقة.

فالمتحصّل ممّا ذكرنا: أنّه لا يبعد اعتبار سند الحديث.

و أمّا دلالته فحاصل مفاده أنّ اللّه تعالى بعث رسوله بأسياف خمسة: أربعة

                       

منها إليه حكمها و سلّها، و واحد منها و هو سيف القصاص إليه حكمه إلّا أن سلّه إلى وليّ القصاص، إلّا أنّه صلّى اللّه عليه و آله قاتل بثلاثة منها مشركي العرب و مشركي العجم و أهل الكتاب و هو قتال على التنزيل و واحد منها لم يقاتل به و إنّما يقاتل به مثل أمير المؤمنين عليه السّلام و هو قتال البغاة و هو قتال على التأويل، و حينئذ فظاهر بعثه صلّى اللّه عليه و آله بهذه السيوف الأربعة الّتي إليه حكمها و سلّها أنّ أمر القتال بهذه السيوف مفوّض من اللّه تعالى إليه فله أن يقاتل بها و ليس لغيره أن يقاتل بشي‏ء منها إلّا تحت لوائه أو بأمره أو بإذنه و هو المطلوب.

ثمّ إنّ المنصوص في الحديث و إن كان بعث اللّه لرسوله بهذه السيوف إلّا أنّ قوله عليه السّلام في مقام بيان حكم سيف القصاص و استثنائه عن سائر السيوف: «و سيف منها مغمود سلّه إلى غيرنا و حكمه إلينا» يدلّ على أنّ غير هذا السيف من السيوف الأربعة الاخر سلّها و حكمها إليهم عليهم السّلام، فالإتيان عمّن إليه حكم السيوف و سلّها بضمير المتكلّم مع الغير فيه دلالة واضحة على أنّ من إليه حكمها و سلّها هو أهل بيت النبيّ و انّهم و إيّاه واحد فيثبت لكلّ منهم عليهم السّلام ما ثبت له صلّى اللّه عليه و آله.

و هكذا يشهد لهذا التعميم أنّ الحديث مع تصريح صدره بقوله عليه السّلام: «بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بخمسة أسياف» اللازم منه أن يختصّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بكلّ من هذه السيوف إلّا أنّه مع ذلك فقد قال عليه السّلام في السيف الرابع و هو السيف المكفوف إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد نزول آية قتال طائفتين من المؤمنين قال: «إنّ منكم من يقاتل بعدي على التأويل كما قاتلت على التنزيل، فسئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من هو؟ فقال: خاصف النعل يعني أمير المؤمنين عليه السّلام» ثمّ ذكر الإمام بعده حرب الجمل لعليّ عليه السّلام، فهذا الكلام منه صلّى اللّه عليه و آله و تبيين أنّ القتال مع السيف المكفوف لعليّ عليه السّلام شاهد على أنّ هذه السيوف إنّما هي بيد أولياء أمر المسلمين بالتفصيل المذكور في الرواية.

فهذه الرواية أيضا تامّة الدلالة على جميع المطلوب. كما انها شاملة للجهاد الابتدائي و الدفاعي بقسميه، فإنّ السيف المكفوف لقتال البغاة، و القتال مع‏

                       

المشركين و أهل الكتاب مطلق شامل للدفاع عنهم أيضا.

9- و منها ما رواه الكليني بسند معتبر عن الحسن بن العبّاس بن الحريش عن أبي جعفر الثاني عليه السّلام- في حديث طويل-: و إنّ اللّه ليدفع بالمؤمنين بها عن الجاحدين لها في الدنيا- لكمال عذاب الآخرة لمن علم أنّه لا يتوب منهم- ما يدفع بالمجاهدين عن القاعدين، و لا أعلم أنّ في هذا الزمان جهادا إلّا الحجّ و العمرة و الجوار «1».

فالرواية كما ترى تستحسن الجهاد و تعدّه عدل الإيمان بمفاد سورة القدر أي الإيمان بولاية أئمّة أهل البيت عليهم السّلام و لمّا كان من الواضح أنّ أمر الجهاد في الإسلام كان بيد النبيّ و أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهما و آلهما، فتدلّ الرواية على ثبوت هذا الحقّ لهم الّذي هو بمعنى ثبوته لوليّ أمر الامّة الإسلامية، و بعد ذلك ففقرتها الأخيرة تنفي بالصراحة تحقّق الجهاد في زمانه عليه السّلام الّذي كان تصدّي أمر القتال بيد الطاغوت الّذي تصدّى لولاية أمر المسلمين غصبا و إثما، فالرواية في هذه الفقرات تدلّ على ثبوت حقّ الجهاد لوليّ الأمر بالحقّ و على نفيه عن غيره، و موضوعه إثباتا و نفيا مطلق يشمل الابتدائي و الدفاعي منه، فهذه الفقرات قريبة المضمون ممّا مرّ من صحيحة عبد اللّه بن المغيرة عن الرضا عليه السّلام، و قد مرّت تحت الرقم 2. فلا يبعد أن تكون دلالة الرواية على المطلوب تامّة.

إلّا أنّ الحسن بن العبّاس بن حريش قد ضعّفه النجاشي فقال: الحسن بن العبّاس بن الحريش الرازي أبو عليّ روى عن أبي جعفر الثاني عليه السّلام ضعيف جدّا، له كتاب إنّا أنزلناه في ليلة القدر، و هو كتاب رديّ الحديث مضطرب الألفاظ «2».

و الحريش في رجال النجاشي و في الكافي بالحاء المهملة، إلّا أنّه في نسخة الوسائل و جامع الرواة بالجيم المنقوطة.

                       

فهذه ما عثرنا عليه من أخبار القسم الأوّل، و قد عرفت تمامية دلالتها على جميع المطلوب، و أنّه كانت فيها أحاديث معتبرة السند، و سند عدّة منها و إن كان ضعيفا إلّا انها بالغة حدّ الاستفاضة و يطمأنّ بصدور ما هو مضمونها.

و بالجملة: فلا ينبغي الريب في قيام أحاديث معتبرة السند و تامّة الدلالة على تمام المطلوب.

و أمّا القسم الثاني من الأخبار- أعني ما تدلّ على مجرّد ثبوت حقّ القيام بالجهاد لوليّ الأمر من غير دلالة لها على نفي هذا الحقّ عن غيره- فعدّة أخبار اخر أيضا.

1- منها ما رواه الكليني و الشيخ بسند موثّق عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى اليمن فقال: يا عليّ لا تقاتلنّ أحدا حتّى تدعوه إلى الإسلام، و أيم اللّه لإن يهدي اللّه عزّ و جلّ على يديك رجلا خير لك ممّا طلعت عليه الشمس و غربت، و لك و لاؤه يا عليّ «1».

فقد نقل الأمير عليه السّلام أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعثه للقتال باليمن، ففعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يدلّ على جواز هذا الحقّ له، بل إنّ ثبوت هذا الحقّ له صلّى اللّه عليه و آله ممّا لا يحتاج إلى هذه الرواية لوضوح أنّه قد وقع في زمنه حروب و غزوات كثيرة و كلّها كانت بأمره و إذنه فلا ريب في ثبوت هذا الحقّ له، و لمّا كان هو وليّ أمر المؤمنين فثبوته له دليل على ثبوته لسائر ولاة الأمر من الأئمّة المعصومين عليهم السّلام.

2- و منها ما رواه الكليني في الصحيح عن معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: السرية يبعثها الإمام فيصيبون غنائم كيف تقسّم؟ قال: إن قاتلوا عليها مع أمير أمّره الإمام عليهم أخرج منها الخمس للّه و للرسول و قسّم بينهم أربعة أخماس، و إن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كلّ ما غنموا للإمام يجعله حيث أحبّ»

.

                       

فقد فرض السائل بعث الإمام للسرية و أجاب الإمام عليه السّلام و فرض أنّ الإمام أمّر عليهم أميرا، فيدلّ على أنّ للإمام الإقدام ببعث السرية و الأمر بالبعث، و حيث إنّ الإمامة مساوقة لولاية الأمر فيدلّ على ثبوت هذا الحقّ لوليّ الأمر.

3- و منها ما رواه الكليني في الموثّق عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان إذا بعث السرية دعا لها «1».

4- و مثلها ما رواه أيضا في الموثّق إلى مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان إذا بعث أميرا له على سرية أمره بتقوى اللّه في خاصّة نفسه ثمّ في أصحابه عامّة، ثمّ يقول: اغز بسم اللّه و في سبيل اللّه، قاتلوا من كفر باللّه ... الحديث 2.

5- و مثلهما ما رواه أيضا في الصحيح عن محمّد بن حمران و جميل بن درّاج كلاهما عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا بعث سرية دعا بأميرها فأجلسه إلى جنبه و أجلس أصحابه بين يديه ثمّ قال: سيروا بسم اللّه و في سبيل اللّه و على ملّة رسول اللّه ... الحديث 3.

6- و نحوه ما رواه في الصحيح عن معاوية بن عمّار- قال: أظنّه عن أبي حمزة الثمالي- عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا أراد أن يبعث سريّة دعاهم فأجلسهم بين يديه ثمّ يقول: سيروا بسم اللّه و في سبيل اللّه و على ملّة رسول اللّه ... الحديث 4.

