قسمت 13

فالعبارة كما تری واضحة الدلالة علی أنّ حضور السلطان العادل أو منصوبه شرط في أصل انعقاد صلاة الجمعة و هو ما نبحث عنه، و لا ينافيه ذكر العدد شرطا للوجوب أو الاستحباب فإنّهما مسألتان لا بأس بذكرهما معا و عطف إحداهما علی الاخری.

7- و قال أبو الصلاح الحلبي في الكافي- في فصل صلاة الجمعة-: لا تنعقد الجمعة إلّا بإمام الملّة أو منصوب من قبله أو بمن يتكامل له صفات إمام الجماعة عند تعذّر الأمرين «2».

فهو قدّس سرّه قد اشترط انعقاد الجمعة بإمام الملّة أو منصوبه إذا أمكن و لم يتعذّر، فلا محالة يدلّ علی أنّ أمر الجمعة و عقدها مفوّض إلی الإمام عليه السّلام لا ينصرف عنه إلّا عند تعذّره.

8- و قال الشيخ علاء الدين أبو الحسن الحلبي في كتاب الصلاة من إشارة السبق: و تجب صلاة الجمعة إذا تكاملت شروطها، فمنها ما يخصّها و هي حضور إمام الأصل أو من نصبه و ناب عنه لأهليّته و كمال خصاله المعتبرة «3».

فقد جعل حضور إمام الأصل الّذي هو الإمام المعصوم عليه السّلام أو منصوبه شرطا لصلاة الجمعة، و ظاهره أنّها لا تصحّ مع عدمه و هو نفس ما نحن بصدده.

9- و قال ابن إدريس- في باب صلاة الجمعة من السرائر بعد ذكر شرائط من يجب عليه الجمعة-: و مع اجتماع هذه الشروط لا تنعقد إلّا بأربعة شروط و هي الشروط الراجعة إلی غيره [يعني غير من تجب عليه‏]: السلطان‏

                       

العادل أو من ينصبه للصلاة، العدد ... «1».

و دلالته علی أنّ شرط انعقاد صلاة الجمعة و صحّتها إمامة الإمام المعصوم المقصود بالسلطان العادل أو منصوبه واضحة.

و قال أيضا فيه- بعد نقل عبارة خلاف الشيخ الماضية الدالّة علی أنّ الإمام أو من يأمره شرط انعقاد الجمعة-: و الّذي يقوی عندي صحّة ما ذهب إليه في مسائل خلافه، و خلاف ما ذهب إليه في نهايته، للأدلّة الّتي ذكرها من إجماع أهل الأعصار، و أيضا فإنّ عندنا بلا خلاف بين أصحابنا أنّ من شرط انعقاد الجمعة الإمام أو من نصبه الإمام للصلاة.

و كلتا عبارتيه دالّة علی فتواه بما نحن بصدده مع أنّ الثانية مشتملة علی دعوی إجماع أهل الأعصار و عدم الخلاف فيه بين الأصحاب.

10- و قال سلّار في المراسم- في باب ذكر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بعد ذكر قوله: «فأمّا القتل و الجراح في الإنكار فإلی السلطان أو من يأمره السلطان، فإن تعذّر الأمر لمانع فقد فوّضوا عليهم السّلام إلی الفقهاء إقامة الحدود و الأحكام بين الناس»-: و لفقهاء الطائفة أن يصلّوا بالناس في الأعياد و الاستسقاء، و أمّا الجمع فلا «2».

فتجويزه للفقهاء أن يصلّوا بالناس صلاة العيد و الاستسقاء و عدم تجويزه لهم أن يصلّوا صلاة الجمعة فيه دلالة واضحة علی أنّ صحّتها و انعقادها مشروط عنده بحضور إمام الأصل الّذي جعل هو في المراسم حضوره أو من يقوم مقامه شرطا لوجوبها.

11- و قال المحقّق قدّس سرّه في المعتبر: السلطان العادل أو نائبه شرط في وجوب الجمعة و هو قول علمائنا- ثمّ نقل الخلاف فيه عن فقهاء العامّة ثمّ قال:- و البحث في مقامين: أحدهما في اشتراط الإمام أو نائبه و المصادمة مع الشافعي، و معتمدنا فعل‏

                       

النبيّ صلّی اللّه عليه و آله فإنّه كان يعيّن لإمامة الجمعة و كذا الخلفاء بعده كما يعيّن للقضاء، فكما لا يصحّ للإنسان أن ينصب نفسه قاضيا من دون إذن الإمام فكذا إمام الجمعة، و ليس هذا قياسا بل استدلالا بالعمل المستمرّ في الأعصار فمخالفته خرق للإجماع ... «1».

و ظاهر أوّل كلامه و إن أعطی أنّه في مقام عدّ شرائط الوجوب فكون الإمام أو نائبه شرطا في الوجوب لا دليل فيه أنّه شرط الانعقاد إلّا أنّ قوله عند بيان المقام الأوّل: «فكما لا يصحّ للإنسان أن ينصب نفسه قاضيا من دون إذن الإمام فكذا إمام الجمعة» يدلّ بوضوح علی أنّه لا يصحّ إمامة جمعة من أمّ فيها بغير إذن الإمام، و مآله إلی أنّ أمر صلاة الجمعة بيد الإمام وليّ أمر الامّة.

و يشهد له أيضا أنّه جعل المخالف في مسألة الاشتراط الشافعي، مع أنّه قد مرّ في عبارة الخلاف أنّ الشافعي مخالف في أصل اشتراط الإمام أو إذنه في الانعقاد و قائل بصحّة انعقادها و لو بلا إذن منه، فمنه يعلم أنّ أصل اشتراط الانعقاد أيضا محلّ الكلام.

12- و قال العلّامة في التذكرة: يشترط في وجوب الجمعة السلطان أو نائبه عند علمائنا أجمع- و به قال أبو حنيفة- للإجماع علی أنّ النبيّ صلّی اللّه عليه و آله كان يعيّن لإمامة الجماعة- و كذا الخلفاء بعده- كما يعيّن للقضاء و كما لا يصحّ أن ينصب الإنسان نفسه قاضيا من دون إذن الإمام كذا إمامة الجمعة ... و لأنّه إجماع أهل الأعصار فإنّه لا يقيم الجمعة في كلّ عصر إلّا الأئمّة ... «2».

و ظاهر أوّل كلامه و إن كان أنّه في مقام ذكر شرائط الوجوب إلّا أنّ ذكره لمثل العبارة الماضية عن المحقّق يشهد علی أنّه لا يری انعقاد جمعة صلّيت بلا إذن الإمام و نصبه مضافا إلی دلالة عبارته في الاستدلال بإجماع أهل الأعصار عليه أيضا.

13- و قال في المنتهی: و يشترط في الجمعة الإمام العادل أي المعصوم عندنا أو إذنه، أمّا اشتراط الإمام أو إذنه فهو مذهب علمائنا أجمع «3».

                       

و العبارة ظاهرة في أنّ الإمام المعصوم أو إذنه شرط صحّة صلاة الجمعة و انعقادها، و قد ادّعی أنّه مذهب علمائنا أجمع.

14- و قال الشهيد في الذكری في مقام تعداد شروط الجمعة: التاسع: إذن الإمام له كما كان النبيّ صلّی اللّه عليه و آله يأذن لأئمّة الجمعات و أمير المؤمنين عليه السّلام بعده، و عليه إطباق الإماميّة. هذا مع حضور الإمام عليه السّلام و أمّا مع غيبته كهذا الزمان ففي انعقادها قولان «1».

و واضح أنّ مفاد عبارته اشتراط الانعقاد بإذن الإمام عليه السّلام زمن الحضور و ادّعی عليه إطباق الإمامية.

15- و قال الشهيد الثاني في الروضة شرح اللمعة: و الحاصل أنّه مع حضور الإمام عليه السّلام لا تنعقد الجمعة إلّا به أو بنائبه الخاصّ و هو المنصوب للجمعة أو لما هو أعمّ منها و بدونه تسقط و هو موضع وفاق، و أمّا في حال الغيبة ... إلی آخره «2».

و عبارته واضحة الدلالة علی أنّ انعقاد الجمعة في زمن الحضور مشروط بإمامة الإمام أو نائبه و أنّه موضع وفاق، و هذا هو الّذي نحن بصدده من أنّ أمر صلاة الجمعة موكول إلی وليّ الأمر المعصوم و من اختياراته.

هذه نبذة من كلمات فقهائنا الكرام، و قد ظهر منها أنّ القول بأنّ صلاة الجمعة مفوّضة إلی وليّ الأمر المعصوم عليه السّلام قول معروف بين الأصحاب قد ادّعی عليه الإجماع و الوفاق و اللاخلاف، و نحوها في كلام جمع من متقدّمي الأصحاب و متأخّريهم.

و أمّا مقتضی الأدلّة فيمكن الاستدلال- لأنّ أمر صلاة الجمعة مفوّض إلی وليّ الأمر- بوجوه:

الأوّل: أن يستدلّ بالإجماعات المنقولة في كلام مثل الشيخ و ابن إدريس و المحقّق و العلّامة و غيرهم ممّا مرّ.

                       

لكن فيه: أنّه لو سلّم انعقاد الإجماع لم يكن ريب في أنّه محتمل المدرك بمثل الرواية المذكورة في الخلاف و قاعدة الاحتياط المذكورة فيه و في كلمات السيّد المرتضی و غيرهما و بمثل الإجماع العملي المذكور في كلماتهم و بغيرها من الوجوه الآتية، و حينئذ فلا يكشف عن دليل آخر معتبر غير ما ذكرنا و لا عن رأي المعصوم، و من الواضح أنّ الإجماع عندنا لا حجّة فيه إلّا إذا كان كاشفا.

الوجه الثاني: أن يستدلّ بأخبار ربما تكون دالّة عليه و هي عدّة من الأخبار:

1- فمنها ما رواه الصدوق في رواية علل الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام ففيها: فإن قال: فلم صارت صلاة الجمعة إذا كانت مع الإمام ركعتين و إذا كانت بغير إمام ركعتين و ركعتين؟ قيل: لعلل شتّی ... و منها أنّ الصلاة مع الإمام أتمّ و أكمل لعلمه و فقهه و فضله و عدله، و منها أنّ الجمعة عيد و صلاة العيد ركعتان و لم تقصر لمكان الخطبتين.

فإن قال: فلم جعلت الخطبة؟ قيل: لأنّ الجمعة مشهد عامّ فأراد أن يكون للإمام [للأمير- خ الوسائل‏] سبب إلی موعظتهم و ترغيبهم في الطاعة و ترهيبهم من المعصية و فعلهم و توقيفهم علی ما أرادوا [أراد- خ ئل‏] من مصلحة دينهم و دنياهم و يخبرهم بما ورد عليهم من الآفات و من الأحوال [الآفاق و من الأهوال- خ ئل‏] الّتي لهم فيها المضرّة و المنفعة و لا يكون الصائر في الصلاة منفصلا، و ليس بفاعل غيره ممّن يؤمّ الناس في غير الجمعة.

فإن قال: فلم جعلت خطبتان؟ قيل: لأن تكون واحدة للثناء و التمجيد و التقديس للّه عزّ و جلّ و الاخری للحوائج و الإعذار و الإنذار و الدعاء و لما يريد أن يعلمهم من أمره و نهيه ما فيه الصلاح و الفساد «1».

و الرواية كما عرفت في فصل القضاء معتبرة السند. و يمكن الاستدلال بهذه‏

                       

القسمة الّتي ذكرناها بمواضع منها:

ألف: ما ذكرته وجها لصيرورة صلاة الجمعة ركعتين لا أربع ركعات من قوله:

 «إنّ الصلاة مع الإمام أتمّ و أكمل لعلمه و فقهه و فضله و عدله». فإنّ مفروضية أنّ الإمام في صلاة الجمعة عالم فقيه فاضل إنّما تصحّ لو اريد منه الإمام المعصوم عليه السّلام و إلّا فإمام الجماعة لا يعتبر فيه بعد صحّة صلاته أكثر من أن يكون عادلا.

ب: ما ذكر وجها لجعل أصل الخطبة فإنّ الأهداف المذكورة إنّما يكون لها محلّ إذا كان إمام الجمعة إمام الأصل أو أميرا من امرائه، فإنّ لمثلهما توقيف المأمومين علی ما يريدون و ذكر مصالح دنياهم و إخبارهم بأخبار بلادهم الإسلامية من الآفات و الأهوال و الأحوال الّتي لهم فيها مضرّة أو منفعة، فإنّ مثلهما يكون مطّلعا بها واقفا عليها، و يؤكّد هذا الظهور إذا كانت النسخة في ابتداء هذه النكتة «الأمير» كما في الوسائل.

ج: ما ذكر وجها لوضع خطبتين فإنّ ذكر الحوائج شامل لحوائج البلد و سائر البلاد الإسلامية، و الإنذار مطلق يشمل ما كان متعلّقا بما فيه فساد للبلاد و النظام الإلهي الحاكم، و هذه الامور تكون بيد أولياء الأمر من الإمام و عمّال الولاية و لا سيّما الامراء و الأكابر و لا يطّلع عليها شخص من عامّة الناس و أوساطهم و إن كان علی أعلی صفة العدالة، كما أنّ أمر الإمام بما فيه صلاح الناس و نهيه عمّا يراه مفسدة لهم إنّما يتصوّر في الإمام الّذي هو وليّ الأمر و من كان أميرا بنصبه، فهما لازما الإطاعة عند الناس و إلّا فمن كان له مجرّد العدالة ليس له وجوب الطاعة و لا شأنية الأمر و النهي.

و بالجملة: فدلالة هذه الرواية علی أنّ أمر صلاة الجمعة بيد الإمام المعصوم وليّ الأمر و من نسب لها من عنده واضحة.

2- و منها ما رواه الشيخ عن إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبيه أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام كان يقول: إذا اجتمع عيدان للناس في يوم واحد فإنّه ينبغي للإمام‏

                       

أن يقول للناس في خطبته [خطبة- خ ئل‏] الاولی: أنّه قد اجتمع عيدان فأنا اصلّيهما جميعا، فمن كان مكانه قاصيا فأحبّ أن ينصرف عن الآخر فقد أذنت له «1».

و من الواضح أنّ المراد بالعيدين هما الجمعة و الفطر أو الأضحی فإنّهما اللذان من الأعياد لهما صلاة تصلّی بالجماعة، و قول الإمام فيه: «فقد أذنت له» فيه دلالة علی أنّ إمام الصلاة هو من له شأن الإذن للناس الّذين مكانهم قاص، و واضح أنّه الإمام وليّ أمر الامّة أو الأمير النائب المنصوب عنه، و إلّا فمن كان له مجرّد عدالة إمامة الجماعة فليس لمثله هذا الشأن، فالرواية دالّة علی أنّ إمام الجمعة بل العيد هو إمام الأصل و من يكون منصوبا من قبله.

فدلالة الرواية تامّة إلّا أنّ في سندها الحسن بن موسی الخشّاب و غياث بن كلوب و لم يصرّح بتوثيقهما بل في الثاني بعض كلمات ربما تكون ظاهرة في الغمز. و قد ذكر الشيخ لها سند آخر فيه محمّد بن حمزة بن اليسع و محمّد بن الفضيل و لم تثبت وثاقتهما أيضا.

3- و منها عن الجعفريّات بإسناده أنّ عليّا عليه السّلام قال: لا يصحّ [يصلح- خ الجعفريّات‏] الحكم و لا الحدود و لا الجمعة إلّا بإمام «2».

4- و قريب منه ما عن دعائم الإسلام عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: لا يصلح الحكم و لا الحدود و لا الجمعة إلّا بإمام «3».

                       

فقد حكم عليه السّلام بأنّ الجمعة لا تصحّ أو لا تصلح إلّا بإمام، و عدم الصلاح إذا لوحظ مطلقا بحيث لا يكون هناك صلاح أصلا كان مساوقا لعدم الصحّة، و إلّا فلو كان هناك صحّة لكان فيه صلاح فقد علّق و اشترط صحّة صلاة الجمعة بالإمام و حيث إنّه عليه السّلام عطفها علی الحكم و الحدود يعلم منه أنّ المراد بالإمام هو إمام الأصل و وليّ الأمر، و ذلك أن لا شأن لإمام الجماعة المحض أن ينوط به صحّة القضاء الإسلامي أو إجراء الحدود الشرعية، فيعلم أنّ المراد هو وليّ الأمر الّذي بيده و من وظائفه هذه الامور.

فدلالة هذين الخبرين أيضا تامّة إلّا أنّ الكلام في سندها.

5- و منها ما رواه الشيخ في التهذيبين بسند معتبر عن طلحة بن زيد- الّذي قال نفس الشيخ فيه أنّه عامّيّ المذهب إلّا أنّ كتابه معتمد- عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليهم السّلام قال: لا جمعة إلّا في مصر تقام فيه الحدود «1».

و رواه المستدرك عن كتاب العروس للشيخ جعفر بن أحمد القمّي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: لا جمعة إلّا في مصر تقام فيه الحدود «2».

و الظاهر أنّ سند الشيخ معتبر كما عرفت و رواية العروس مرسلة مؤيّدة له.

فالحديث كما تری قد نفی الجمعة إلّا أن تؤتی في مصر تقام فيه الحدود، و إقامة الحدود لمّا كانت مشروطة بالإمام أو من ولّاه لها فلا محالة يكون مفاد الحديث أنّه لا جمعة إلّا في محلّ يكون الإمام أو نائبه المنصوب موجودا، و هو عبارة اخری عن أنّ إقامة الجمعة موكولة و مفوّضة إلی الإمام. و منه تعرف أنّ الحديث ناظر إلی زمان فعلية ولاية الإمام الأصل و تصدّيه لإدارة امور الامّة و أنّ مفاده اشتراط الإمام أو منصوبه لا أنّ للمصر خصوصية بل إنّ تمام الخصوصية لأن تكون محلّ‏

                       

إقامة الحدود. و مع ذلك فلا مجال لحمله علی التقية كما ارتكبه الشيخ في تهذيبه.

6- و منها ما عن سيّد الساجدين في الصحيفة السجّادية في دعائه يوم الأضحی و يوم الجمعة: اللّهمّ إنّ هذا المقام لخلفائك و أصفيائك و مواضع امنائك في الدرجة الرفيعة الّتي اختصصتهم بها قد ابتزّوها و أنت المقدّر لذلك ... حتّی عاد صفوتك و خلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزّين يرون حكمك مبدّلا و كتابك منبوذا و فرائضك محرّفة عن جهات أشراعك و سنن نبيّك متروكة «1».

و بيان الاستدلال به أنّ الظاهر أنّ المراد بالمقام المشار إليه في كلامه عليه السّلام هو مقام تصدّي إقامة صلاة الجمعة و العيد و هذا هو وجه دعائه عليه السّلام به في اليومين، و عليه فيدلّ علی أنّ إقامتها لخلفاء اللّه و أصفيائه الّذين هم النبيّ و الأئمّة المعصومون صلوات اللّه عليهم أجمعين و هو ما رمناه. و لا مجال لإبداء احتمال أنّ المراد بالمقام المذكور مقام تشريف أئمّة الجور بمثل زيارة الناس لهم فإنّه ليس منه في الجمعة أثر أصلا، فدلالة هذه الفقرات من الدعاء تامّة و سنده سند الصحيفة.

7- و منها ما رواه المستدرك عن الجعفريّات بإسنادها عن عليّ عليه السّلام قال: العشيرة إذا كان عليهم أمير يقيم الحدود عليهم فقد وجب عليهم الجمعة و التشريق «2».

فقد علّق عليه السّلام وجوب الجمعة علی العشيرة بوجود أمير عليهم مخوّل لإقامة الحدّ، فيستفاد منه أنّ إقامة الجمعة موكولة إلی هذا الأمير المنصوب لا محالة من قبل وليّ الأمر و مآله أنّ إقامتها موكولة إلی وليّ الأمر و منصوبيه.

ثمّ إنّ في نسخة المستدرك الطبعة الحجرية «العشرة» مكان «العشيرة» و هو لا يوجب قصورا في معناه فإنّ العشرة أيضا جمع أقلّ من العشيرة، و العمدة في قوام‏

                       

الاستدلال اشتراط وجود الأمير المنصوب من قبل وليّ الأمر كما عرفت.

8- و منها رواية محمّد بن مسلم المروية عن التهذيبين و الفقيه- الّتي مرّ استدلال شيخ الطائفة قدّس سرّه بها في الخلاف و هكذا استدلّ بها العلّامة قدّس سرّه في التذكرة- عن أبي جعفر عليه السّلام قال: تجب الجمعة علی سبعة نفر من المسلمين [المؤمنين‏] و لا تجب علی أقلّ منهم: الإمام و قاضيه و المدّعي حقّا و المدّعی عليه و الشاهدان و الّذي يضرب الحدود بين يدي الإمام «1».

و بيان الاستدلال به أنّه أوجب الجمعة علی سبعة نفر و عدّ الإمام من هؤلاء السبعة، و من الواضح أنّ الإمام المذكور هنا هو وليّ الأمر فإنّه الّذي يكون له القاضي و من يضرب الحدود بين يديه و المتخاصمان و الشاهدان أيضا من استلزامات القضاء. و الحاصل: أنّ إمام الأصل قد عدّ ممّن يجب عليه و ممّن يتقوّم به الحدّ الأقلّ و هو ما نحن بصدده من أنّ أمر الجمعة مفوّض إليه و من اختياراته.

إلّا أنّ لقائل أن يقول: لو دلّت الرواية علی اشتراط و تعيين إمام الأصل بمجرّد ذكره لزم اشتراط وجود الستّة الآخرين المذكورين أيضا و وجوب حضورهم، مع أنّه ليس كذلك و لا يقول به أحد. فلا محالة يكون نظر الإمام عليه السّلام هو ذكر سبعة يكونون بحسب القاعدة حاضرين و معدّين لإقامة الجمعة و بهم يتحقّق الحدّ الأقلّ المشروط به الجمعة، و عليه فلا دلالة فيه علی اشتراط وجود أحد منهم بالخصوص أصلا.

9- و منها ما رواه في الجعفريّات بإسناده عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام أنّ عليّا عليه السّلام سئل عن الإمام يهرب و لا يخلف أحدا يصلّي بالناس كيف يصلّون الجمعة؟ قال عليه السّلام: يصلّون كصلاتهم أربع ركعات «2».

                       

فتری أنّه مع فرض هرب إمام الجمعة و عدم تخليفه أحدا حكم عليه السّلام بانتقال فرضهم إلی أربع ركعات، فيعلم منه أنّ إمامة الجمعة كانت لشخص خاصّ و بيده ففيه دلالة علی أنّه كان ينصب و لم يكن يجوز لغيره و غير من يخلفه إمامة الجمعة فيدلّ علی كونها مفوّضة بيد وليّ الأمر. إلّا أن يقال: غاية مدلوله عدم كون الإمامة فيها مطلقة من دون أن يدلّ علی إناطتها بخصوص ولاية الأمر، فمنتهی الأمر أن يكون فيه إشعار لا دلالة تامّة.

10- و منها ما رواه في الجعفريّات بإسناده أنّ عليّا عليه السّلام قال: ثلاثة إن أنتم خالفتم فيهنّ أئمّتكم هلكتم: جمعتكم و جهادكم و مناسككم «1». و أخرجه عنها المستدرك أيضا.

و الحديث كما تری يدلّ علی عدم جواز مخالفة أئمّة المسلمين في جمعتهم، فيعلم منه أنّ أمر صلاة الجمعة بيد الإمام الّذي هو وليّ أمر الامّة و تكون مخالفته فيها وجوبا للهلاك.

11- و منها صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: سألته عن اناس في قرية هل يصلّون الجمعة جماعة؟ قال عليه السّلام: نعم، و يصلّون أربعا إذا لم يكن من يخطب «2».

12- و مثلها معتبر الفضل بن عبد الملك قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إذا كان قوم في قرية صلّوا الجمعة أربع ركعات فإن كان لهم من يخطب لهم جمعوا إذا كانوا خمسة نفر و إنّما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين 3.

فهذان الحديثان المعتبران قد أجازا إتيان صلاة الجمعة إذا كان للقوم من‏

                       

يخطب لهم و إذا لم يكن لهم من يخطب لهم أوجبا عليهم إتيان ظهر الجمعة أربع ركعات، و الظاهر من عنوان «من يخطب لهم» هو من كان فعله أنّه يخطب لهم فلا محالة يدلّ علی أنّ تصدّي إمامة الجمعة و إتيان الخطبتين كان مختصّا بشخص خاصّ و هو لا يكون إلّا إذا كان التصدّي لها من ناحية من ينصب أئمّة الجمعة لها، و من المعلوم أنّه لم يكن و لا يكون إلّا من قبل ولاة الأمر و هو المطلوب.

و منه تعرف أنّ الحديثين ليسا بصدد التفصيل بين أهالي الأمصار و أهالي القری بل ما يكونان بصدده اعتبار وجود من سمته أنّه يخطب و هذا الشخص يوجد في الأمصار و ربما لا يوجد في بعض القری و لذلك احتاج إلی البيان فلا قدح من هذه الجهة فيهما.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّنا ننكر ظهور عنوان «من يخطب لهم» في من كان هذا فعله بل لا أقلّ من أنّه يحتمل أن يراد به من يقدر علی أن يخطب فالميزان و الملاك هو وجود من يقدر علی الخطبة و واضح أنّه لا يحتاج إلی النصب.

إلّا أنّ الإنصاف قوّة ذاك الاستظهار و بعد الاحتمال المزبور و كونه خلاف الظاهر جدّا.