فهذه الروايات تدلّ بوضوح أنّ بعث السرية للقتال كان أمرا دارجا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و هو قبل أن يسيروا يذكر لهم الآداب الشرعية الّتي عليهم مراعاتها و يدعو اللّه لهم، فتدلّ على ثبوت هذا الحقّ له و حيث إنّه وليّ أمر الامّة فيثبت من هذه الروايات ثبوت هذا الحقّ لغيره من ولاة أمر الامّة من المعصومين عليهم السّلام أيضا، بل قد مرّ أنّ ثبوت هذا الحقّ له أمر بيّن و ما ذكرناه انموذج من الأخبار

                       

الدالّة عليه، و المتتبّع المتأمّل يظفر على أكثر فأكثر.

7- و منها ما رواه في الكافي بسند معتبر إلى أبي حفص الكلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ بعث رسوله بالإسلام إلى الناس عشر سنين، فأبوا أن يقبلوا حتّى أمره بالقتال، فالخير في السيف و تحت السيف، و الأمر يعود كما بدأ «1».

فأمر اللّه له بالقتال يلازمه إعطاء أمر القتال إليه بل توظيفه بتصدّيه، و هو دليل واضح على ثبوت هذا الحقّ له.

8- و منها ما رواه الصدوق في عيون الأخبار بإسناده المعتبر إلى الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام فيما كتبه إلى المأمون قال: و الجهاد واجب مع الإمام العدل «2». و روي بمعناه عن تحف العقول عنه عليه السّلام في كتابه إلى المأمون «3».

فإنّ وجوب الجهاد مع الإمام العادل عبارة اخرى عن وجوب الحضور معه تحت لوائه أو لواء أمر به أو أذن، فلا محالة يدلّ على ثبوت حقّ الإقدام بالقتال للإمام العادل و هو منطبق على النبيّ و الأئمّة العدل الولاة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

9- و نحوه ما عن الخصال بإسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام في حديث شرائع الدين قال: و الجهاد واجب مع إمام عادل 4.

و الإنصاف أنّ الأخبار الدالّة على أنّ لوليّ أمر الامّة حقّ القتال في تمام مصاديقه كثيرة جدّا كما هو ظاهر لمن راجع أخبار كتاب الجهاد و تأمّلها، و ما ذكرناه فإنّما هو انموذج منها فراجع أبواب جهاد العدوّ من الوسائل، إلّا أنّه مع ذلك فلا بأس بذكر نماذج اخر منها قد نقله نهج البلاغة عن المولى أمير المؤمنين عليه السّلام فنقول:

                       

10- منها قوله عليه السّلام في وقعة صفّين حين أمر الناس بالصلح: و اللّه لقد كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم نقتل آباءنا و أبناءنا و إخواننا و أخوالنا و أعمامنا و أهل بيوتاتنا ثمّ ما يزيدنا ذلك إلّا إيمانا و تسليما و مضيّا على اللقم و صبرا على مضض الألم و حدّا في جهاد العدوّ ... و لعمري لو كنّا حين كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و تصيبنا الشدائد و الأذى و البأس نأتي مثل ما أتيتم اليوم ما قام للدين عمود و لا اخضرّ للإسلام عود و لا عزّ الإسلام و قد ترون عهود اللّه منقوضة فلا تغضبون و أنتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون «1».

فهذه الكلمات المباركات الصادرة عن قبله الحزين في اللّه تحكي عن تصدّي الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله للجهاد و أنّه و الأصحاب يقاتلون تحت لوائه و عن تصدّيه عليه السّلام لأمر الحرب إلّا أنّ أصحابه لا يعلمون بما هو وظيفتهم الأكيدة، ففيها دلالة على أنّ لوليّ أمر الامّة تصدّي أمر الجهاد.

11- و منها قوله عليه السّلام في خطبة له بعد غارة ضحّاك بن قيس صاحب معاوية على الحاجّ بعد قصّة الحكمين: أيّها الناس المجتمعة أبدانهم المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصمّ الصلاب و فعلكم يطمع فيكم الأعداء، تقولون في المجالس كيت و كيت فإذا جاء القتال قلتم: حيدي حياد ما عزّت دعوة من دعاكم و لا استراح قلب من قاساكم ... لا يمنع الضيم الذليل و لا يدرك الحقّ إلّا بالجدّ، أيّ دار بعد داركم تمنعون؟! و مع أيّ إمام بعدي تقاتلون؟! «2».

فهذه الجمل المنبعثة عن قلب حزين في توبيخ قوم غير قويم تدلّ على أنّه عليه السّلام قد أمرهم بالقتال فيقولون تلك الكلمة الّتي يقولها الهارب عند الفرار، و جملته الأخيرة قد وبّختهم على عدم نهوضهم باستنهاضه للقتال فخاطبهم بانكم مع أيّ إمام بعدي تقاتلون؟ فتدلّ صدرا و ذيلا على أنّ له عليه السّلام و لكلّ إمام أن يدعو

                       

امّته للقتال و أنّ على الامّة الاستجابة لدعوته، و هو ما رمناه.

12- و منها قوله عليه السّلام في خطبة له- و قد قالها يستنهض بها الناس حين ورد خبر غزو الأنبار بجيش معاوية فلم ينهضوا-: أمّا بعد فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة، فتحه اللّه لخاصّة أوليائه، و هو لباس التقوى و درع اللّه الحصينة و جنّته الوثيقة فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللّه ثوب الذلّ و شمله البلاء ... ألا و إنّي قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا و نهارا و سرّا و إعلانا، و قلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فو اللّه ما غزي قوم قطّ في عقر دارهم إلّا ذلّوا، فتواكلتم و تخاذلتم حتّى شنّت عليكم الغارات و ملكت عليكم الأوطان- فذكر عليه السّلام حديث غزو الأنبار و بعض عواقبه المؤلمة إلى أن قال:- يغار عليكم و لا تغيرون و تغزون و لا تغزون و يعصى اللّه و ترضون، فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيّام الحرّ قلتم: هذه حمّارة القيظ أمهلنا يسبّخ عنّا الحرّ، و إذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارّة القرّ أمهلنا ينسلخ عنّا البرد، كلّ هذا فرارا من الحرّ و القرّ، فإذا كنتم من الحرّ و القرّ تفرّون فأنتم و اللّه من السيف أفرّ ... قاتلكم اللّه لقد ملأتم قلبي قيحا و شحنتم صدري غيظا و جرّعتموني نغب التهمام أنفاسا، و أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان و الخذلان حتّى لقد قالت قريش: «إنّ ابن أبي طالب رجل شجاع لكن لا علم له بالحرب» للّه أبوهم و هل أحد منهم أشدّ لها مراسا و أقدم فيها مقاما منّي، لقد نهضت فيها و ما بلغت العشرين، و هانذا قد ذرّفت على الستّين، و لكن لا رأي لمن لا يطاع «1».

و روي مثله في كتاب الجهاد من الكافي في باب فضل الجهاد «2». و روى الصدوق نحوه في معاني الأخبار، قال في صدره: إنّ عليّا عليه السّلام انتهى إليه أنّ خيلا لمعاوية وردت الأنبار فقتلوا عاملا له يقال له حسّان بن حسّان، فخرج مغضبا يجرّ ثوبه حتّى أتى النخيلة و اتّبعه الناس فرقى رباوة من الأرض فحمد اللّه‏

                       

و أثنى عليه و صلّى على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قال: ... «1».

أقول: و لا بأس بتوضيح بعض كلماته: فالنخيلة- على وزن فعيلة- في لسان العرب: موضع بالبادية. عقر الدار- بالضمّ- وسطها و أصلها. تواكلتم: لم يتولّه أحد منكم بل أحاله كلّ إلى الآخر. شنّت عليكم الغارات: الشنّ: الصبّ متفرّقا و الغارة:

الخيل المغيرة تهجم على القوم فتقتل و تنهب، فحاصل المراد: صبّت عليكم الأعداد من كلّ وجه فهجمت و قتلت و نهبت. حمّارة القيظ: حمارة- بتخفيف الميم و تشديد الراء و ربما خفّفت-: شدّة الحرّ. و القيظ: صميم الصيف. التسبيخ- بالخاء المعجمة-: التخفيف و التسكين. صبارّة القرّ؛ صبارّة بتخفيف الباء الموحّدة و تشديد الراء-: شدّة البرد، القرّ- بضمّ القاف و تشديد الراء-: البرد، و قيل: هو برد الشتاء خاصّة. و جرّعتموني نغب التهمام أنفاسا: النغب- جمع النغبة- كجرعة و جرع لفظا و معنى، التهمام- بالفتح-: الهمّ، أنفاسا: جرعة بعد جرعة. مراسا:

مصدر مارسه ممارسة و مراسا: أي عالجه و زاوله و عاناه. ذرّفت: أي زدت.

فهذه الكلمات المباركات الحاكية عن شدّة تالمه من أعمال أصحابه و عدم استقامتهم و عدم تهيّؤهم لامتثال أوامره تدلّ صريحا أنّه عليه السّلام كان كثيرا ما يدعوهم إلى قتال جيش معاوية و يؤكّد عليهم في الخروج إليهم و قتالهم فكان أصحابه يظهرون علّة غير مرضية و يثّاقلون إلى الأرض حتّى قال عليه السّلام: «لا رأي لمن لا يطاع» فتدلّ على أنّه كان له- و هو وليّ أمر الامّة- أن يأمر بالجهاد و على الامّة أن يطيعوه، فيثبت هذا الحقّ لكلّ وليّ أمر، و هو المطلوب.