و قد يقال: إنّه مع قبول الاستظهار المذكور فلا شاهد في الحديثين علی أنّ النصب كان من ناحية وليّ الأمر فلعلّه كان من غيره لكنّه كما أشرنا إليه أمر غير محتمل بعد ما كان نصب أئمّة الجمعة من ناحية ولاة الأمر علی ما عرفت في كلام أصحابنا الأعلام من دعوی إجماع أهل الأعصار إجماعا عمليّا عليه، و سيأتي إن شاء اللّه تعالی ذكر أخبار شاهدة علی صدق هذه الدعوی.

فقد تحصّل ممّا ذكرنا دلالة أخبار متعدّدة علی أنّ أمر إقامة الجمعة بيد وليّ الأمر، و بعض هذه الأخبار معتبرة السند و بعضها و إن كان بنفسه غير معتبر السند إلّا أنّ تكثّرها و استفاضتها يوجب الاطمئنان بالصدور، فالمدّعی ثابت بلا إشكال.

                       

ذكر ما ربما يعدّ معارضا لهذه الأخبار

و قد يمكن أن يقال: إنّ هاهنا أدلّة معتبرة تدلّ علی انّ إقامة صلاة الجمعة غير مفوّضة إلی وليّ الأمر بل بغيره و بدون إذنه أيضا تنعقد فتكون معارضة لهذه الأخبار، و لا بدّ من إعمال قواعد التعارض، فلا محيص من ملاحظة هذه الأدلّة، فنقول: إنّ هذه الأدلّة بعض آيات الكتاب الكريم و عدّة اخری من الأخبار:

أمّا الكتاب فقوله تعالی: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلی‏ ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ «1».

و بيان دلالته: أنّه تعالی قد أمر المؤمنين بالسعي إلی ذكر اللّه الّذي هو صلاة الجمعة و بترك البيع و الاشتغال بالامور الدنيوية فيما إذا نودي للصلاة يوم الجمعة، فموضوع هذا الأمر الظاهر في الوجوب هو مجرّد النداء إلی صلاة الجمعة، و هذا النداء بإطلاقه شامل لكلّ نداء و لم يقيّد بخصوص ما إذا كان إمام الجمعة وليّ الأمر أو منصوبا من قبله، بل حيث إنّ صلاة الجمعة يعتبر فيها الجماعة و إتيان خطبتين قبلها فإذا أتی إمام عادل بهما و أقام الصلاة فهي أيضا مشمولة للآية المباركة و لا محالة تكون صلاته صحيحة مشروعة و إن لم ينصبه وليّ الأمر.

و الحقّ أنّ موضوع الآية المباركة هو صلاة الجمعة الصحيحة الواجدة لجميع شرائط الصحّة و أمّا أنّ شرائط صحّتها ما هي؟ فلا نظر للآية الشريفة إليها، فهل تری شمول إطلاقها لما إذا كان إمامها بيّن الفسق أو لما إذا كان صلاته فاسدة لجهات اخری أو لما إذا أتی بها بأقلّ من سبعة نفر بل خمسة؟! بل لا شبهة في انصرافها إلی الجمعة الصحيحة فتدلّ الآية المباركة إلی وجوب الحضور فيها.

فلا محالة لا تدلّ علی أنّ إقامة الإمام الأصل أو نصبه ليست شرطا و أنّ الصلاة بلا إذن منه صحيحة فلا تعارض تلك الأخبار.

                       

و أمّا الأخبار المتعدّدة:

1- فمنها صحيحة زرارة الّتي رواها الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه بإسناده عن زرارة، قال زرارة: قلت له: علی من تجب الجمعة؟ قال: تجب علی سبعة نفر من المسلمين و لا جمعة لأقلّ من خمسة من المسلمين فإذا اجتمع خمسة و لم يخافوا أمّهم بعضهم و خطبهم «1».

و مرجع الضمير في قول زرارة «قلت له» هو أبو جعفر عليه السّلام بقرينة أنّه المرويّ عنه لزرارة في الرواية السابقة عليها فلا تكون مضمرة. و لهذه الجهة رواها في الوسائل بقوله: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام».

و بيان دلالتها أنّه عليه السّلام أفاد في صدر الجواب أنّه تجب الجمعة علی سبعة نفر من المسلمين و هذه السبعة مطلقة تشمل أيّ سبعة منهم حتّی إذا لم يكن فيهم الإمام الأصل و لا نائبه، و مقتضاه أنّ إتيانها بإمامة أحد منهم صحيح مشروع فلا يكون نيابة الإمام شرطا في صحّتها. ثمّ إنّ قوله في آخر الحديث: «فإذا اجتمع خمسة و لم يخافوا أمّهم بعضهم و خطبهم» أيضا مطلق شامل لكلّ خمسة، بل إنّ قيد «و لم يخافوا» يدلّ علی أن ليس فيهم الإمام الأصل و لا نائبه و إلّا فلا يخاف الإمام الّذي هو وليّ الأمر و لا نائب وليّ الأمر، فالصحيحة بصدرها و ذيلها تقتضي صحّة صلاة الجمعة بلا إمامة إمام الأصل و لا نائبه.

أقول: و لعلّ هذه الصحيحة أقوی دلالة من سائر الأخبار الآتية و لكن مع ذلك يرد عليه:

أوّلا: أنّه لعلّ المرتكز في أذهان أصحاب الأئمّة عليهم السّلام حتّی زرارة إنّ إمامة الجمعة لا بدّ و أن تنعقد بإمامة الإمام الأصل كما تشهد له صحيحة اخری عنه قال:

                       

حثّنا أبو عبد اللّه عليه السّلام علی صلاة الجمعة حتّی ظننت أنّه يريد أن نأتيه، فقلت: نغدو عليك؟ فقال: لا، إنّما عنيت عندكم «1».

فكما تلاحظ قد أوجب مجرّد حثّ أبي عبد اللّه عليه السّلام له علی صلاة الجمعة ظنّه بأنّه يريد أن يأتي الإمام و هذا دليل علی انعقاد ارتكاز «لا» علی وجوب إقامة الجمعة بإمامة مثله فمع هذا الارتكاز الثابت لمثله في زمن الصادق عليه السّلام و بعد سماعه تلك الرواية عن أبيه الباقر عليه السّلام فلعلّ المرتكز في ذهن أصحاب الأئمّة من السبعة و الخمسة هو العدّة الّذين كان فيهم الإمام أو نائبه فلا ينعقد للصحيحة إطلاق، و لعلّ ذكر عدم الخوف في الذيل بملاحظة أنّ هذا الجمع حتّی لو كان فيهم الإمام الأصل لعلّهم ربما يخافون إقامة الجمعة لإجماع عصرهم علی إقامة الجمعة بيد الطواغيت الولاة فإقامتها بإمامة غير منصوبيهم ربما تكون مخالفة ظاهرة لهم فتوجب الخوف. فمع هذا الاحتمال لا مجال للاستدلال بالصحيحة.

و ثانيا: أنّ من المحتمل أن يكون قوله «فإذا اجتمع» إلی آخره من فتاوی الصدوق رحمه اللّه ألحقه بالرواية بلا قرينة كما شوهد مثله منه في الفقيه، و قد احتمله السيّد البروجردي قدّس سرّه علی ما في البدر الزاهر و قال: قد سبقنا إلی هذا الاحتمال بعض آخر منهم بحر العلوم بل في حواشي الفقيه المطبوع بالهند أنّ من قوله: «و لا جمعة» إلی آخره لعلّه من كلام المؤلّف، و ممّا يؤيّد هذا الاحتمال أنّ المحقّق و العلّامة و الشهيد لم يذكروا هذه الرواية مع قوّة دلالتها في عداد ما استدلّوا بها علی وجوب الجمعة في عصر الغيبة تخييرا أو تعيينا و لعلّه ذكر لهم شيوخهم أنّ الذيل ليس من تتمّة الرواية «2»، انتهی.

و ممّا يشهد علی قوّة هذا الاحتمال أنّ الصدوق قدّس سرّه في كتاب هدايته قال في مقام الإفتاء: فإذا اجتمع يوم الجمعة سبعة و لم يخافوا أمّهم بعضهم و خطبهم،

                       

و الخطبة بعد الصلاة لأنّ الخطبتين مكان الركعتين الاخراوين ... و السبعة الّذين ذكرناهم هم الإمام و المؤذّن و القاضي و المدّعي حقّا و المدّعي عليه و الشاهدان «1»، انتهی. فقد فسّر السبعة الّذين ذكرهم أوّلا بهؤلاء السبعة الذين قد ذكر مثلهم في صحيح محمّد بن مسلم الّذي رواه الصدوق في الفقيه أيضا بعد صحيحتنا بثلاث روايات المذكور في الأدلّة الدالّة علی أنّ إقامة الجمعة بيد وليّ الأمر تحت الرقم 8، و «الإمام» المذكور في كلام الصدوق كما في الصحيح المزبور بقرينة ذكر القاضي و الخصمين و الشاهدين معه هو الإمام الأصل و وليّ الأمر الّذي يناسبه و لا ينفصل هؤلاء عنه علی القواعد، و حينئذ فيعلم أنّ الصدوق أيضا أراد من الإمام الّذي عدّه أحد السبعة هو الإمام الأصل، و أنّه لعلّه ارتكز في ذهنه أيضا أنّ الامام المذكور في الأحاديث هو الإمام الأصل فأثّر هذا الارتكاز في تعبيره في مقام الإفتاء في كتابه الافتائي الّذي تكون فتاواه فيه تابعة لما استفاده من الروايات.

فبالجملة: فعبارته في من لا يحضره الفقيه أيضا مثل عبارة هدايته تكون بيانا لفتواه، و أراد من «الإمام» المذكور فيهما الإمام الأصل، و كيف كان فهي فتوی منه و لا دليل فيها و لا حجّة علی عدم اعتبار الإمام الأصل و لا إذنه.

2- و منها ذيل صحيحة زرارة قال: حثّنا أبو عبد اللّه عليه السّلام علی صلاة الجمعة حتّی ظننت أنّه يريد أن نأتيه، فقلت: نغدو عليك؟ فقال: لا، إنّما عنيت عندكم «2».

فإنّ قوله عليه السّلام يدلّ علی جواز إقامة شيعته بأنفسهم لصلاة الجمعة و هو عبارة اخری عن أنّ إقامتها ليست منوطة و مشروطة بالإمام عليه السّلام، لكن فيه أوّلا: أنّ محلّ البحث هو إناطة إقامتها بهم عليهم السّلام إذا صاروا بالفعل متصدّين لإدارة امور الامّة و البلاد، و من الواضح أنّ الطواغيت غصبوا هذا المقام عنهم عليهم السّلام فجواز إقامتها

                       

للشيعة في هذا الفرض لا دلالة فيه علی جوازها لهم زمن فعلية ولايتهم و تصدّيهم لإدارة أمر الامّة خارجا.

و ثانيا: أنّ من المحتمل أن يكون هذا التجويز مصداقا لإنشاء الإذن منه عليه السّلام للشيعة، فكلّ أحد منهم تجتمع فيه شرائط إمام الجماعة و كان قادرا علی إتيان صلاة الجمعة صحيحة مأذون في أدائها و بمنزلة المنصوب من ناحيته، فلا دلالة في الحديث علی خلاف الأخبار الماضية.

3- و مثلها بيانا و جوابا ذيل رواية عبد الملك أخي زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال: مثلك يهلك و لم يصلّ فريضة فرضها اللّه. قال: قلت: كيف أصنع؟ قال:

صلّوا جماعة- يعني الجمعة- «1».

و تفسير الصلاة المأمور بإتيانها جماعة بصلاة الجمعة و إن كان من الراوي إلّا أنّه توضيح محض يدلّ علی إرادته صدر الرواية فإنّه عليه السّلام جعل سرّ هلاكه أنّه لم يصلّ صلاة فريضة فالمأمور به صلاة فريضة، و واضح أنّه كان يصلّي الفرائض اليومية كلّها و ما لا يوثق بإتيانها منها هي الصلاة الجمعة لعدم اجتماع شرائط الإمام فيمن كان إماما لها فلا محالة تكون هي المأمور بها.

4- و منها موثّقة سماعة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصلاة يوم الجمعة، فقال:

أمّا مع الإمام فركعتان و أمّا من يصلّي وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظهر،- يعني إذا كان إمام يخطب فإن لم يكن إمام يخطب فهي أربع ركعات و إن صلّوا جماعة- 2.

و توضيح ذيلها و إن كان أيضا من الراوي إلّا أنّه صحيح جدّا، فإنّ مجرّد وجود إمام الجماعة لا يوجب صيرورة الصلاة ركعتين، كما أنّ إتيان صلاة ظهر الجمعة- أعني أربع ركعات- بالجماعة ليس ممنوعا و لازمه هو ما ذكره بعنوان التوضيح.

و تقريب الاستدلال هو الأخذ بإطلاق لفظ «الإمام» الواقع في كلامه عليه السّلام فإنّه‏

                       

لم يقيّد بكونه معصوما أو منصوبا من قبله فيعمّ الشخص العادي إذا صار إماما للجمعة بعد وجدانه لشرائط إمامة الجماعة.

و الجواب: أنّ من البيّن عدم انعقاد إطلاق له فإنّه عليه السّلام ليس بصدد بيان شرائط الإمام و لا بصدد بيان حقيقة صلاة الجمعة و كيفيّتها و إنّما يكون في مقام بيان أنّه إذا أتيت مع إمام يخطب تكون ركعتين و إذا لم يكن لها هذا الإمام كانت أربع ركعات و هو عليه السّلام فارغ عن فرض أنّ إمام الجمعة واجد لشرائط الإمامة، فلا دلالة فيه أيضا علی الخلاف.

5 و 6- و منها صحيحة محمّد بن مسلم و معتبر الفضل بن عبد الملك «1» الماضيان ضمن أدلّة اشتراط الإمام الأصل أو نائبه تحت الرقم 11 و 12 ببيان أنّهما دلّا علی أنّ صلاة الجمعة ركعتان إذا كان لهم من يخطب، و المراد بمن يخطب هو من يقدر علی إتيان الخطبتين فيكون له إطلاق يشمل كلّ من قدر عليهما.

لكن قد مرّ أنّ المذكور فيهما: «إذا لم يكن من يخطب» أو «إن كان لهم من يخطب لهم» و هو ظاهر فيمن كان شغله أنّه يخطب لهم فيدلّ علی أنّ هنا مقاما يجعل للأشخاص هذا الشغل، و قد عرفت أنّ هذا المقام هو وليّ الأمر أو من ولّاه لذلك، و لهذا عددنا هما من أدلّة الوفاق، فتذكّر.

7- و منها صحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلّوا في جماعة و ليلبس البرد و العمامة و يتوكّأ علی قوس أو عصا و ليقعد قعدة بين الخطبتين و يجهر بالقراءة و يقنت في الركعة الاولی منهما قبل الركوع «2».

بيان دلالتها: أنّ موضوعها كما يظهر من ذيلها صلاة الجمعة و قد حكم بوجوب إقامتها إذا كانوا سبعة نفر و تمام موضوع الأمر بها و وجوبها أن يكونوا سبعة نفر و هذه السبعة مطلقة تشمل ما إذا لم يكن أحدهم الإمام و لا منصوبه،

                       

فإطلاقها يقتضي عدم اشتراطهما.

و الحقّ أنّ الصحيحة ليس لها هذا الإطلاق فإنّها في مقام مجرّد بيان اعتبار العدد في الوجوب لا في مقام عدّ جميع ما يعتبر فيها في إمامها أو في نفسها، فكما لم يذكر وجوب الخطبتين و لا عدالة الإمام و لا باقي شرائطه فهكذا شرط كونه إماما أو نائبه، مضافا إلی أنّه لو سلّم لها إطلاق فأدلّة الاشتراط دليل علی التقييد.

8- و مثلها صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: يجمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة فما زادوا، فإن كانوا أقلّ من خمسة فلا جمعة لهم و الجمعة واجبة علی كلّ أحد ... الحديث «1».

و لعلّ التعبير فيها بالخمسة لمكان أنّ الجمعة صحيحة بهم و أنّ السبعة شرط الوجوب. و كيف كان فتقريب دلالتها إطلاقها. و الجواب أيضا ما ذكرناه في الصحيحة السابقة.

9- و منها خبر محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عن أبيه عن جدّه عن النبيّ صلّی اللّه عليه و آله في الجمعة قال: إذا اجتمع خمسة أحدهم الإمام فلهم أن يجمعوا 2. و هو مثل صحيحة منصور. و تقريب دلالته و الجواب عنه أيضا هو ما عرفت.

10- و منها صحيحة زرارة بن أعين عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: إنّما فرض اللّه عزّ و جلّ علی الناس من جمعة إلی جمعة خمسا و ثلاثين صلاة منها صلاة واحدة فرضها اللّه عزّ و جلّ في جماعة و هي الجمعة ... الحديث «3».

و مثلها صحيحة محمّد بن مسلم و أبي بصير قالا: سمعنا أبا جعفر محمّد بن عليّ عليهم السّلام يقول: من ترك الجمعة ثلاثا متواليات بغير علّة طبع اللّه علی قلبه 4.

و بيان دلالتهما أنّهما دلّتا علی أنّ صلاة الجمعة من الصلوات الفرائض و تركها غير جائز و كلتاهما مطلقة لم تشترطا في إمامها شيئا، فلازم الإطلاق أن لا

                       

يشترط في إمامها لا أن يكون الإمام الأصل و لا أن يكون منصوبا من قبله.

و جوابنا عنهما أيضا أوّلا: أنّهما تكونان في مقام مجرّد بيان أنّ صلاة الجمعة فريضة و ليستا في مقام بيان شرائطها و لا شرائط إمامها و لا في مقام بيان حقيقتها و كيفيّتها، فلا إطلاق لهما أصلا. و ثانيا: أنّه لو سلّم لهما إطلاق فلا بدّ من تقييده بأدلّة الاشتراط.

و مثل هاتين الصحيحتين روايات متعدّدة اخری مذكورة في نفس ذاك الباب، و الكلام فيها أيضا هو الكلام فيهما.

11- و منها صحيحة اخری عن زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: صلاة الجمعة فريضة و الاجتماع إليها فريضة مع الإمام، فإن ترك رجل من غير علّة ثلاث جمع فقد ترك ثلاث فرائض، و لا يدع ثلاث فرائض من غير علّة إلّا منافق «1».

و موضع الاستدلال فيها هو الجملتان الاوليان بل الثانية منها ببيان أنّها جعل الاجتماع إلی صلاة الجمعة مع الإمام فريضة و «الإمام» المذكور فيها مطلق لم يشترط فيه أن يكون الإمام الأصل أو نائبه بل هو إمام الجماعة الّذي يصلّي الجمعة و هو مطلق.

و الجواب: أنّ اشتراط إتيان صلاة الجمعة بالجماعة أمر واضح من ضروريات الإسلام، فنفس الجملة الاولی دالّة بالالتزام علی وجوب كونها بالجماعة، و عليه فقوله عليه السّلام في الجملة الثانية «و الاجتماع إليها فريضة مع الإمام» لم يرد منه نفس وجوب إتيانها بالجماعة بل الاجتماع إلی صلاة الجمعة هو الحضور و المسير و الذهاب إليها. ففي الجملة الثانية أوجب الذهاب إليها و قيّد هذا الوجوب بأن تكون الجمعة مع الإمام، فلا محالة هذا الإمام هو الإمام الأصل.

و الصحيحة تفيد أنّه كما أنّ نفس صلاة الجمعة فريضة فهكذا الذهاب إليها فريضة

                       

اخری إذا كان مصلّيها و إمامها الإمام الأصل، و عليه فلا إطلاق فيها أصلا.

هذا تمام ما وصلنا إليه من الآيات أو الأخبار الّتي ربما توهم خلاف مدلول أدلّة الاشتراط، و قد عرفت عدم تمامية دلالة جميعها و أنّه لو فرضت لواحد منها دلالة فهي بالإطلاق، و أدلّة الاشتراط مقيّدات معتبرة لها.

فدلالة الوجه الثاني من الأدلّة- أعني الأخبار المتعدّدة علی أنّ أمر صلاة الجمعة مفوّض إلی وليّ الأمر- تامّة.

الوجه الثالث: أن يستدلّ لأنّ أمرها مفوّض إلی وليّ الأمر بأنّه لازم كونه قيّما و وليّا علی الامّة و ذلك أنّا و إن لم نعرف من طريق عقولنا بالهدف الاجتماعي اللازم التحصيل في صلاة الجمعة إلّا أنّ معتبر الفضل بن شاذان المذكور صدر الأخبار الدالّة علی الاشتراط دلّ بوضوح علی أنّ الهدف من صلاة الجمعة و إيجاب الخطبتين فيها أن يخبر إمام الجمعة كلّ المأمومين بما وقع في البلاد الإسلامية و حواليها من الأحوال و الأهوال و الآفات و يأمرهم بما يراه مصلحة لهم و ينهاهم عمّا فيه المفسدة و يأمرهم بما تحتاج إدارة أمر بلدهم إليه إلی غير ذلك ممّا مرّ بيانه، و لهذا الهدف بل الأهداف مصالح للأمّة أو مفاسد لا بدّ لمن إليه و عليه ولاية أمرهم أن يبيّنه لهم و إلّا كان قاصرا في العمل بما تقتضيه الولاية مقصّرا عند اللّه تعالی.

فتحصّل: أنّ الحقّ أنّ أمر إقامة صلاة الجمعة موكول و مفوّض إلی وليّ الأمر لا يجوز إقامتها إلّا بإمامته أو إمامة من ينصبه لها، و الحمد للّه ربّ العالمين.

تتمّة: في ذكر قرائن علی الإجماع العملي‏

قد مرّ عند ذكر أقوال الأصحاب قدّس سرّهم في المسألة دعوی الشيخ في الخلاف و ابن إدريس في السرائر و المحقّق في المعتبر و العلّامة في التذكرة الإجماع العملي من أهل الأعصار و الأمصار من زمن النبيّ صلّی اللّه عليه و آله علی أنّ إقامة الجمعة كانت بإمامة وليّ أمر المسلمين أو المنصوب من قبله، و الآن نقول: إنّه‏

                       

يوجد في الروايات ما يكون شاهدا علی صدق هذه الدعوی.

و الأخبار الّتي وقفنا عليها في هذا الأمر علی قسمين، فقسم منها وارد في حكاية فعل المعصومين عليهم السّلام، و قسم آخر في فعل الأصحاب.

1- فمن القسم الأوّل صحيحة زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: إنّ اناسا رووا عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه صلّی أربع ركعات بعد الجمعة لم يفصل بينهنّ بتسليم، فقال: يا زرارة إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام صلّی خلف فاسق فلمّا سلّم و انصرف قام أمير المؤمنين عليه السّلام فصلّی أربع ركعات لم يفصل بينهنّ بتسليم، فقال له رجل إلی جنبه: يا أبا الحسن صلّيت أربع ركعات لم تفصل بينهنّ فقال: [أما] أنّها أربع ركعات مشبّهات، و سكت، فو اللّه ما عقل ما قال له «1».

2- و منه خبر حمران بن أعين قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: جعلت فداك إنّا نصلّي مع هؤلاء يوم الجمعة و هم يصلّون في الوقت فكيف نصنع؟ فقال: صلّوا معهم. فخرج حمران إلی زرارة فقال له: قد امرنا أن نصلّي معهم بصلاتهم، فقال زرارة: هذا ما يكون إلّا بتأويل، فقال له حمران: قم حتّی نسمع منه، قال: فدخلنا عليه، فقال له زرارة:

إنّ حمران أخبرنا عنك أنّك أمرتنا أن نصلّي معهم فأنكرت ذلك، فقال لنا: كان الحسين بن عليّ عليهما السّلام يصلّي معهم الركعتين فإذا فرغوا قام فأضاف إليها ركعتين 2.

3- و منه رواية أبي بكر الحضرمي قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: كيف نصنع يوم الجمعة؟ قال: كيف تصنع أنت؟ قلت: اصلّي في منزلي ثمّ أخرج فاصلّي معهم، قال:

كذلك أصنع أنا 3.

فالأحاديث الثلاثة كما تری تدلّ بوضوح أنّ أمر إقامة الجمعة كان بيد القوم و أنّ أئمّة الجمعة كانوا فسّاقا و من عمّال الطاغوت أو الطواغيت هم أنفسهم و كان هذا المعنی واضحا عند الأصحاب أيضا كما يظهر من خبر حمران و الحضرمي‏

                       

و لهذا فكان الأمير عليه السّلام يصلّي ظهره بعد الحضور في صلاة جمعتهم أربع ركعات مشبّهات، و كان الحسين عليه السّلام يصلّي بنفسه ركعتين من ظهره مع صلاة جمعتهم ثمّ يصلّي الأخيرتين منها بعدها، و كان أبو جعفر الباقر عليه السّلام أيضا يصلّي أوّل الوقت ظهره في منزله ثمّ يخرج و يحضر جمعتهم و بذلك أمر أبا بكر الحضرمي. و هذا كلّه شاهد صدق علی دعوی الإجماع العملي الّذي ادّعاه اولئك الأعاظم قدّس سرّهم. هذا هو ما وقفنا عليه من أخبار القسم الأوّل.

و أمّا القسم الثاني منها فنفس خبر أبي بكر الحضرمي المذكور آنفا و صحيحة زرارة و رواية أخيه عبد الملك اللّتين نقلنا متنهما عند عدّ الأخبار الّتي ربما تعدّ معارضة لأدلّة الاشتراط فراجع الرقم 2 و 3 منها.