13- و منها قوله عليه السّلام في خطبة له- في استنفار الناس إلى أهل الشام بعد فراغه من أمر الخوارج-: افّ لكم لقد سئمت عتابكم- و خطابكم، أيّها الناس، ما لكم إذا أمرتكم أن تنفروا في سبيل اللّه اثّاقتلم إلى الأرض و سألتموني التطويل‏

                       

دفاع ذي الدين المطول؟! أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا و بالذلّ من العزّ خلفا؟! إذا دعوتكم إلى جهاد عدوّكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة و من الذهول في سكرة ... أيّها الناس، إنّ لي عليكم حقّا و لكم عليّ حقّ، فأمّا حقّكم عليّ فالنصيحة لكم و توفير فيئكم عليكم و تعليمكم كي لا تجهلوا و تأديبكم كي ما تعلموا، و أمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة و النصيحة في المشهد و المغيب و الإجابة حين أدعوكم و الطاعة حين آمركم «1».

فهذه الكلمات المباركات كما ترى يدلّ أوّلها على دعوته عليه السّلام لأصحابه المخاطبين إلى جهاد عدوّهم فاثّاقلوا إلى الأرض و آخرها على أنّ من حقّه عليهم أن يجيبوه حين يدعوهم و أن يطيعوه حين يأمرهم، فتدلّ بوضوح على أنّ لوليّ الأمر أن يأمر الامّة و يدعوهم إلى الجهاد و أنّ عليهم إطاعته في هذا الأمر، فدلالتها على ثبوت حقّ إقامة الجهاد و دعوة الناس إليه لوليّ الأمر واضحة، و هو المطلوب.

14- و منها قوله عليه السّلام في خطبة له في أصحابه: أما و الّذي نفسي بيده ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم ليس لأنهم أولى بالحقّ منكم و لكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم و إبطائكم عن حقّي، و لقد أصبحت الامم تخاف ظلم رعاتها و أصبحت أخاف ظلم رعيّتي، استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، و أسمعتكم فلم تسمعوا، و دعوتكم سرّا و جهرا فلم تستجيبوا، و نصحت لكم فلكم تقبلوا، أ شهود كعيّاب و عبيد كأرباب؟! أتلو عليكم الحكم فتنفرون منها و أعظكم بالموعظة البالغة فتتفرّقون عنها و أحثّكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر قولي حتّى أراكم متفرّقين أيادي سبا ... أيّها القوم الشاهدة أبدانهم الغائبة عنهم عقولهم المختلفة أهواؤهم المبتلى بهم امراؤهم، صاحبكم يطيع اللّه و أنتم تعصونه، و صاحب أهل الشام يعصي اللّه و هم يطيعونه، لوددت و اللّه أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدينار

                       

بالدرهم فأخذ منّي عشرة منكم و أعطاني رجلا منهم «1».

و دلالتها على أنّ لوليّ الأمر الّذي يطيع اللّه دعوة الامّة إلى الجهاد و استنفارهم إليه و أنّ على الامّة استجابة هذه الدعوة واضحة لا تحتاج إلى بيان.

15- و منها قوله عليه السّلام في كلام له- لمّا خرج بسر بن أرطاة إلى الحجاز- و قد جمع الناس و حضّهم على الجهاد، فسكتوا مليّا: ما بالكم أ مخرسون أنتم لا تتكلّمون؟! فقال قوم منهم: يا أمير المؤمنين، إن سرت سرنا معك، فقال عليه السّلام: ما بالكم لا سدّدتم لرشد و لا هديتم لقصد! أ في مثل هذا ينبغي لي أن أخرج؟ و إنّما يخرج في مثل هذا رجل ممّن أرضاه من شجعانكم و ذوي بأسكم، و لا ينبغي لي أن أدع الجند و المصر و بيت المال و جباية الأرض و القضاء بين المسلمين و النظر في حقوق المطالبين ثمّ أخرج في كتيبة أتبع اخرى أتقلقل تقلقل القدح في الجفير الفارغ، و إنّما أنا قطب الرحى تدور عليّ و أنا بمكاني فإذا فارقته استحار مدارها و اضطرب ثفالها، هذا لعمر اللّه الرأي السوء، و اللّه لو لا رجائي الشهادة عند لقائي العدوّ- و لو قد حمّ لي لقاؤه- لقرّبت ركابي ثمّ شخصت عنكم فلا أطلبكم ما اختلف جنوب و شمال طعّانين عيّابين حيّادين روّاغين إنّه لا غناء في كثرة عدوّكم مع قلّة اجتماع قلوبكم، لقد حملتكم على الطريق الواضح الّتي لا يهلك عليها إلّا هالك، من استقام فإلى الجنّة و من زلّ فإلى النار «2».

فترى أنّه عليه السّلام حضّهم أوّلا على الجهاد فلم يستجيبوا و لم يتكلّموا، و بعد سؤاله عن ذلك قال قوم منهم: إن سرت سرنا معك، فأجابهم عليه السّلام بأنّه لا ينبغي أن أخرج أنا في مثل هذا الدفاع بل اللازم أن يخرج فيه رجل شجاع منكم أرضاه و إن أبقى أنا في مركز الولاية لا في قطب الرحا و تدور عليّ و أنا بمكاني فإذا فارقته استحار مدارها. ثمّ ذكر بعد ذلك بعض استخفافهم بأوامره و عدم قيامهم‏

                       

بامتثالها بحيث لا غنى في كثرة عددهم مع تلك القلوب المختلفة.

ففيه دلالة واضحة على أنّ من حقّ وليّ الأمر أن يدعو الامّة و يأمرهم بالجهاد و يعيّن أمير الجند و أنّ عليهم وجوب الطاعة، و هو المطلوب.

16- و منها كلام له في تعليم الحرب و المقاتلة: معاشر المسلمين، استشعروا الخشية و تجلببوا السكينة ... و صلوا السيوف بالخطى، و اعلموا أنّكم بعين اللّه و مع ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فعاودوا الكرّ و استحيوا من الفرّ فإنّه عار في الأعقاب و نار يوم الحساب ... و عليكم بهذا السواد الأعظم و الرواق المطنّب، فاضربوا ثبجه فإنّ الشيطان كامن في كسره و قد قدّم للوثبة يدا و أخّر للنكوص رجلا، فصمدا صمدا حتّى ينجلي لكم عمود الحقّ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ «1».

توضيح بعض لغاته: استشعروا الخشية: اجعلوها شعاركم، و الشعار هو ما يلي البدن من الثياب. تجلببوا: ألبسوا الجلباب، و هو ما يغطّى به فوق الثياب. فحاصل المعنى الأمر يجعل خشية اللّه شعارا من الباطن و السكينة جلبابا في الظاهر. السواد الأعظم: ما يملأ العين من جند العدوّ. الرواق- ككتاب و غراب-: الفسطاط.

المطنّب: المشدود بالحبل و الطناب. ثبجه: وسطه. كامن: مختف. كسره- بكسر الكاف-: شقّه الأسفل، و هو كناية عن الجانب الّذي يفرّ إليه المنهزمون. صمدا: الصمد هو القصد و هو هنا مفعول مطلق اريد منه الأمر، يعني: فاثبتوا على قصدكم. الوثبة:

التقدّم إلى الإمام. النكوص: الرجوع إلى العقب. لن يترهم أعمالهم: لن ينقصهم.

فهو عليه السّلام في هذه الكلمات علّمهم كيفية الحرب و انها لا بدّ و أن تكون بخشية قلبية من اللّه و بوقار و سكينة في لقاء العدوّ و أن تصل سيوف المحاربين بخطوتهم لا ينقطع و لا يتأخّر السيف عن الخطوة و أن يهاجموا على وسط جيش العدوّ، و يعلموا أنّ عمادهم الشيطان الّذي في كمال النكوص إلى الفرار فإنّه يثب بيده و ينكص رجله، و هذا، بخلاف المسلمين المحاربين فإنّ اللّه معهم و بيده الأمر كلّه‏

                       

مع انهم بعين اللّه تعالى و مع ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلن يتر اللّه أعمالهم.

فهذا التعليم العظيم منه عليه السّلام في معركة الحرب يدلّ على أنّه عليه السّلام ربما كان حاضرا مع جنده المحاربين في المعركة. فعلاوة على أنّه عليه السّلام أمر بالجهاد قد حضر معهم ميدان الحرب.

فبالجملة: فهذه الكلمات المباركات أيضا تدلّ على ثبوت حقّ الدعوة إلى الجهاد لوليّ أمر الامّة.

فهذه موارد سبعة من كلماته المنقولة عنه عليه السّلام في نهج البلاغة و تمامه ممّا يدلّ على ثبوت حقّ أمر الامّة بالجهاد لوليّ أمرهم. و الإنصاف أنّ الموارد الاخر الدالّة عليه المذكورة فيهما كثيرة جدّا لا حاجة إلى ذكرها بل كان تصدّيه لأمر الدعوة إلى الجهاد زمن ولايته أمرا بديهيا لا يحتاج إلى نقل لفظيّ أصلا.

هذه خلاصة الكلام في القسمين من الأخبار، و قد دلّ جميعها على ثبوت حقّ الدعوة إلى الجهاد و الأمر به لوليّ أمر الامّة و على وجوب إطاعة أمره على المدعوّين، كما و زاد أخبار القسم الأوّل أنّه ليس لغيره الإقدام بالجهاد و لا الدعوة إليه مستقلّا سواء في ذلك رعيّة وليّ الأمر في ولايته أو غيرهم حتّى ولاة الأمر الطواغيت.