                       

الفصل السادس في أنّ أمر صلاة العيدين بيد وليّ الأمر

إنّ صلاة عيدي الفطر و الأضحی قد أكّد عليهما في الروايات و عبّر في أخبار متعدّدة أنّ صلاة العيدين فريضة «1». و قال شيخ الطائفة في الخلاف في كتاب صلاة العيدين: صلاة العيدين فرض علی الأعيان و لا تسقط إلّا عمّن تسقط عنه الجمعة، و خالف جميع الفقهاء في ذلك و قالوا: إنّها سنّة مؤكّدة إلّا أبا سعيد الاصطخري من أصحاب الشافعي فإنّه قال: هي من فروض الكفايات. دليلنا: إجماع الفرقة «2».

و ادّعی في الجواهر الإجماع علی وجوبها عينا محصّلا و منقولا قال: بل لعلّ المحكيّ منها متواتر «3».

و بالجملة: فقد نقل الإجماع علی وجوب صلاة العيدين في زمان حضور الإمام الأصل و لا سيّما زمن فعلية ولايته، و حينئذ فهل إقامتها مفوّضة إليه يقيمها بنفسه أو ينصب أحدا لإقامتها.

و قبل الورود في استبانة مقتضی الأدلّة نقول: إنّ المستفاد من أخبار عديدة أنّ النبيّ صلّی اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام زمن فعلية خلافته بل و عثمان كانوا يقيمون صلاة العيدين بأنفسهم.

                       

أمّا في مورد النبيّ صلّی اللّه عليه و آله فقد روی الشيخ في التهذيب في باب صلاة العيدين بسند صحيح عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله كان يخرج حتّی ينظر إلی آفاق السماء، و قال: لا يصلّينّ يومئذ علی بساط و لا بارية «1».

فالصحيحة- و لو بقرينة ذكرها في باب صلاة العيدين- تدلّ علی أنّه صلّی اللّه عليه و آله يقيمها و كان يخرج لأدائها إلی الصحراء.

و روی الصدوق في الفقيه بإسناده الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عن أبيه عليهما السّلام أنّه كان إذا خرج يوم الفطر و الأضحی أبی أن يؤتی بطنفسة يصلّي عليها، يقول: هذا يوم كان رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله يخرج فيه حتّی يبرز لآفاق السماء ثمّ يضع جبهته علی الأرض «2».

فبحسب هذه الصحيحة حكی الإمام الباقر عليه السّلام أنّ النبيّ صلّی اللّه عليه و آله كان يصلّي صلاة العيدين في الصحراء.

و روی الكليني في الكافي عن ليث المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قيل لرسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله يوم فطر أو يوم أضحی: لو صلّيت في مسجدك، فقال: إنّي لأحبّ أن أبرز إلی آفاق السماء «3». و هي أيضا في الدلالة مثل سابقتيها.

و روی الصدوق أيضا في العيون في باب السبب الّذي من أجله قبل عليّ بن موسی الرضا عليهما السّلام ولاية العهد من المأمون ... بسند معتبر عن ياسر الخادم و الريّان ابن الصلت و محمّد بن عرفة و صالح بن سعيد الكاتب قصّة استقدام المأمون له عليه السّلام إلی خراسان و قبوله لولاية العهد، و فيها: فلمّا حضر العيد بعث المأمون إلی الرضا عليه السّلام يسأله أن يركب و يحضر العيد و يخطب ... فبعث إليه الرضا عليه السّلام و قال: قد علمت ما

                       

كان بيني و بينك من الشروط في دخولي في هذا الأمر، فقال المأمون ... فلم يزل يردّه الكلام في ذلك، فلمّا ألحّ عليه قال: يا أمير المؤمنين إن أعفيتني من ذلك فهو أحبّ إليّ و إن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و كما كان يخرج أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فقال المأمون: اخرج كما تحبّ ... الحديث «1».

و قد رواه الكليني في الكافي أيضا إلّا أنّه أسند رواية صلاته و كيفيّتها إلی نقل ياسر الخادم فقط، فراجع الوسائل و اصول الكافي «2».

فهذه الرواية معتبرة السند إلی الراوي الأوّل و هؤلاء الرواة لم يوثّق منهم أحد سوی الريّان بن الصلت فقد نقل توثيق الشيخ له في رجاله في أصحاب الرضا و الهادي عليهما السّلام فالرواية صحيحة السند.

و قد تضمّنت أنّ الرضا عليه السّلام حكی أنّ رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله كان يخرج و أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام خرج لإتيان صلاة العيد.

فدلّت علی أنّهما عليهما صلوات اللّه كان يصلّيان صلاة الاجتماع بالجماعة في الصحراء.

و في الوسائل و غيره روايات اخر دالّة علی أنّ النبيّ صلّی اللّه عليه و آله كان يصلّي صلاة العيد بالجماعة خارج البلد، فراجع «3».

و أمّا في مورد أمير المؤمنين عليه السّلام فقد عرفت دلالة صحيحة الريّان بن الصلت عليه. و قد روی محمّد بن مسلم في الصحيح عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال الناس لأمير المؤمنين عليه السّلام: ألا تخلف رجلا يصلّي في العيدين؟ فقال: لا اخالف السنّة «4».

فظاهر الصحيحة أنّه نفسه عليه السّلام كان يصلّي بالناس في العيدين صلاتهما

                       

فالتمس الناس أن يخلف رجلا يصلّيها مكان نفسه فردّ التماسهم بقوله: لا اخالف السنّة. و يحتمل أن يريد الناس أن يخلف رجلا آخر يصلّي جماعة بمن كان ضعيفا لم يكن يقدر علی أن يخرج مع الناس إلی الصحراء و يصلّي مع الناس في جماعتهم فأباه و أجاب بما مرّ. و كيفما كان فقد دلّت الصحيحة علی أنّه عليه السّلام كان بنفسه يصلّي العيدين جماعة بالناس.

و في البحار و المستدرك عن كتاب عاصم بن حميد عن محمّد بن مسلم قال:

سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: قال الناس لعليّ عليه السّلام: ألا تخلف [لا تخلف- خ المستدرك‏] رجلا يصلّي بضعفة الناس في العيدين؟ قال: فقال: لا اخالف السنّة «1».

و مفاد هذا الحديث هو الاحتمال الثاني الّذي ذكرناه في صحيح ابن مسلم الماضي و قد عرفت دلالته علی المطلوب، و لعلّه نفس الصحيح الماضي.

و في المستدرك عن الجعفريّات بإسناده عن الصادق عن أبيه عن جدّه عليهم السّلام أنّ عليّا عليه السّلام أمر عبد الرحمن بن أبي ليلی يصلّي بالناس العيدين في المسجد الأعظم و كان عليّ عليه السّلام يخرج إلی المصلّی فيصلّي بالناس «2».

و يشتمل الحديث علی صلاة نفسه عليه السّلام العيدين بالناس جماعة، و لعلّ صلاة عبد الرحمن كانت في زمان آخر أو معه عليه السّلام و تتكرّر الصلاة.

و فيه عن الدعائم عن عليّ عليه السّلام أنّه قيل له: يا أمير المؤمنين لو أمرت من يصلّي بضعفاء الناس يوم العيد في المسجد، قال: إنّي أكره أن اسنّن سنّة لم يستنّها رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله «3».

                       

و هذا الحديث في الدلالة علی أنّه عليه السّلام يصلّي جماعة بالناس صلاة العيد مثل رواية ابن مسلم المروية عن كتاب عاصم.

و أمّا في مورد عثمان فقد روی محمّد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهما السّلام في صلاة العيدين قال: الصلاة قبل الخطبتين و التكبير بعد القراءة سبع في الاولی و خمس في الأخير، و كان أوّل من أحدثها بعد الخطبة عثمان لمّا أحدث إحداثه، كان إذا فرغ من الصلاة قام الناس ليرجعوا، فلمّا رأی ذلك قدّم الخطبتين و احتبس الناس للصلاة «1».

و في مضمر معاوية في صلاة العيدين: الخطبة بعد الصلاة و إنّما أحدث الخطبة قبل الصلاة عثمان «2».

و من الواضح أنّ الخطبة مختصّة بصلاة العيدين إذا أتی بها جماعة، فيدلّ الحديثان علی أنّ عثمان زمن إمارته كان يتصدّی إتيان صلاة العيدين بالناس جماعة.

فمن هذه الأخبار يثبت أنّ النبيّ صلّی اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام و عثمان كانوا يصلّون صلاة العيدين جماعة، و يحدس منها أنّ سائر ولاة المسلمين يتصدّونها كذلك.

بل قد روی في الجعفريّات بإسناده أنّ رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و أبا بكر و عمر و عثمان كانوا يجهرون بالقراءة في العيدين و في الاستسقاء و يصلّون قبل الخطبة «3» فألحقت بعثمان عمر و أبا بكر أيضا، و هي بقرينة ذكر الخطبة ناظرة إلی إتيانها بالجماعة.

إذا عرفت هذا الأمر الّذي هو كالمقدّمة فلندخل في تبيّن مفاد أدلّة الباب فنقول: يمكن الاستدلال لما ذكرنا بأخبار:

1- منها رواية عبد اللّه بن ذبيان (علی ما في التهذيب) أو رواية عبد اللّه بن‏

                       

دينار (علی ما في الكافي و بعض نسخ من لا يحضره الفقيه و علی ما في علل الشرائع) أو صحيحة عبد اللّه بن سنان (علی بعض آخر من نسخ الفقيه) عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: يا عبد اللّه ما من يوم عيد للمسلمين أضحی و لا فطر إلّا و هو يجدّد [يجدّد اللّه- يب‏] لآل محمّد صلّی اللّه عليه و آله فيه حزن [حزنا] قال: قلت: و لم؟ قال:

لأنّهم يرون حقّهم في يد غيرهم «1».

و دلالة هذا الحديث علی أنّ أمر صلاة العيدين موكول إلی وليّ أمر المسلمين تتّضح إذا لو حظ ما دلّت عليه الأخبار المتقدّمة من أنّ إتيانها كان بيد ولاة أمر المسلمين، فحيث إنّهم عليهم السّلام يرون في هذين اليومين تصدّي الأمر بيد هؤلاء الطواغيت فيتجدّد حزنهم، فيدلّ الحديث علی أنّ أمرها مفوّض إلی وليّ الأمر.

ثمّ إنّ عبد اللّه بن ذبيان و ابن دينار مجهولان، و عبد اللّه بن سنان و إن كان ثقة إلّا أنّ اختلاف النسخ يمنع اعتبار السند.

2- و مثل هذه الرواية ما ذكرناه في البحث عن اختصاص إقامة صلاة الجمعة بالإمام الأصل من دعاء عليّ بن الحسين عليهما السّلام علی ما في الصحيفة السجّادية، فراجع ما ذكرناه من المتن هناك تحت الرقم 6.

و قد نقل المستدرك عن رجال الكشّي دعاء قريبا من هذا الدعاء يناجي به المعلّی بن خنيس يوم العيد لمّا خرج فيه إلی الصحراء و رأی أنّ الخطيب يصعد المنبر، فراجعه «2»، و لعلّه رحمه اللّه أخذه من دعاء السجّاد عليه السّلام.

3- و منها صحيحة محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إذا شهد عند الإمام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوما أمر الإمام بالإفطار في ذلك اليوم إذا كانا شهدا قبل زوال الشمس، فإن شهدا بعد زوال الشمس أمر الإمام بإفطار ذلك‏

                       

اليوم و أخّر الصلاة إلی الغد فصلّی بهم «1».

و حاصل مفاد الحديث: أنّ شهادة الشاهدين بيّنة معتبرة تثبت بها الهلال- و إن كان من لوازم ما شهدت به- فيحكم به الإمام إلّا أنّه يؤخّر صلاة العيد إذا قامت البيّنة بعد الزوال إلی الغد فحيث إنّها تضمّنت تأخير الإمام لصلاة العيد يعلم منها أنّ الإمام هو المتصدّي لإقامة صلاة العيد و هو المطلوب. و من الواضح أنّ الإمام المذكور فيها هو وليّ الأمر و الإمام الأصل و إلّا فإمام الجماعة بما أنّه إمام الجماعة ليس له شأن الحكم بثبوت العيد كما لا يخفی.

4- و منها رواية إسحاق بن عمّار عن الصادق عن أبيه عليهما السّلام أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام كان يقول: إذا اجتمع عيدان للناس في يوم واحد فإنّه ينبغي للإمام أن يقول للناس في خطبته الاولی: إنّه قد اجتمع لكم عيدان فأنا اصلّيهما جميعا، فمن كان مكانه قاصيا فأحبّ أن ينصرف عن الآخر فقد أذنت له «2».

و تضمّن ذيلها إذن الإمام لانصراف من كان مكانه قاصيا فأحبّ الانصراف عن الآخر دليل علی أنّ الإمام المذكور فيها ليس إمام الجماعة فإنّه ليس له- بما أنّه إمام الجماعة- الإذن للناس فلا محالة اريد بالإمام فيها الإمام الأصل أو مثل الأمير المنصوب من قبله لإدارة أمر البلاد.

و من المعلوم أنّ المراد بالعيدين في الرواية هو الجمعة و عيد الفطر أو الأضحی فإنّ لهما صلاة فقد دلّت الرواية علی أنّ إمام صلاة العيد الّتي يؤتی بها أوّلا هو الإمام الأصل أو المنصوب من قبله و هو المطلوب.

و قد روي في المستدرك عن الدعائم و عن الجعفريّات روايتين قريبتي المضمون في الجملة لهذه الرواية، فراجع «3».

                       

5- و منها صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال الناس لأمير المؤمنين عليه السّلام: ألا تخلف رجلا يصلّي في العيدين؟ فقال: لا اخالف السنّة «1».

فيظهر من الصحيحة أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام نفسه كان يقيم للناس صلاة العيدين فسألوه أن يخلف رجلا آخر يصلّيها إمّا مكان نفسه عليه السّلام و إمّا لمن يتخلّف عن جماعة الناس الّذين يخرجون عن البلد لإقامة صلاة العيد خارج البلد فسألوه أن يقيم من يصلّي بهذا الجمع الّذي تخلّف لمكان مرض أو ضعف بهم منعهم عن الخروج- علی احتمالين مرّ ذكرهما عن قريب-. فكيف كان فقد أجابهم بأنّ هذا خلاف السنّة النبويّة و أنا لا اخالف السنّة، فتدلّ علی أنّ إقامة الصلاة بشخص الإمام و من هو مثله هي السنّة أو علی أنّ إقامة من يصلّي بالضعفاء خلاف السنّة، و علی أيّ حال فرجوع الناس إليه عليه السّلام في أن يقيم رجلا آخر لإقامة الصلاة يدلّ علی انعقاد ارتكاز المسلمين علی أنّ أمر إقامة صلاة العيد موكول إلی وليّ الأمر إمّا يقيمها بنفسه أو ينصب رجلا آخر لإقامتها، و قد منع طلبهم بأنّ إقامة آخر خلاف السنّة في مورد طلبهم أعني ما إذا كان الإمام الأصل يقيمها أو ما إذا كانت هناك جماعة عيد مشروعة و لم يبطل أصل ارتكازهم، ففيها دلالة علی المطلوب.

6- و منها صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من لم يصلّ مع الإمام في جماعة يوم العيد فلا صلاة له و لا قضاء عليه «2».

تدلّ الصحيحة علی أنّ صلاة العيد كانت تصلّی بالجماعة بإمامة الإمام و الإتيان بالإمام بالألف و اللام يوجب ظهوره في إرادة الإمام الأصل، و إلّا لأتی به بلا ألف و لام كما في عدّة روايات اخر، و قد حكم عليه السّلام بأنّه من لم يصلّ معه فلا صلاة له، ففي الصحيحة دلالة علی أنّ الإمام الأصل هو المتصدّي لإقامة صلاة العيد و أنّ عدم الحضور في جماعته يوجب أن لا يكون للمكلّف صلاة، و الفقرة الاولی هي المطلوبة.

                       

7- و مثل هذه الصحيحة في الجملة ما رواه قرب الاسناد بإسناده عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسی بن جعفر عليهما السّلام قال: سألته عن الصلاة في العيدين هل من صلاة قبل الإمام أو بعده؟ قال: لا صلاة إلّا ركعتين مع الإمام «1».

فموضوع سؤاله و إن كان إتيان صلاة اخری زائدة علی صلاة العيد و قد نفاه الإمام عليه السّلام في الجواب، إلّا أنّ إتيان الإمام فيه باللام في كلام السائل و الإمام دليل علی إرادة الإمام الأصل ففي جوابه بأن لا صلاة إلّا ركعتين مع الإمام دلالة علی المطلوب، فتأمّل.

ثمّ إنّ في بعض الأخبار دلالة علی أنّ صلاة العيد كانت تصلّی بمن كان شأنه و شغله إمامة هذه الصلاة.

ففي خبر جرّاح المدائني- الّذي لا يبعد اعتباره- عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

ليطعم يوم الفطر قبل أن يصلّي، و لا يطعم يوم الأضحی حتّی ينصرف الإمام «2».

و في موثّقة سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: متی يذبح؟ قال: إذا انصرف الإمام ... الحديث «3».

فالإتيان بالإمام مع اللام فيه دلالة علی أنّ إمام العيد كان شخصا خاصّا هذا شغله، و فيه دلالة علی أنّ هنا من كان يتصدّاه إمّا لأنّ أمر إقامة الصلاة مفوّض شرعا إليه كالإمام الأصل أو لأنّه منصوب من قبله.

و يوجد في الأخبار مثلهما بعض روايات اخر. كما توجد أخبار متعدّدة تدلّ علی أنّ بناء المسلمين كان علی إقامة صلاة العيدين بالجماعة و خارج البلد.

فتحصّل دلالة روايات متعدّدة علی أنّ أمر إقامة صلاة العيد مفوّض إلی الإمام الأصل وليّ أمر المسلمين إمّا أن يقيمها بنفسه و إمّا أن ينصب من يقيمها.

                       

الفصل السابع في أنّ بيد وليّ الأمر الحكم بثبوت هلال الشهور

إذا لم يعلم انقضاء شهر فلا ريب في أنّ مقتضی الاستصحاب بقاء هذا الشهر و عدم دخول الشهر التالي إلّا أن يقطع بانقضائه و دخول الشهر الآخر، و هذا المعنی ممّا قد قامت عليه أدلّة خاصّة معتبرة في هلال رمضان و شوّال.

ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: أنّه سئل عن الأهلّة، فقال: هي أهلّة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم و إذا رأيته فافطر «1».

و في صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إذا رأيتم الهلال فصوموا و إذا رأيتموه فأفطروا و ليس بالرأي و لا بالتظنّي و لكن بالرؤية ... الحديث 2.

فالصحيحتان كما تری قد علقتا وجوب الصيام في أوّل شهر رمضان و وجوب الإفطار في أوّل شوّال علی رؤية المكلّف نفسه للهلال، و الرؤية عبارة اخری عن حصول القطع له بدخول أوّل الشهر. و المفهوم من هذا التعليق أنّ رؤية الهلال هي تمام العلّة و العلة المنحصرة لثبوت أوّل الشهر فلا يقوم شي‏ء آخر مقامه، و قد صرّح بهذا المعنی في الصحيحة الثانية بقوله عليه السّلام: «و ليس بالرأي و لا بالتظنّي و لكن بالرؤية» يعني أنّ الرؤية الموجبة لليقين هي العلّة المنحصرة فلا عبرة بمجرّد

                       

الرأي المبني علی محاسبات أو بناءات غير قطعية و لا بالتظنّي، و بالجملة: فدلالة الصحيحتين علی ما ذكرنا واضحة.

و قد وردت بمضمون اولاهما أخبار عديدة معتبرة السند فراجع الباب الثالث من أبواب أحكام شهر رمضان من الوسائل.

و مقتضی الاستصحاب المذكور و ما استفدناه من أمثال الصحيحتين أنّ الرؤية أو القطع بدخول الشهر تمام العلّة لثبوته فلا محالة لا يجوز الاكتفاء بمجرّد حكم أحد بدخوله و لا بشي‏ء آخر إلّا أن يقوم دليل خاصّ علی الاكتفاء به فنخرج به عن مقتضاهما.

نعم إذا قامت بيّنة عادلة علی رؤية الهلال فحيث إنّها طريق معتبر شرعا فلا مجال معها لجريان الاستصحاب، و كذلك لا ينبغي الشبهة في الاكتفاء بها كما ورد بعض أخبار باب رؤية الهلال أيضا بذلك. ففي صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: صم لرؤية الهلال و افطر لرؤيته، و إن شهد عندك شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه «1». فقد حكم عليه السّلام بقضاء ما لم يصمه إذا لم يره ثمّ شهدت البيّنة به، و هو عبارة اخری عن الاعتماد علی البيّنة و أنّه معها لا حاجة إلی الرؤية.

و مثل هذه الصحيحة أخبار اخر كثيرة «2».

و أمّا حكم أحد به فمقتضی الأصل العملي و القاعدة الشرعية عدم اعتباره.

إلّا أنّه قد قام الدليل المعتبر علی ثبوت الهلال بحكم وليّ الأمر في روايات متعدّدة:

1- منها صحيحة محمّد بن قيس الّتي مرّت عن قريب عند ذكر الأخبار الدالّة علی أنّ أمر صلاة العيد مفوّض إلی الإمام «3». فإنّها دلّت علی أنّ الإمام يأمر بالإفطار إذا شهد عنده شاهدان علی أنّهما رأيا الهلال، فهذه الصحيحة دليل علی‏

                       

الاكتفاء بشهادة البيّنة علی رؤية الهلال و علی أنّ أمر الإمام الّذي بمعنی حكمه بدخول شهر شوّال حجّة شرعية علی الناس.

2- و منها صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ عليّا عليه السّلام كان يقول: لا اجيز في الهلال إلّا شهادة رجلين عدلين «1».

3- و مثلها صحيحة شعيب بن يعقوب العقرقوفي عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام أنّ عليّا عليه السّلام قال: لا اجيز في الطلاق و لا في الهلال إلّا رجلين 2.

فقوله عليه السّلام «لا اجيز» ظاهر في أنّه لا يجعل شهادة أحد ماضية إلّا شهادة رجلين عدلين، و جعلهما ماضية عبارة اخری عن حكمه عليه السّلام بمقتضاها، فتدلّ الصحيحتان علی أنّه عليه السّلام كان يتصدّی الحكم بالهلال بشهادة البيّنة العادلة و بوقوع الطلاق أيضا إذا شهدت بها البيّنة.

و احتمال أن يكون مراده عليه السّلام مجرّد بيان أنّ شهادة البيّنة تكفي في دخول الشهر و أنّ حضورها شرط لصحّة الطلاق خلاف ظاهر لفظة «اجيز» فإنّ ظاهرها جعل مقتضی شهادتها جائزة ماضية و هو إنّما يكون بالحكم علی طبقها.

4- و منها صحيحة عيسی بن أبي منصور قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام في اليوم الّذي يشكّ فيه، فقال: يا غلام اذهب فانظر أ صام السلطان أم لا؟ فذهب ثمّ عاد فقال: لا، فدعا بالغداء فتغدّينا معه «3».

و تقريب دلالتها: أنّه عليه السّلام علّق جواز الإفطار في يوم الشكّ- الّذي هو أوّل رمضان- بأن لا يصوم السلطان، فأفطر لمّا لم يصم السلطان، فتدلّ علی أنّ رأي السلطان محكّم في ثبوت الهلال و عدمه، و السلطان في زمنه و إن كان طاغوتا إلّا أنّه لا يمنع عن أن يكون كلامه عليه السّلام بيانا لحكم اللّه الواقعي و دليلا علی أنّ حكم سلطان الإسلام معتبر في رؤية الهلال و إنّما كانت التقية في تطبيقه‏

                       

علی الطاغوت و أكله الغداء لمّا لم يصم الطاغوت.

لكنّ الإنصاف إنكار الدلالة فإنّ عبارته عليه السّلام «اذهب فانظر أ صام السلطان أم لا؟» تطبيق منه عليه السّلام السلطان علی الشخص الخارجي و أنّه هل صام أم لا؟

و واضح أنّ فيه التقية و ليس مفاد كلامه بيان حكم كلّي، غاية الأمر أن يكون فيه إشعار بذلك الحكم الكلّي و لا يبلغ حدّ الدلالة.

5- و قريب من هذه الصحيحة ما أرسله رفاعة عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: دخلت علی أبي العبّاس بالحيرة، فقال: يا أبا عبد اللّه ما تقول في الصيام اليوم؟ فقال: ذاك إلی الإمام إن صمت صمنا و إن أفطرت أفطرنا، فقال: يا غلام عليّ بالمائدة فأكلت معه و أنا أعلم و اللّه أنّه يوم من شهر رمضان، فكان إفطاري يوما و قضاؤه أيسر عليّ من أن يضرب عنقي و لا يعبد اللّه «1».

و بيان دلالته يعلم ممّا سبق بل احتمال دلالته أقوی لمكان أنّه عليه السّلام أفاد ابتداء حكما كلّيا بقوله «ذاك إلی الإمام». إلّا أنّه مع ذلك لا تطمئنّ النفس بتمامية الدلالة لتطبيقه بلا فصل علی الوالي الطاغوتي و أكله معه تقية.

و يقرب من الصحيحة مرسلة عن داود بن الحصين عن رجل، و خبر آخر روي صحيحا عن البزنطي عن خلّاد بن عمارة، فراجع 2.

فالحاصل: أنّ هذه الأخبار الأربعة الأخيرة و إن لم تتمّ دلالتها بل و لا سند بعضها إلّا أنّ دلالة الصحاح الثلاث الاول تامّة، و لا ينبغي الريب في أنّ الهلال يثبت بحكم الإمام الأصل وليّ أمر المسلمين، و يكون مقتضی الأصل و القاعدة عدم اعتبار حكم غيره حتّی إن كان مجتهدا عادلا، و ذلك زمن فعلية ولايتهم عليهم السّلام خارجا و حين تصدّيهم لإدارة أمر الامّة.