و بعد ذلك فتوجد أخبار عديدة اخرى تدلّ على عدم جواز دعوة الجائر إلى الجهاد و على عدم جواز الجهاد تحت لوائهم.

1- فمنها ما عن الصدوق في علل الشرائع و الخصال عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عن آبائه عليهم السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم و لا ينفذ في الفي‏ء أمر اللّه عزّ و جلّ فإنّه إن مات في ذلك المكان كان معينا لعدوّنا في حبس حقّنا و الاشاطة بدمائنا و ميتته ميته جاهلية «1».

فإنّ نفس النهي عن الخروج دليل على الحرمة مضافا إلى انها مقتضى ما جعله‏

                       

عقابا له، و واضح أنّ من لا يؤمن على الحكم و لا ينفذ في الفي‏ء أمر اللّه هو الجائر أو من يعيش تحت لوائه، و إذا كان الجهاد معه حراما فجهاده نفسه دعوته إليه حرام قطعا.

2- و منها ما رواه الشيخ في التهذيب في المعتبر عن طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن رجل دخل أرض الحرب بأمان فغزا القوم الّذين دخل عليهم قوم آخرون، قال: على المسلم أن يمنع نفسه و يقاتل على حكم اللّه و حكم رسوله، و أمّا أن يقاتل الكفّار على حكم الجور و سنّتهم فلا يجوز ذلك «1».

فمورد السؤال و إن كان القتال مع أهل الحرب إلّا أنّ موضوع النهي و عدم الجواز المذكور في الجواب هو القتال على حكم الجور و هو عنوان يشمل الجهاد بأمر الطاغوت الجائر فلا محالة يكون حراما، و يكون أمر الطاغوت و إقدامه به أيضا حراما كما لا يخفى.

3- و منها ما رواه في التهذيب أيضا بإسناده عن عبد اللّه بن سنان قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك ما تقول في هؤلاء الّذين يقتلون في هذه الثغور؟

قال: فقال: الويل، يتعجّلون قتلة في الدنيا و قتلة في الآخرة، و اللّه ما الشهيد إلّا شيعتنا و لو ماتوا على فرشهم «2».

دلّت على مبغوضية أن يقتل الرجل في الثغور الّتي كانت لا محالة تحت ولاية ولاة الجور و أنّه قتلة متعجلة في الدنيا ثمّ يتعقّبهم قتلة اخرى في الآخرة عقابا، فتدلّ على أنّ القتال تحت لوائهم حرام و لازمه أنّ أمرهم و دعوتهم إلى القتال و تصدّيهم له حرام بحيث أوجب حرمة اتّباعهم فيه. إلّا أنّ سند الرواية ضعيف.

4- و نحو هذه الرواية ما رواه الشيخ في التهذيب بإسناده الصحيح عن عليّ‏

                       

ابن مهزيار قال: كتب رجل من بني هاشم إلى أبي جعفر الثاني عليه السّلام إني كنت نذرت نذرا منذ سنتين أن أخرج إلى ساحل من سواحل البحر إلى ناحيتنا ممّا يرابط فيه المتطوّعة نحو مرابطتهم بجدّة و غيرها من سواحل البحر، أ فترى جعلت فداك أنّه يلزمني الوفاء به أو لا يلزمني؟ أو أفتدي الخروج إلى ذلك الموضع بشي‏ء من أبواب البرّ لأصير إليه إن شاء اللّه تعالى، فكتب عليه السّلام إليه بخطّه و قرأته: إن كان سمع منك نذرك أحد من المخالفين فالوفاء به إن كنت تخاف شنعته و إلّا فاصرف ما نويت من ذلك في أبواب البرّ، وفّقنا اللّه و إيّاك لما يحبّ و يرضى «1».

فحكمه عليه السّلام بعدم وجوب الوفاء بنصّ النذر مع عدم التقية إنّما هو لما يستلزمه الرباط من القتال و هو ليس إلّا في لواء الجائر فلا يجوز كما مرّ في بعض أخبار القسم الأوّل و ربما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

فالمتحصّل من جميع الأخبار الماضية: أنّ القتال بغير إذن وليّ الأمر أو تحت لوائه غير جائز بلا فرق في ذلك بين الجهاد الابتدائي و الدفاعي في الدفاع عن الكفّار و البغاة، و إطلاقها- لعلّه- يشمل ما إذا أوجب ترك الدفاع ضررا نفسيّا أو ماليّا على المسلمين أو خروج بلدة أو بلاد مثلا عن سيطرة ولاية وليّ الأمر.

 [الدفاع قد لا يتوقّف على أمر الإمام‏]

إلّا أنّه قد رويت هنا رواية معتبرة رواها الكليني و الصدوق و شيخ الطائفة بل و روى قريبا منها قرب الإسناد تدلّ على جواز الدفاع بل وجوبه إذا أوجب تركه ضررا على المسلمين أو على أساس الإسلام.

فقد روى ثقة الإسلام في كتاب الجهاد من الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: قلت له: جعلت فداك إنّ رجلا من مواليك بلغه أنّ رجلا يعطي السيف و الفرس في سبيل اللّه، فأتاه فأخذهما منه و هو جاهل بوجه السبيل، ثمّ لقيه أصحابه فأخبروه أنّ السبيل مع‏

                       

هؤلاء لا يجوز و أمروه بردّهما، فقال عليه السّلام: فليفعل، قال: قد طلب الرجل فلم يجده و قيل له قد شخص الرجل، قال عليه السّلام: فليرابط و لا يقاتل، قال: ففي مثل قزوين و الديلم و عسقلان و ما أشبه هذه الثغور؟ فقال عليه السّلام: نعم، فقال له: يجاهد؟ قال عليه السّلام:

لا، إلّا أن يخاف على ذراري المسلمين، [فقال:] أ رأيتك لو أنّ الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ لهم أن يمنعوهم؟ قال عليه السّلام: يرابط و لا يقاتل، و إن خاف على بيضة الإسلام و المسلمين قاتل فيكون قتاله لنفسه و ليس للسلطان، قال: قلت: فإن جاء العدوّ إلى الموضع الّذي هو فيه مرابط كيف يصنع؟ قال: يقاتل عن بيضة الإسلام لا عن هؤلاء لأنّ في دروس الإسلام دروس دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله «1».

قال الكليني فيه: عليّ عن أبيه عن يحيى بن أبي عمران عن يونس عن الرضا نحوه 2. و رواه الصدوق قدّس سرّه في أواخر علل الشرائع في باب نوادر العلل مثله «3»، و لا فرق بين المصدرين إلّا أنّ في العلل «يتابعوهم» بدل «يمنعوهم».

و من الواضح أنّ المراد من المتابعة هو التعقيب فيتّحد في المعنى مع المنع.

و تختلف أيضا في الجملة الأخيرة فإنّها فيها هكذا: «لأنّ في اندراس الإسلام اندراس ذكر محمّد صلّى اللّه عليه و آله» ثمّ إنّ سند العلل أيضا صحيح فإنّه فيه هكذا: «أبي رحمه اللّه، قال: حدّثنا سعد بن عبد اللّه عن محمّد بن عيسى عن يونس بن عبد الرحمن عن أبي الحسن عليه السّلام.

ثمّ إنّ سوق عبارة الحديث ربما يقتضي تعبير السائل عن نفسه بصيغة المتكلّم إلّا أنّه عبّر عن نفسه في الغالب بصيغة الغائب و هو لا يضرّ بالمعنى كما هو واضح.

و رواه الشيخ في التهذيب في باب المرابطة في سبيل اللّه عزّ و جلّ بإسناده‏

                       

عن محمّد بن الحسن الصفّار عن محمّد بن عيسى عن يونس قال: سأل أبا الحسن عليه السّلام رجل و أنا حاضر فقال له: جعلت فداك إنّ رجلا من مواليك بلغه أنّ رجلا يعطي سيفا و فرسا في سبيل اللّه فأتاه فأخذهما منه، ثمّ لقيه أصحابه فأخبروه أنّ السبيل مع هؤلاء لا يجوز و أمروه بردّهما، قال عليه السّلام: فليفعل، قال: قد طلب الرجل فلم يجده و قيل له قد شخص الرجل، قال عليه السّلام: فليرابط و لا يقاتل، قلت: مثل قزوين و عسقلان و الديلم و ما أشبه هذه الثغور؟ قال عليه السّلام: نعم، قال: فإن جاء العدوّ إلى الموضع الّذي هو فيه مرابط كيف يصنع؟ قال عليه السّلام: يقاتل عن بيضة الإسلام، قال: يجاهد؟ قال عليه السّلام: لا، إلّا أن يخاف على ذراري المسلمين، قلت:

أ رأيتك لو أنّ الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ لهم أن يمنعوهم؟ قال عليه السّلام:

يرابط و لا يقاتل، فإن خاف على بيضة الإسلام و المسلمين قاتل فيكون قتاله لنفسه لا للسلطان لأنّ في دروس الإسلام دروس ذكر محمّد صلّى اللّه عليه و آله «1». و إسناد الشيخ إلى الصفّار صحيح.

و هي على هذه النسخة أيضا متّحدة المضمون- كما ترى- مع ما سبقاها، و عمدة الفرق أنّ جميع الأسئلة إلّا اثنين منها من ذلك الرجل لا من يونس بن عبد الرحمن إلّا أنّه لا يوجب فرقا في المعنى بعد وحدة الجواب.

و روى عبد اللّه بن جعفر الحميري في «قرب الإسناد في باب قرب الإسناد عن الرضا عليه السّلام» فقال: و حدّثني محمّد بن عيسى قال: أتيت أنا و يونس بن عبد الرحمن باب الرضا عليه السّلام و بالباب قوم قد استأذنوا عليه قبلنا، و استأذنا بعدهم و خرج الإذن فقال: ادخلوا و يتخلّف يونس و من معه من آل يقطين، فدخل القوم و تخلّفنا، فما لبثوا أن خرجوا و أذن لنا، فدخلنا فسلّمنا عليه فردّ السلام ثمّ أمرنا بالجلوس فقال له يونس بن عبد الرحمن: يا سيّدي تأذن لي أن أسألك عن مسألة؟ فقال له: سل.

                       

فقال له يونس: أخبرني عن رجل من هؤلاء مات و أوصى أن يدفع من ماله فرس و ألف درهم و سيف إلى رجل يرابط عنه و يقاتل في بعض هذه الثغور، فعمد الوصيّ فدفع ذلك كلّه إلى رجل من أصحابنا، فأخذه و هو لا يعلم أنّه لم يأت لذلك وقت بعد، فما تقول؟ أ يحلّ له أن يرابط عن هذا الرجل في بعض هذه الثغور أم لا؟

فقال: يردّ على الوصيّ ما أخذ منه و لا يرابط، فإنّه لم يأن لذلك وقت بعد، فقال:

يردّه عليه، فقال يونس: فإنّه لا يعرف الوصيّ و لا يدري أين مكانه، فقال له الرضا عليه السّلام: يسأل عنه، فقال له يونس بن عبد الرحمن: فقد سأل عنه فلم يقع عليه، كيف يصنع؟ فقال عليه السّلام: إن كان هكذا فليرابط و لا يقاتل، فقال له يونس: فإنّه قد رابط و جاءه العدوّ و كاد أن يدخل عليه في داره فما يصنع؟ يقاتل أم لا؟ فقال له الرضا عليه السّلام: إذا كان ذلك كذلك فلا يقاتل عن هؤلاء و لكن يقاتل عن بيضة الإسلام، فإنّ في ذهاب بيضة الإسلام دروس ذكر محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

فقال له يونس: يا سيّدي إنّ عمّك زيدا قد خرج بالبصرة و هو يطلبني و لا آمنه على نفسي، فما ترى لي أن أخرج إلى البصرة أو أخرج إلى الكوفة؟ قال عليه السّلام:

بل اخرج إلى الكوفة، فإذا فصر إلى البصرة.

قال: فخرجنا من عنده عليه السّلام و لم نعلم معنى «فإذا» حتّى وافينا القادسية، حتّى جاء الناس منهزمين يطلبون يدخلون الدور، [البدو- قرب الاسناد] و هزم أبو السرايا و دخل برقة الكوفة، و استقبلنا جماعة من الطالبيّين بالقادسية متوجّهين نحو الحجاز، فقال لي يونس: «فإذا» هذا معناه، فصار من الكوفة إلى البصرة و لم يبدأه بسوء «1».

فهذا النقل قد زاد على ما سبق بذكر مقدّمة و مؤخّرة لا أثر لهما لما نحن فيه، و السائل فيه هو يونس بن عبد الرحمن و ينقل الأسئلة و الأجوبة محمّد بن عيسى نفسه بلا واسطة إذ كان هو أيضا حاضرا في ذلك المجلس فيوجب قلّة الواسطة.

                       

فهذه الروايات قد تضمّنت أسئلة و أجوبة كانت الأسئلة كلّها من يونس و نقلها لمحمّد بن عيسى بحسب نقل الكليني و الصدوق، و بعضها من رجل آخر، و بعضها من يونس الحاضر في المجلس بنقل الشيخ، و فيه أيضا أنّ يونس نقل الأمر كلّه لابن عيسى، و كانت الأسئلة كلّها من يونس و كان محمّد بن عيسى نفسه حاضرا يسمع السؤال و الجواب بنقل الحميري في قرب الإسناد.

إلّا أنّ هذا كلّه لا يوجب غمزا في الحديث بعد كونهما ثقتين، و المهمّ هو فقه الحديث، فقد تضمّن صدر الحديث أنّ أصحابنا كانوا يقولون بأنّ السبيل مع هؤلاء لا يجوز، و قد صحّح الإمام عليه السّلام مقالتهم هذه بقوله عليه السّلام: «فليفعل» فإنّ معناه الأمر بردّ ما أخذه من السيف و الفرس إلى من أعطاه لأنّ السبيل مع هؤلاء لا يجوز، و من المعلوم أنّ المشار إليه بهؤلاء و هو ولاة الجور المتصدّون لإدارة البلاد الإسلامية حينذاك كما أنّ السبيل هو الجهاد و القتال و إن كان في مصداق الدفاع الّذي ربما يفعله المرابطون فصدر هذا الحديث مؤكّد لما دلّ عليه ما سبقه من الآيات و الأخبار.

فبعد هذا المنع لمّا لم يمكن ردّ ما أخذ إلى من أعطاه و المفروض أنّ الآخذ كان قد تعهّد الرباط أذن عليه السّلام بل أمر بأن يرابط و نهاه مجدّدا أيضا عن أن يقاتل، و إلى هنا تتّحد فيه الأنواع الثلاثة لنقل الحديث.

و بعد ذلك فقد تضمّن نقل المشايخ الثلاثة جواز بل وجوب أن يجاهد إذا خاف على ذراري المسلمين، و هذا الخوف يكون لا محالة من هجوم الكفّار على ثغور بلاد الإسلام بحيث يخاف ورود ضرر مالي أو نفسي على ذراري المسلمين، و ذيل الحديث بناء على جميع المصادر قد تضمّن أمر الإمام عليه السّلام بأن يقاتل عن بيضة الإسلام و علّله بأنّ في دروس الإسلام أو اندراسه دروس ذكر محمّد صلّى اللّه عليه و آله أو اندراس ذكره، و قد عطف في نسخ المشايخ الثلاثة «المسلمين» على «الإسلام» إلّا أنّ بيضة الإسلام لمّا كانت أساس الإسلام كما مرّ تفسيرها به عن ابن إدريس في السرائر و عن‏

                       

غيره و أساس الإسلام هو بعينه أساس المسلمين فلا يزيد ذكره شيئا خاصّا على الظاهر.

و بالجملة: فالمستفاد من هذه الرواية المعتبرة السند تجويز بل وجوب قتال مع الكفّار إذا هاجموا بلد الإسلام بحيث خفيف ضرر على المسلمين أو خيف على بيضة الإسلام و أساسه، فهذا القتال الّذي هو في الحقيقة أحد قسمي الدفاع واجب حتّى في زمن الطاغوت و إن لم يستأذن فيه وليّ أمر المسلمين، لكنّه كما صرّح به الإمام عليه السّلام و أكّده يجب بما أنّه قتال و دفاع لنفسه و عن الإسلام لا بما أنّه قتال تحت لواء الجائر، فانظر عبارة الإمام حيث قال عليه السّلام فيه: «فيكون قتاله لنفسه و ليس للسلطان» أو «يقاتل عن بيضة الإسلام لا عن هؤلاء» أو «فلا يقاتل عن هؤلاء و لكن يقاتل عن بيضة الإسلام» فهذا التأكيد تأكيد و إصرار على بيان شدّة حرمة الجهاد تحت لواء الطواغيت.

ثمّ إنّ مورد هذه الصحيحة كما ذكرنا هو دفع الكفّار في زمن الطاغوت، فلو فرض حدوث ما فرضه الإمام عليه السّلام في زمن وليّ الأمر المعصوم عليه السّلام، بأن كانت القوى الدفاعية لوليّ الأمر غير حاضرة و هجم الكفّار على بلد من بلاد المسلمين و خيف منهم على ذراري المسلمين هناك أو على أساس الإسلام في هذه الناحية فالظاهر أنّه يستفاد من الصحيحة وجوب قيام المسلمين بأنفسهم في وجههم و قتالهم و إن لم يستأذنوا الإمام في خصوص المورد، و ذلك أنّ المستفاد منها أنّ عروض هذا الخوف- إن لم يقوموا بصدد الدفاع و القتال- هو العلّة التامّة لوجوب القيام بالقتال و هي بعينها موجودة في الفرض زمن ولايته عليه السّلام أيضا، فحينئذ أيضا يقاتل عن بيضة الإسلام و عن ذراري المسلمين، إلّا أنّ من الواضح أنّ هذا الجواز أو الوجوب و عدم تأخير الأمر إلى تحصيل الإذن عن وليّ الأمر إنّما هو لاستلزامه وقوع ضرر على بيضة الإسلام أو ذراري المسلمين، و إلّا فوجوب كون القتال مطلقا بأمر وليّ الأمر أو إذنه مسلّم، و التزاحم هنا أوجب القيام بالقتال الدفاعي بلا تحصيل إذن منه، و حينئذ فإنّما يرفع اليد عن ذاك الواجب الآخر

                       

بمقدار الضرورة، فاللازم على المسلمين في حين أنّه يجب عليهم القيام بالدفاع فاللازم معه أيضا أن يعلنوا الأمر إلى وليّ الأمر لكي يكون دوام الدفاع و كيفيّته تحت أمره و كيفما أراد، و هذا ما ذكرناه أوّل البحث و نقلنا طرفا منه من كلمات الأصحاب قدّس سرّهم.