إلّا أنّه قد يقال بدلالة بعض الأخبار علی اعتبار حكم غير وليّ الأمر أيضا،

                       

و هذه الأخبار علی طائفتين: فطائفة منها ربما يدّعی دلالتها علی اعتبار حكم كلّ مجتهد، و طائفة اخری علی اعتبار حكم القاضي.

أمّا الطائفة الاولی فهي ما رواه الصدوق في كمال الدين في باب ذكر التوقيعات فقال: حدّثنا محمّد بن محمّد بن عصام الكليني رضی اللّه عنه قال: حدّثنا محمّد ابن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب. و رواه الشيخ قدّس سرّه في كتاب الغيبة بقوله:

و أخبرني جماعة عن جعفر بن محمّد بن قولويه و أبي غالب الزراري و غيرهما عن محمّد بن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمّد بن عثمان العمري رضی اللّه عنه (رحمه اللّه- الغيبة) أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان (الدار- الغيبة) عليه السّلام: أمّا ما سألت عنه ... و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلی رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم و أنا حجّة اللّه عليهم (عليكم- الغيبة) «1».

و البحث عن سند الحديث أنّ محمّد بن محمّد بن عصام لم يصرّح فيه بتوثيق إلّا أنّه من جملة مشايخ الصدوق في نقله لكتاب الكافي و لسائر روايات رواها عن الكليني قدّس سرّه ذكره في مشيخة الفقيه و قد ترضّی له في المشيخة، و هنا أيضا في كتاب إكمال الدين كما مرّ، و الجماعة المذكورة في الغيبة- علی ما ذكره نفسه في كتاب رجاله في ترجمة جعفر بن محمّد بن قولويه- هم الشيخ المفيد و أحمد بن عبدون و الحسين بن عبيد اللّه و ابن عزور «2»، و عظم الشيخ المفيد وثقته أوضح من أن يخفی، و أحمد بن عبدون هو أبو عبد اللّه أحمد بن عبد الواحد بن أحمد البزّاز المعروف بابن حاشر مرّة و بابن عبدون اخری، كما أنّ الحسين بن عبيد اللّه هو ابن الغضائري و هما من شيوخه و قد نقل أنّ العلّامة قدّس سرّه صحّح في بيان طرق كتابي‏

                       

الشيخ رحمه اللّه أفاد ما يستفاد منه توثيق ابن عبدون و أنّ في تصحيحة لطريق الشيخ إلی محمّد بن عليّ بن محبوب الّذي فيه ابن الغضائري دلالة علی توثيقه. فبالجملة لا شبهة في ثقة الجماعة المذكورة إجمالا. و جعفر بن محمّد بن قولويه- علی ما عن النجاشي- من ثقات أصحابنا و أجلّائهم في الحديث و الفقه ... و كلّ ما يوصف به الناس من جميل و ثقة وفقه فهو فوقه «1». و عن الفهرست: يكنّی أبا القاسم ثقة له تصانيف كثيرة «2».

و الشيخ العظيم محمّد بن يعقوب الكليني قدّس سرّه من عظماء أهل الحديث و فوق الثقة.

و أمّا إسحاق بن يعقوب فلعلّه يكفي في ثقته أنّ مثل الكليني قد روی عنه و قد ورد في آخر هذا التوقيع: «و السلام عليك يا إسحاق بن يعقوب و علی من اتبع الهدی» و فيه دلالة علی علوّ رتبته إلّا أنّ راويه هو نفسه، و لم يرو عنه إلّا هذه الرواية و لم يذكر له في ترجمته إلّا هذه الرواية. و قد قال المحقّق النراقي في عوائده في عائدة عند ذكره لهذه الرواية: ما رواه الصدوق في إكمال الدين و الشيخ في كتاب الغيبة ... بالسند الصحيح العالي قال: سألت محمّد بن عثمان العمري ... «3».

فالحاصل: أنّه لا يبعد أن يعدّ سنده معتبرا.

و أمّا بيان دلالته فله طريقان: (أحدهما) أن يقال: إنّ هلال كلّ شهر هو أمر حادث جديد و قد قال عليه السّلام في التوقيع: «و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلی رواة حديثنا» فيشمله عموم الحوادث، و قد أمر عليه السّلام بالرجوع فيها إلی رواة حديثهم و حيث إنّ المعلوم أن ليس المراد من الرواة من كان شغله مجرد نقل الألفاظ فيراد منهم العلماء الّذين يستنبطون ما أراده المعصومون عليهم السّلام من كلماتهم‏

                       

و هم فقهاء الشيعة فيكون رأيهم و حكمهم بثبوت الهلال و لا ثبوته متّبعا.

إلّا أنّه قد يستشكل هذا البيان بأنّ ذكر عنوان «الرواة» فيه دلالة علی أنّ المراد بالحوادث هو ما يستفاد حكمه من الروايات، و لمّا كانت الروايات متضمّنة لأحكام الشريعة فلا محالة يكون المقصود من «الحوادث» هو ما لم يعلم حكمه الشرعي فيرجع فيه إلی رواة الأحاديث لكي يبيّنوا حكمه الشرعي المستفاد من الأحاديث، و عليه فتكون الحوادث منصرفة عن مثل الهلال الّذي لم يجهل حكمه و إنّما كان تمام الجهل في حدوثه الخارجي و رؤيته، فتأمّل.

 (الطريق الثاني) أن يقال: إنّه عليه السلام و عجّل اللّه تعالی فرجه الشريف بعد ما أمر بالرجوع إلی رواة الأحاديث قد علّل سرّ أمره بالرجوع إليهم بقوله: «فإنّهم حجّتي عليكم و أنا حجّة اللّه عليهم (كما في إكمال الدين) أو: عليكم (كما في كتاب الغيبة)» فلمكان أنّ العلماء حجّته عليه السّلام علی الناس أمر برجوعهم إليهم و أكّد كونهم حجّته بأنّه عليه السّلام حجّة اللّه عليهم يعني فلمكان أنّي حجّة اللّه عليهم فلا يتخلّفون عن وظائفهم أو بأنه عليه السّلام حجّة اللّه علی الناس المأمورين يعني فليس عليكم أن لا يعتبروا قول العلماء بعد أن كانوا حجّة من عند من هو حجّة اللّه عليكم.

و كيف كان، فهذا الأمر- أي كون العلماء حجّة وليّ الأمر عليه السّلام علی الناس- يقتضي بإطلاقه أن يثبت للعلماء أيضا كلّ ما هو ثابت لوليّ الأمر.

و قد مرّ أنّ حكمه عليه السّلام بثبوت الهلال معتبر شرعا واجب الاتباع فهكذا حكم العلماء الّذين هم حجّته عليه السّلام.

إلّا أنّ لقائل أن يقول: إنّ إعطاء هذا المنصب الجليل- أعني كون العلماء حجّته علی الناس- إنّما كان في زمان لم يتصدّ الإمام المعصوم عليه السّلام بنفسه لإدارة أمر الامّة بل كان علاوة عنه غائبا عنهم غير حاضر فيهم و كلامنا و موضوع بحثنا الآن إنّما هو في خصوص زمان يتصدّی الإمام الأصل لإدارة أمر الامّة و يصير بالفعل متولّيا لإدارة امور بلاد المسلمين.

                       

مع إمكان أن يدّعی انصراف كونهم حجّة إلی أنّ قولهم في مفاد الروايات الّتي بيدهم حجّة و ذلك بقرينة ما مرّ من أنّ الإرجاع إليهم إنّما هو إرجاع إلی ما يستفيدون و يفهمون من الروايات لكي تؤخذ منهم الأحكام الشرعية، فبعد هذا الارجاع أكّد سرّ هذا الإرجاع بأنّه عليه السّلام جعل العلماء حجّته علی الناس فينصرف كونهم حجّة إلی أنّهم حجّته عليه السّلام في مجرّد بيان الأحكام المستفادة من الروايات الّتي عندهم، و اللّه العالم.

فالمتحصّل: أنّه لا دليل في التوقيع أيضا علی اعتبار حكم الفقهاء بثبوت الهلال لا سيّما في زمن تصدّي الإمام الأصل لإدارة امور الامّة و البلاد الإسلامية.

و أمّا الطائفة الثانية فأخبار متعدّدة:

1- منها صحيحة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال- المروية في الباب الأوّل من أبواب قضاء من لا يحضره الفقيه- قال: قال أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام: إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلی أهل الجور، و لكن انظروا إلی رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه «1». و رواه الكليني بسند فيه معلّی بن محمّد إلّا أنّه قال: شيئا من قضائنا 2.

و رواه مثل الفقيه الشيخ في التهذيب لكن في سنده أيضا معلّی بن محمّد 3.

و مدلول الحديث بنفسه ليس أزيد من جعل كلّ رجل من الشيعة يعلم شيئا من قضاياهم قاضيا، و عليه فدلالته مبتنية علی أن يكون سمة القضاء ملازمة لاعتبار حكم القاضي في ثبوت الهلال إمّا لثبوت ذلك بأدلّتنا و إمّا لأنّه كان ثابتا لقضاة سلاطين الجور، فإثباته لأحد يفهم منه بانعقاد ارتكاز المخاطبين و بالدلالة الالتزامية الظاهر الاعتبار ثابت لمن يجعله المعصوم أيضا قاضيا.

لكن فيه أوّلا: أنّ دلالته متوقّفة علی إرادة الفقيه المجتهد من عنوان «رجل منكم‏

                       

يعلم شيئا من قضايانا (أو) من قضائنا» و هو محلّ كلام لقوّة احتمال أن يراد به من كان عالما به و لو من جهة التقليد و الأخذ من العلماء فموضوعه أعمّ من المدّعی.

و ثانيا: أنّه صريح في كونه ناظرا إلی زمن من كان تولّی امور المسلمين خارجا بيد الطواغيت و لذلك وصف القضاة الآخرين بأهل الجور، فلا محالة لا إطلاق و لا دلالة له علی بيان الأمر في زمان فعلية ولايتهم عليهم السّلام الّذي هو موضوع كلامنا.

2- و قريب منها خبر آخر عن أبي خديجة- رواه الشيخ في التهذيب بسند فيه أبو الجهم ثوير بن أبي فاختة الّذي لم يوثّق- قال: بعثني أبو عبد اللّه عليه السّلام إلی أصحابنا فقال: قل لهم: إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدار في شي‏ء من الأخذ و العطاء أن تتحاكموا إلی أحد من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بينكم رجلا ممّن قد عرف حلالنا و حرامنا فإنّي قد جعلته قاضيا، و إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلی السلطان الجائر «1».

و تقريب دلالته أيضا مثل تلك الصحيحة، و يرد عليه أيضا مثل ما مرّ بعينه، فتذكّر متأمّلا.

3- و منها مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، ففيها بعد نهيه عليه السّلام عن التحاكم إلی السلطان و إلی القضاة: قلت: فكيف يصنعان؟ [يعني المتخاصمين من أصحابنا] قال عليه السّلام: ينظران من كان منكم ممّن قد روی حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإنّي قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه و علينا ردّ، و الرادّ علينا الرادّ علی اللّه و هو علی حدّ الشرك باللّه ... الحديث «2».

و تقريب دلالتها أيضا مثل ما مرّ في سابقيها فإنّ الحاكم هو من يحكم و الحكم هو إعلام الرأي و النظر في موارد الاختلاف، فالحاكم هو القاضي و هو يحكم في‏

                       

مثل ما اختلف فيه الرجلان في دين أو ميراث المذكور صدر المقبولة.

و يرد عليه أيضا الإيراد الثاني من أنّها أيضا واردة في زمان تولّي الطواغيت لإدارة امور المسلمين فلا تعمّ محلّ كلامنا. نعم ربّما يقبل ظهورها بنفسها في أنّ موضوع حكمه عليه السّلام هو المجتهد العارف بالأحكام من النظر في حديث المعصومين عليهم السّلام لكنّه يحمل علی أنّه من باب ذكر المصداق بعد قيام إطلاق صحيحة أبي خديجة الماضية، و تمام الكلام من هذه الجهة في باب القضاء.

فتحصّل: أنّه لا دليل علی أنّ لأحد غير الإمام الأصل الحكم بثبوت هلال الشهر، و قد عرفت أنّ مقتضی الاستصحاب و القاعدة الخاصّة المستفادة من الروايات المعتبرة أنّه لا يثبت الهلال إلّا بالقطع الحاصل من الرؤية أو بشهادة العدلين، و لا محالة يبقی حكم الفقيه العادل أيضا تحت هذا الأصل و تلك القاعدة، و اللّه العالم.

هذا بالنسبة إلی مسألة اعتبار حكم وليّ الأمر بثبوت الهلال، و أمّا سائر ما مرّ من أنّه مفوّض إليه فلا ينبغي الريب في أنّه لا يعتبر فيها تصدّي شخصه لها بل إليه الأمر، فيجوز تصدّيه لمن نصبه و فوّضه له فيما فوّضه له، و الحمد للّه تعالی.