ثمّ لو فرض حدوث بغي طائفة من الرعية العصاة فبغوا و لم تكن القوى المسلحة موجودة و استلزم تأخير أمر الدفاع عنهم إن يرد ضرر على ذراري المسلمين أو خيف على خروج هذه الناحية عن إدارة وليّ الأمر و لو مؤقّتا فلا يبعد أن يقال بوحدة حكمه مع ما سبقه من هجوم الكفّار، و ذلك لما أشرنا إليه من أنّ المستفاد من الصحيحة أنّ العلّة التامّة لوجوب القتال أن لا يقع ضرر على ذراري المسلمين أو على بيضة الإسلام و لا خصوصية قطعا لأن يكون منشأ هذا الضرر الكفّار فيجري الحكم في الدفاع عن البغاة أيضا، إلّا أنّه يجب هنا أيضا إعلام الحادثة بالسرعة إلى وليّ الأمر ليكون بقاء الدفاع تحت أمره لما عرفت.

فهذه الصحيحة بمدلولها الواضح حجّة معتبرة على عدم وجوب أمر الإمام و لا إذنه في الدفاع المزبور، و هي خاصّ مطلق يخصّص بها إطلاق أدلّة اعتبار إذن الإمام و أدلّة حرمة القيام بالقتال إذا لم يكن إذن فيه، إلّا انها كما عرفت لا تنفي وجوب القيام بكمال السرعة إلى إعلام الأمر لوليّ الأمر أو المنصوب من قبله ليكون بقاء الدفاع تحت أمره و كيفما أراد.

بل يمكن النقاش في اقتضاء الإطلاقات للمنع عن القيام باقتال الدفاعي ضدّ الكفّار أو البغاة في مفروض الكلام، و ذلك لما عرفت من أنّ وكول أمر القتال إلى وليّ الأمر ليس أمرا حديثا أبدعه الإسلام بل هو أمر يعتقد به العقلاء أنفسهم فيرون أنّ أمر القتال في كلّ أمّة و أهل بلد موكول إلى وليّ أمر هذه الامّة إلّا انهم مع ذلك يرون الدفاع عن هجمة المهاجمين أو الباغين على حكومتهم المرضية لازما، فهذا الأمر اللازم قد اوكل إلى وليّ الأمر و هو من حقوقه و ليس لغيره‏

                       

الاستقلال به الّا أنّه مع ذلك فإن حدث الهجوم من خارج بلادهم أو من بغاة لا يرضونه و كان وليّ الأمر غائبا في محلّ الحادث بحيث خفيف على بعض الرعية أو على انفضاض دائرة الولاية المرضية لهم- و لو موقّتا- فهم يرون حينئذ على أنفسهم أن يقوموا بقتال المهاجمين من البغاة، إلّا انهم أيضا يرون هذا الوجوب أمرا مضطرّا إليه و لذلك فيرون الإقدام بإعلام الحادثة إلى وليّ الأمر لازما كما مرّ و ذلك أنّه مقتضى تحقّق المزاحمة على ما عرفت.

و حينئذ، فإذا كان أمر وجوب ايكال أمر القتال إلى وليّ الأمر عند العقلاء هكذا و ألقى إليهم تلك الأدلّة الدالّة على هذا الإيكال في الشريعة الإسلامية أيضا فلا يفهمون العقلاء أنفسهم من هذه الأدلّة الشرعية إلّا أنّ شارع الإسلام أيضا يمضي ما هو عليه بناء العقلاء و لا يفهمون منه إلّا ولاية في حدود ما عليه بناؤهم فلا يفهمون منه المنع عن القتال الدفاعي في الفرض المزبور.

و كيف كان، فهذا هو وضع الإطلاقات فلا تدلّ على منع القيام بالدفاع في هذا الفرض، و لو سلّمت دلالتها فلا ريب في أنّ الصحيحة المتقدّمة دليل معتبر على تقييدها كما عرفت.

ثمّ من الواضح أنّ الفرض المذكور إنّما يمكن تصويره في القتال الدفاعي بقسميه و أمّا الجهاد الابتدائي فلا يتصوّر فيه لأنّ المفروض فيه أنّ القتال يبتدأ به من ناحية المسلمين و إلّا فلا حادثة أصلا.

فالحاصل: أنّ مقتضى الأدلّة وكول أمر القتال مطلقا إلى وليّ الأمر و حرمة القيام به استقلالا إلّا في الفرض المزبور في خصوص القتال الدفاعي بالنحو المذكور.

 [الأخبار المعارضة لأدلّة أنّ أمر الجهاد بيد وليّ الأمر]

و لا يوجد فيما وصل إلينا من الأخبار ما يوهم الخلاف إلّا روايات ثلاث:

إحداها: ما رواه الكليني عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد بن عيسى ابن عليّ بن الحكم عن أبي عمرة السلمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سأله رجل فقال: إنّي كنت أكثر الغزو و أبعد في طلب الأجر و أطيل الغيبة فحجر ذلك عليّ‏

                       

فقالوا: لا غزو إلّا مع إمام عادل فما ترى أصلحك اللّه؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إن شئت أن اجمل لك أجملت، و إن شئت أن الخّص لك لخّصت، فقال: بل أجمل، قال:

إنّ اللّه عزّ و جلّ يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة قال: فكأنّه اشتهى أن يلخّص له، قال: فلخّص لي أصلحك اللّه، فقال: هات، فقال الرجل: غزوت فواقعت المشركين فينبغي قتالهم قبل أن أدعوهم؟ فقال: إن كانوا غزوا و قوتلوا [و قتلوا- خ يب‏] و قاتلوا فإنّك تجتري [تجتزي- خ يب‏] بذلك، و إن كانوا قوما لم يغزوا و لم يقاتلوا فلا يسعك قتالهم حتّى تدعوهم، قال الرجل: فدعوتهم فأجابني مجيب و أقرّ بالإسلام في قلبه فجير عليه في الحكم و انتهكت حرمته و أخذ ماله و اعتدي عليه فكيف بالمخرج [بالخروج- خ يب‏] و أنا دعوته؟ فقال: انّكما مأجوران على ما كان من ذلك، و هو معك يحوطك [يحفظك- خ يب‏] من وراء حرمتك و يمنع قبلتك و يدفع عن كتابك و يحقن [يحفظ- خ يب‏] دمك خير من أن يكون عليك، يهدم قبلتك و ينتهك حرمتك و يسفك دمك و يحرق كتابك «1».

و رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمّد عن عليّ بن الحكم عن أبي عمرة السلمي مثله إلّا في بعض الكلمات الّتي أشرنا إليه «2».

فمورد سؤاله- في أوّل كلامه- هو جواز الغزو مع غير الإمام العادل، و حينئذ فالجواب الإجمالي عنه بقوله عليه السّلام «إنّ اللّه يحشر الناس على نيّاتهم» فيه دلالة واضحة على جوازه إن كانت نيّته حسنة، كما أنّه جوابه الملخّص حاصله بيان شرط الجهاد بالدعوة إلى الإسلام و لو كان القوم المقاتلون دعوا إليه قبلا بدليل سبق غزوهم فلا يشترط جوازه بالدعاء إليه. ثمّ صرّح عليه السّلام بأنّ هذا الّذي قوتل إذا أقرّ بالإسلام ثمّ انتهكت حرمته فمع ذلك أيضا هو و من قاتله مأجوران.

و بالجملة: فالإنصاف أنّ دلالة الرواية على الجواز واضحة لا سبيل إلى‏

                       

إنكارها، إلّا أنّ سندها ضعيف فإنّ أبا عمرة السلمي مجهول و لم يعمل بالرواية أحد بعد ما عرفت من إجماع الأصحاب على أنّ الجهاد مع الجائر حرام بل إنّ أمر الجهاد مفوّض إلى وليّ الأمر الّذي هو الإمام العادل المعصوم عليه السّلام.

و ثانيها: كلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام- في نهج البلاغة- و قد شاوره عمر بن الخطّاب في الخروج إلى غزو الروم: و قد توكّل اللّه لأهل هذا الدين بإعزاز الحوزة و ستر العورة، و الّذي نصرهم و هم قليل لا ينتصرون و منعهم و هم قليل لا يمتنعون حيّ لا يموت، انّك متى تسر إلى هذا العدوّ بنفسك فتلقهم فتنكب لا تكن للمسلمين كانفة دون أقضى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلا محربا، و احفز معه أهل البلاء و النصيحة، فإن أظهر اللّه فذاك ما تحبّ، و إن تكن الاخرى كنت ردءا للناس و مثابة للمسلمين «1».

توضيح بعض ألفاظه: الكانفة: عاصمة يلجئون إليها. الحفز: هو الدفع و السوق الشديد. الردء: الملجأ المثابة: المرجع.

فقد شاوره عمر بن الخطّاب المتصدّي لأمور المسلمين جورا و طغيانا، و أشار إليه بأن يبعث لهذا الغزو رجلا محربا و يكون هو نفسه عاصمة يلجئون إليها و مرجعا و ملجأ للناس. ففيه دلالة واضحة على جواز تصدّي الجائر للحرب بل و على جواز أن يشارك الناس معه و تحت لوائه في هذا الغزو. فهو معارض للأخبار بل الآيات الماضية.

و لكنّ الحقّ فيه أن يقال: إنّه لا ريب في كون عمر جائر بل له الدور الأصيل في غصب الولاية الإسلامية، كما لا ريب في أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام و أصحابه الكرام قاموا بصدد بيان غصبه و جوره كما مرّ بعض الإشارة إليه في أوائل الكتاب و لكنّه كان- عملا- ملجأ للمسلمين و بيده إدارة أمر بلادهم و كان المسلمون يجاهدون جهادا ابتدائيا لتوسعة الإسلام و دعوة الكفّار إليه، فمعه لا محالة يكون كلام الأمير عليه السّلام‏

                       

هاهنا- بملاحظة هذه الجهة الثانية و نصيحة الإسلام و المسلمين و بيانا لما ينبغي أن يكون عليه وليّ أمرهم- دلالة على أنّ أمر الحرب و الجهاد بيد وليّ الأمر.

و بالجملة: فلا أقلّ من أنّه لا دلالة في كلامه عليه السّلام هذا على الخلاف أصلا.

و ثالثها: ما في نهج البلاغة من كلام له عليه السّلام و قد استشاره عمر بن الخطّاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه: إنّ هذا الأمر لم يكن نصره و لا خذلانه بكثرة و لا بقلّة، و هو دين اللّه الّذي أظهره و جنده الّذي أعدّه و أمدّه حتّى بلغ ما بلغ، و طلع حيث طلع، و نحن على موعود من اللّه و اللّه منجز وعده و ناصر جنده، و مكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه و يضمّه، فإن انقطع النظام تفرّق الخرز و ذهب ثمّ لم يجتمع بحذافيره أبدا، و العرب اليوم و إن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع، فكن قطبا و استدر الرحى بالعرب و أصلهم دونك نار الحرب، فإنّك إن شخصت من هذه الأرض (مع أهل مكّة و المدينة إلى أهل البصرة و الكوفة ثمّ قصدت بهم عدوّك- خ تمام) انتقضت عليك العرب من أطرافها و أقطارها حتّى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك ممّا بين يديك (من العيالات- خ تمام) (ثمّ ذكر عليه السّلام له- على ما في التمام- مقدار اعزام الجند من أهل البصرة و الكوفة و الشام و عمّان و سائر الأمصار، ثمّ قال:) إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك و طمعهم فيك، فأمّا ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإنّ اللّه سبحانه هو أكره لمسيرهم منك و هو أقدر على تغيير ما يكره (فثق باللّه و لا تيأس من روح اللّه إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ «1»- خ تمام). و أمّا ما ذكرت من (كثرة- خ تمام) عددهم فانّا لم نكن نقاتل فيما مضى (على عهد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و لا بعده- خ تمام) بالكثرة، و إنّما كنّا نقاتل بالنصر و المعونة (فأقم بمكانك الّذي أنت فيه‏

                       

و ابعث من يكفيك هذا الأمر، و السلام- خ تمام نهج البلاغة) «1».

و كيفية استفادة المعارضة من هذا الكلام و الجواب عنهما هي عين ما مرّ في كلامه السابق، و كلامه المبارك هذا أيضا يدلّ على أنّ أمر الجهاد بيد القيّم بالأمر الّذي هو عبارة اخرى عن وليّ الأمر، و موضوع كلامه عليه السّلام فيه هو القتال الشامل بإطلاقه للابتدائي منه و غيره، و إن كان هذا القتال للفرس- بقرينة قوله عليه السّلام: «فأمّا ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين»- قتالا دفاعيا عن هجمة الكفّار إلّا أنّه كما مرّ مرارا غير مانع عن إرادة الإطلاق.

فتحصّل بحمد اللّه تعالى أنّ المستفاد من الأدلّة كتابا و سنّة أنّ أمر القتال الابتدائي منه و الدفاعي بقسميه إلى وليّ الأمر و أنّ على الامّة و الرعية أن يطيعوه، و القيام بالقتال من ولاة الجور أو من بعض الامّة مستقلّا في زمن أخذ الأمر فيه بيد وليّ الأمر الإلهي حرام، كما أنّ الحضور في مثل هذا القتال لجميع الناس أيضا حرام، نعم إذا هجم الكفّار أو البغاة على ناحية من بلاد الإسلام مع عدم حضور قوى وليّ الأمر و كان تأخير الدفاع إلى أن يطّلع عليه وليّ الأمر فيعزم الجند مستلزما لورود ضرر مالي أو نفسي على المسلمين أو موجبا للخوف على بيضة الإسلام أو خروج ناحية عن دائرة ولاية أمر وليّ الأمر و لو موقّتا فيجب على المسلمين حينئذ القيام بأنفسهم بالقتال الدفاعي في حين الاستباق إلى إعلام الأمر لوليّ الأمر ليكون أمر بقاء الدفاع و كيفيّته بأمره المبارك.

تكملة: في أنّ أمر الصلح بيد وليّ الأمر

لقد عرفت أنّ أمر الحرب و الجهاد بيد وليّ الأمر فهنا نقول: فهكذا الكلام في الصلح و المهادنة، فإذا كانت شرائط جوازها متحقّقة فأمر المهادنة أيضا بيده‏

                       

يعقدها هو بنفسه أو من يأذن له فيه أو من كان قصد نصبه لأمر الجهاد.

 [أقوال الفقهاء فيه‏]

و المناسب ملاحظة أقوال أصحابنا أوّلا ثمّ العناية إلى أدلّة المسألة، فنقول:

1- قال الشيخ في جهاد المبسوط: فصل في ذكر المهادنة و أحكامها، الهدنة و المعاهدة واحدة، و هو وضع القتال و ترك الحرب إلى مدّة من غير عوض، و ذلك جائز، لقوله تعالى: وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها «1» و لأنّ النبيّ صالح قريشا عام الحديبية على ترك القتال عشر سنين.

2- و قال المحقّق قدّس سرّه في كتاب الجهاد من الشرائع عند البحث عمّن يجب جهاده- و هم البغاة و أهل الكتاب و سائر الكفّار: و أقلّه (أي النفور إلى الجهاد) في كلّ عام مرّة، و إذا اقتضت المصلحة مهادنتهم جاز لكن لا يتولّى ذلك إلّا الإمام أو من يأذن له الإمام.

و قال أيضا فيه عن البحث عن أحكام أهل الذمّة في عداد مسائل: الخامسة في المهادنة، و هي المعاقدة على ترك الحرب مدّة معيّنة، و هي جائزة إذا تضمّنت مصلحة للمسلمين إمّا لقلّتهم عن المقاومة أو لما يحصل به الاستظهار أو لرجاء الدخول في الإسلام مع التربّص، و متى ارتفع ذلك و كان في المسلمين قوّة على الخصم لم يجز، و يجوز الهدنة أربعة أشهر، و لا يجوز أكثر من سنة على قول مشهور، و هل يجوز أكثر من أربعة أشهر؟ قيل: لا، لقوله تعالى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «2» و قيل: نعم لقوله تعالى: وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها و الوجه مراعاة الأصلح، و لا تصحّ إلى مدّة مجهولة و لا مطلقا إلّا أن يشترط الإمام لنفسه الخيار في النقض متى شاء، انتهى.

فعبارته الاولى بما انها وقعت عند البحث عن كلّ من يجب جهاده فلا محالة تدلّ على مشروعية المهادنة إذا اقتضته المصلحة مطلقا و في جميع أقسام الجهاد، و قد صرّحت بأنّه لا يتولّى المهادنة إلّا نفس الإمام أو من يأذن له.

                       

و عبارته الثانية و إن وقعت عند البحث عن أحكام أهل الذمّة و في عداد المسائل المرتبطة بهم إلّا أنّ الاستدلال الواقع فيها- أعني قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ- كما ترى وارد في غير أهل الذمّة. كما أنّ استدلاله الآخر- أعني قوله تعالى: وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها- مطلق يعمّ كلّ- من يحاربه المسلمون فلا محالة مفاد هذه العبارة أيضا يعمّ كلّ محارب و يكون بصدد بيان جواز المهادنة مع المحاربين بجميع أقسامهم. نعم إنّ هذه العبارة الثانية قد تعرّضت لمدّة المهادنة الجائزة و انها هل تصحّ مجهولة المدّة أو مطلقة أم لا و هو أمر زائد، و لم يصرّح فيها بأنّ أمر المهادنة إلى الإمام إلّا ما يستفاد من فقرتها الأخيرة «إلّا أن يشترط الإمام لنفسه الخيار في النقض متى شاء» ففيها دلالة على أنّ أمر المهادنة بيد الإمام فيشترط لنفسه الخيار، مع أنّه لا حاجة إليه بعد التعرّض لاشتراط تولّي أمرها بالإمام الّذي هو عبارة اخرى عن وليّ الأمر عليه السّلام.

3- و قال قدّس سرّه في المختصر بعد البحث عن جهاد الأقسام الثلاثة المذكورة: و إن اقتضت المصلحة المهادنة جاز لكن لا يتولّاها إلّا الإمام أو من يأذن له.

و دلالته على جواز المهادنة إذا اقتضتها المصلحة كدلالته على أنّها منوطة بإذن الإمام واضحة.

4- و قال العلّامة قدّس سرّه في كتاب الجهاد من التذكرة عند البحث عن أحكام أهل الذمّة: البحث الخامس في المهادنة، مسألة 205: المهادنة و الموادعة و المعاهدة ألفاظ مترادفة، معناها وضع القتال و ترك الحرب مدّة بعوض و غير عوض، و هي جائزة بالنصّ و الإجماع؛ قال اللّه تعالى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «1» و قال تعالى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى‏ مُدَّتِهِمْ 2 و قال تعالى:

وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها و صالح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سهيل بن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين، و الإجماع واقع عليه لاشتداد الحاجة إليه.

                       

و يشترط في صحّة عقد الذمّة امور أربعة: الأوّل أن يتولّاه الإمام أو من يأذن له، لأنّه من الامور العظام لما فيه من ترك الجهاد على الإطلاق أو في جهة من الجهات و لأنه لا بدّ فيه من رعاية مصلحة المسلمين و النظر لهم و الإمام هو الّذي يتولّى الامور العامّة. هذا إذا كانت المهادنة مع الكفّار مطلقا أو مع أهل إقليم كالهند و الروم- ثمّ ذكر الحاجة و المصلحة فيها شرطا ثانيا، و خلوّ العقد عن شرط فاسد شرطا ثالثا، و المدّة شرطا رابعا فقال: الرابع المدّة، و يجب ذكر المدّة الّتي يهادنهم عليها و لا يجوز له مهادنتهم مطلقا، لأنه يقتضي التأبيد، و التأبيد باطل إلّا أن يشترط الإمام الخيار لنفسه في النقض متى شاء، و كذا لا يجوز إلى مدّة مجهولة ... «1».

و نحوه عبارة المنتهى إلى قوله «عشر سنين» 2.

مسألة 206: إذا كان بالمسلمين قوّة و رأى الإمام المصلحة في المهادنة هادن أربعة أشهر فما دون إجماعا، قال اللّه تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ... «3».

فهو قدّس سرّه في المسألة الاولى نصّ على أنّ شرط صحّة عقد الهدنة أن يتولّاه الإمام أو من يأذن له، كما أنّه ذكر في الثانية شرط جواز المهادنة أربعة أشهر أن يرى الإمام المصلحة في المهادنة. فعبارتاه قدّس سرّه واضحتا الدلالة على أنّ المهادنة أيضا موكولة إلى الإمام الّذي هو وليّ الأمر لا يتولّاها إلّا نفسه أو من يأذن له.

كما أنّه قدّس سرّه ادّعى الإجماع صريحا على جواز المهادنة في المسألة الاولى، و على جواز أن يجعل لها مرّة أربعة أشهر إذا رأى الإمام فيها المصلحة في المسألة الثانية، فلتكن على ذكر.

5- و قال في المنتهى: و لا يجوز عقد الهدنة و لا الذمّة بالجزية إلّا من الإمام أو نائبه، و لا نعلم فيه خلافا لأنّ ذلك يتعلّق بنظر الإمام و ما يراه من المصلحة فلم يكن للرعية تولّيه 4.

فتراه ادّعى اللاخلاف في اختصاص أمر الصلح بالإمام الّذي هو وليّ الأمر.

                       

6- و قال العلّامة قدّس سرّه في القواعد في كتاب الجهاد عند البحث عن المطالب المبحوثة عنها في فصل عقد الجزية: المطلب الرابع في المهادنة، و هي المعاهدة على ترك الحرب مدّة من غير عوض، و هي جائزة مع المصلحة للمسلمين، و واجبة مع حاجتهم إليها إمّا لقلّتهم أو لرجاء إسلامهم مع الصبر أو ما يحصل به الاستظهار ... و إنّما يتولّاها الإمام أو من نصبه لذلك ... ثمّ إن لم يكن الإمام مستظهرا لضعف المسلمين و قوّة شوكة العدوّ لم تتقدّر المدّة بل بحسب ما يراه و لو عشر سنين، و لو انعكس الحال لم تجز الزيادة على سنة لقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ»

 و يجوز إلى أربعة أشهر لقوله: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ و فيما بينهما خلاف أقربه اعتبار الأصلح «2».

فقد صرّح هنا أيضا بأنّه إنّما يتولّاها الإمام أو من نصبه لذلك و هو المبحوث عنه هاهنا ثمّ إن استدلاله لجواز السنة و الأربعة بالآيتين الواردتين في المشركين دليل على أنّ المحاربين الّذين يعقد معهم عقد المهادنة لا يختصّ بأهل الكتاب الّذين تختصّ الجزية بهم، و هكذا الأمر في كلماته الّتي نقلناها عن التذكرة، بل إنّ قوله هنا «و فيما بينهما خلاف» دليل على الوفاق في تعيين المدّة إلى سنة أو أربعة أشهر.

7- و قال العلّامة قدّس سرّه في الإرشاد: و يجوز عقد العهد على حكم الإمام أو نائبه العدل و المهادنة على حكم من يختاره الإمام.

فقال المحقّق الأردبيلي في شرحه: أي يجوز إيقاع عقد الصلح بأن يكون حكم الإمام متّبعا و كلّ ما حكم به فيكون ذلك متعيّنا و كذا نائبه العدل، و كذا يجوز عقده بحكم من يجعله الإمام حكما في ذلك و وجه كلّه ظاهر «3».

فهذا المذكور في الإرشاد- بقرينة الشرح- نحو من الصلح و المهادنة يتعقّبه‏

                       

حكم الإمام أو نائبه العدل أو من يختاره الإمام على من وقع معه الصلح بحكم شرعي لعلّه يكون سبي المتصالح و هو غير ما هو ظاهر المهادنة المذكورة في كلام المحقّق و العلّامة كما عرفت، و مع ذلك فقد اشترط فيه أيضا تصدّي الإمام أو من يختاره له.

8- و قال الشهيد في كتاب الجهاد من الدروس: و يحرم القتال أيضا بعد الهدنة و لا يتولّاها إلّا الإمام نائبه لمصلحة «1».

و قال أيضا في لواحق الجهاد من الدروس: و تتقدّر الهدنة بما دون السنة، فيراعى الأصلح في القدر و لو اشتدّ الضعف جازت إلى عشر سنين لا أزيد 2.

فعبارته الاولى صرّحت بأنّه لا يتولّى الهدنة إلّا الإمام أو نائبه، و ذكرت أنّ المجوّز لعقدها هي المصلحة الّتي لا محالة رآها الإمام الّذي هو وليّ الأمر أو نائبه فيها. نعم عبارته الثانية إنّما تعرّضت لذكر زمان المهادنة و أنّه ما دون السنة في غير ما إذا اشتدّ ضعف قوى الإسلام و إمكاناته و إلّا جازت إلى عشر سنين لا أزيد.

9- و قال الشهيد الثاني [المستشهد سنة 965 ه. ق‏] في المسالك- ذيل قول المحقّق في عبارته الثانية من الشرائع: «و متى ارتفع ذلك و كان في المسلمين قوّة على الخصم لم يجز، و يجوز الهدنة أربعة أشهر و لا يجوز أكثر من سنة على قول مشهور»-: و المراد بالهدنة الممتنعة ما زادت مدّتها عن أربعة أشهر لأنّ الهدنة أربعة أشهر جائزة مع المصلحة و بدونها، لأنّ اللّه تعالى سوّغ ترك الحرب في هذه المدّة في آية السياحة، و إنّما ترك القيد اتكالا على ما يذكره عن قريب و الحاصل:

أنّ ترك القتال أربعة أشهر سائغ بالمهادنة و غيرها، فإذا طلبوا المهادنة ذلك القدر كان سائغا، و في جوازها أكثر من ذلك خلاف يأتي.

تحريم المهادنة و ترك القتال مع المكنة أكثر من سنة ممّا لا خلاف فيه، و قد صرّح في التذكرة بالإجماع على عدم جوازها أكثر من سنة، كما أنّ جوازها أربعة أشهر فما دون إجماعيّ أيضا، و إنّما الخلاف فيما بين المدّتين، فنسبة المصنّف‏

                       

الحكم الأوّل إلى الشهرة ليس بجيّد، و كان الباعث له على ذلك استضعاف دليله مع عدم تحقّق الإجماع عنده و إن لم يعلم بالمخالف، فإنّ ذلك لا يكون إجماعا كما نبّه عليه المصنّف في أوائل المعتبر ... «1».

 

این مورد را ارزیابی کنید
(0 رای‌ها)
محتوای بیشتر در این بخش: « قسمت 14 قسمت 16 »

پیام هفته

همکاری با نفوذیان خائن و اختلاس‌گران بی دین
قرآن : لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ کامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (سوره نحل، آیه 52)ترجمه: تا روز قیامت بار گناهان خود را تمام بردارند ، و [ نیز ] بخشی از بار گناهان کسانی را که ندانسته آنان را گمراه می کنند. آگاه باشید ، چه بد باری را می کشند.حدیث: و ایما داع دعی الی ضلالة فاتبع علیه، فان علیه مثل اوزار من اتبعه، من غیر ان ینقص من اوزارهم شیئا!: (مجمع‌البیان، ج6، ص 365)ترجمه: ... و هر کس دعوت به ضلالت کند و از او پیروی کنند همانند کیفر پیروانش را خواهد داشت، بی آنکه از کیفر آنها کاسته شود.

ادامه مطلب

موسسه صراط مبین

نشانی : ایران - قم
صندوق پستی: 1516-37195
تلفن: 5-32906404 25 98+
پست الکترونیکی: این آدرس ایمیل توسط spambots حفاظت می شود. برای دیدن شما نیاز به جاوا اسکریپت دارید