                       

الفصل الثامن في أنّ بيد وليّ الأمر تأسيس إدارات مختلفة في البلاد الإسلامية بمقدار يراه مصلحة لإدارة أمر الامّة

لا ريب في أنّ إدارة امور الامّة و البلاد الإسلامية تحتاج إلی القيام بإتيان أعمال مختلفة و وجود إدارات عديدة يتصدّی كلّ منها لقسم من هذه الأعمال.

فكلّ بلدة أو قرية تحتاج إلی شوارع متعدّدة بمقدار تتناسب مع سير السيارات لانتقال الناس و أمتعتهم، و إلی جعل المصابيح الكهربائية في الشوارع و الأزقّة بمقدار تصير نيّرة حدّ الحاجة، و إلی تنظيف البلاد و جمع القاذورات من الشوارع و الأزقّة بل و من الدور و المساكن، و إلی إعطاء ضوابط بناء المساكن و تعزير من يخالف تلك الضوابط.

كما أنّه مع العناية إلی تقدّم البشر في علومه يحتاج كلّ الناس إلی وجود الكهرباء لأن يستفيد به في إنارة مسكنه أو دكّته أو محلّ خدمته أو صنعته أو استخراج الماء من الآبار العميقة أو الأنهار الجارية الكبيرة للشرب أو الزراعة بأنواعها، كما يحتاجون إلی الغاز للطبخ أو تصيير المصنع موجدا للكهرباء أو غير ذلك من الفوائد الكثيرة، و كما يحتاجون إلی أنواع الوسائل المعدّة للمخابرات المختلفة و إلی أن يذهب بكتابه من بلدة أو قرية إلی اخری مثلا، و كما يحتاجون‏

                       

إلی أن يعطوا ماء الشرب بوجه صحّي مطلوب و إلی مستشفيات و مطارات، و كما يحتاجون إلی من يراقب أمر تجارتهم فيهديهم إلی تولّيه أو تهيئة ما للناس إليه حاجة فيحصل لهم الربح المعتدل و ترتفع حاجة الناس إلی غير ذلك من الامور الكثيرة ربما تزداد بزيادة التقدّم العلمي.

فوليّ الأمر إذا تفكّر حقّ الفكر فلا محالة يری صلاح الامّة الإسلاميّة أن يؤسّس لهم من قبل الدولة الإسلامية إدارات متعدّدة مختلفة يشتغل كلّ منها قسما خاصّا من تلك الأعمال و ربما تنتهي رويته إلی تأسيس إدارات متعدّدة في بلدة واحدة لسعتها و كثرة ساكنيها و ربما يری المصلحة في تأسيس إدارة رئيسية تراقب إدارات متعدّدة تكون في مرتبة متأخّرة عنها كما ربما يری صلاح الامّة في تأسيس مركز رئيسي يعبّر عنه في لساننا بالوزارة و ربّما تكون الوزارات متعدّدة بحسب الحاجة.

فكلّ هذه المراكز و الإدارات العديدة المختلفة يكون أمر تأسيسها و مقدارها و اصولها و فروعها بيد وليّ أمر المسلمين، سواء كانت مسبوقة بالوجود زمن النبيّ الأعظم كمثل إدارة القضاء و أمر الجند و جمع الأموال الدولية كالخراج و الجزية، أم حدثت حسب اقتضاء سعة البلاد و كثرة أفراد الامّة و التقدّمات العلمية و غيرها.

ثمّ إنّ هذه المراكز ربما تختصّ بالمسلمين من الرعية و ربما تعمّ أو تختصّ بمثل أهل الذمّة الّذين يعيشون تحت لواء الإسلام الشريف، فهذا إجمال لبيان أصل المدّعی.

و أمّا الدليل عليه فيمكن الاستدلال له بوجهين:

الأوّل: أن يتّكل إلی ما دلّ من الآيات و الأحاديث علی ثبوت الولاية أو القيّمية علی الامّة للنبيّ أو المعصومين عليهم السّلام مثل قوله تعالی: النَّبِيُّ أَوْلی‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ- إلی قوله تعالی عليهم السّلام- وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی‏

                       

بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ «1» فإنّ صدر الآية يدلّ علی ثبوت الولاية العامّة للنبيّ صلّی اللّه عليه و آله و ذيلها علی ثبوت هذه الولاية بعينها لأمير المؤمنين و سائر الأئمّة عليهم السّلام علی ما مرّت دلالة الأخبار الكثيرة المعتبرة عليه.

و مثل قوله تعالی: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ «2» فإنّه يدلّ علی ولاية الرسول بنفسه و ببركة الروايات علی ولاية عليّ و سائر الأئمّة عليهم السّلام.

كما أنّ آية الغدير ببركة الأخبار المتواترة الواردة ذيلها تدلّ علی ولاية أمير المؤمنين و بعده لسائر الأئمّة عليهم السّلام الولاية الثابتة لرسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله في قوله تعالی: النَّبِيُّ أَوْلی‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.

و قد دلّت صحيحة إسحاق بن غالب علی أنّ كلّ إمام فهو من اللّه تعالی قيّم علی جميع الامّة كما مرّ بيانها فيما سبق.

و قد مرّت طوائف عديدة من الأخبار المعتبرة تدلّ علی ثبوت الولاية و القيّمية و ما إليهما لهم عليهم السّلام فتذكّر.

و حينئذ نقول: إنّ مقتضی ولاية أمر الامّة و الرعية و القيّمية عليهم أن يكون إلی الوليّ رعاية أمر الامّة بما يكون لهم صلاحا، فلا محالة يجب علی وليّ الأمر أن يتروّی كل التروّي في تشخيص ما هو الصالح لهم بحيث لو قصّر فيه لكان عاصيا للّه في وظيفته و أن يقوم بأعمال كلّ ما يراه مصلحة لهم. و من الواضح أنّ تقسيم تلك الإدارات العديدة بشرح ما اشير إليه داخل في هذه الاختيارات و الوظائف، و إذا حوّلت هذه الامور إليه بمقتضی أنّه وليّ أمر الامّة فليس لأحد غيره التدخّل في شي‏ء منها بالاستقلال، كما أنّ لازم الولاية الإلهية أن يجب اتباع وليّ الأمر في كلّ ما رآه مصلحة و قام بتأسيسه.

فلازم الولاية عند العرف و العقلاء ثبوت اختيار لوليّ الأمر و وظيفة عليه‏

                       

و وجوب اتباع ما يراه مصلحة كما بيّناه.

ثمّ إنّه ربما يجري علی لسان بعض من لا تأمّل كاف له شبهة أنّه لم جعل أمر الناس كلّهم بيد إنسان واحد مع أنّ الناس أنفسهم أحرار عقلاء فلم لم يشاركوا في انتخاب من يدبّر امورهم؟ أو لم لم يجعل إدارة امورهم بيد أنفسهم؟

أقول: إنّ هذه الشبهة ليس هنا محلّ ذكرها فإنّها شبهة علی أصل الولاية الإلهية الثابتة لمن جعلها اللّه تعالی له، إلّا أنّها مع ذلك فهي شبهة ضعيفة واضحة الاندفاع، و ذلك أنّ أصل تعهّد شخص أو جمع بإدارة الامور الاجتماعية للناس أمر دارج بين العقلاء سواء كان من باب الجمهورية بأنواعها أو من باب الملكية أو من أبواب اخر كالسلطات الظالمة العدوانية بقهر شخص أو جمع علی الرعايا، فأصل المطلب أمر مقبول عند العقلاء و إنّما تمتاز الولاية الإلهية بأنّها جعلت من مبدأ العالم الّذي هو اللّه القويّ الخالق العالم، و لمّا كان الناس كلّهم عبيد اللّه بيده وجودهم و جميع الكمالات الوجودية و ما به يعيشون من النعم الكثيرة فكما أنّ له أن يأمرهم بما يريد و ينهاهم عن كلّ ما يريد كذلك له أن يجعل لهم أولياء الأمر و هم أشخاص صالحون علی كمال ما يتصوّر من الصلاح العلمي و العملي و النفسي للإنسان.

مضافا إلی أنّ اللّه تعالی غنيّ عن عباده و لا يرضی لهم ما لا يصلح لهم و هو أعلم من جميعهم بمن هو قادر علی تصدّي إدارة امورهم فلا محالة يكون ما يختاره أولی بمراتب ممّا ربما يختاره الناس أنفسهم.

و مضافا إلی أنّ أحسن أنواع الحكومات الدنيوية- علی ما ربما يقال- هي الحكومة الديموقراطية الّتي ربما يعبّر عنها بحكومة الناس أنفسهم علی الناس و كيفيّتها الصحيحة أن يجتمع الناس و ينتخبوا أحدا يدير امورهم فمن كان منتخبوه أكثر كان هو أولی.

و هذه الحكومة أيضا لا يشارك في تأسيسها قريب من نصف الناس ممّن ليس له سنّ الانتخاب، و النصف الّذي يشارك فيه فلو كان رأي بعض له الرأي بمقدار

                       

نصف هذا النصف أكثر منه بواحد فهو يكون وليّ أمرهم فآل الأمر إلی حكومة ربع الناس علی ثلاثة أرباع. هذا إن سلّم يكن في أخذ الرأي الناس خداع و مكر و أمثالهما مع أنّ وجودهما كثير جدّا فيحصل للمنتخبين بعد الرأي بأحد كمال الندم و لا محيص له إلّا تسليم أمر ولايته.

و هذه المصيبات لا مجال لها في من عيّنه اللّه و نصبه بشخصه كما في النبيّ و الأئمّة عليهم السّلام و لا في من فوّض إليه تصدّي أمر الامّة ممّن كان علی صفات عالية كفقيه عادل له تمام شرائط حسن المديرية فقد لوحظ فيه مصالح كلّ الامّة حتّی المصالح الّتي لا تصل إليها أفكارهم كما لوحظ فيه دفع جميع المفاسد و روعي فيه جميع المصالح الدنيوية و الاخروية.

الوجه الثاني للاستدلال: أن يستدلّ بأخبار معتبرة تدلّ علی هذا المطلوب بعنوان جزئي أخصّ من ذاك العنوان الكلّي. و المتتبع ربما يظفر بعدد كثير منها إلّا أنّا نقتصر علی ذكر موارد جاء التنصيص عليه في كتاب أمير المؤمنين عليه السّلام لمالك الأشتر النخعي رضوان اللّه عليه حين ولّاه مصر.

و قد مرّ في البحث عن أنّ أمر القضاء بيد وليّ الأمر اعتبار سند هذا العهد الشريف «1» فتذكّر. و هنا نذكر فقرات منها تدلّ علی مطلوبنا الآن، فنقول:

1- فقد كتب عليه السّلام في أوّله: «هذا ما أمر به عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولّاه مصر جباية خراجها و جهاد عدوّها و استصلاح أهلها و عمارة بلادها».

فقد صرّح عليه السّلام بأنّه ولّی مالكا استصلاح أهل مصر و عمارة بلادها فإليه و عليه أن يفعل كلّ ما يكون به صلاح أهل مصر و عمارة بلادها، و من المعلوم أنّ مصر كانت ولاية كبيرة لها بلاد و قری و أهل كثير فإصلاح أهلها و عمارة بلادها

                       

يدخل فيهما كلّ ما يرتبط به صلاحهم و عمارة بلادهم، و ما وليّ مالك فيه هو عمارة البلاد و إصلاح أهلها و هما تمام العنوان لما ولي عليه فإذا كثر الناس و تقدّمت الصنائع و حدثت طرق جديدة لإصلاح أهل البلاد أو لعمارة نفس البلاد فكلّها مفوّضة إلی وليّ أمر هذه البلاد، و قد عرفت أنّ تأسيس جميع هذه الإدارات كان لإصلاح العباد و عمارة بلادهم فلا بدّ و أن يكون أمره بيد رجل مثل مالك الّذي هو وليّ الأمر بأمر عبد اللّه أمير المؤمنين عليه السّلام، فيدلّ علی أنّ هذه الامور في كلّ البلاد الإسلامية و أهلها فوّضت من اللّه تعالی إلی وليّ أمر المسلمين.

و التأمّل في استصلاح الأهل و عمارة البلاد يعطي أنّ كلّ امور الامّة- حتّی في أمر التجارات و الصنائع و الزراعات و غيرها ممّا يكون له دخل ما في عمارة البلاد و الأراضي الإسلامية و استصلاح أهلها- موكول إلی وليّ الأمر كما بيّنه عليه السّلام فيما يأتي من فقرات العهد المبارك.

2- و كتب عليه السّلام فيه: «و أشعر قلبك الرحمة للرعية و المحبّة لهم و اللطف بهم ... فإنّك فوقهم و والي الأمر عليك فوقك و اللّه فوق من ولّاك و قد استكفاك أمرهم و ابتلاك بهم».

فقوله: «و قد استكفاك أمرهم» سواء رجع ضمير الفعل إلی اللّه تعالی أو إلی أمير المؤمنين عليه السّلام الّذي هو والي الأمر عليه يدلّ علی أنّ كفاية أمر الرعية كلّهم موكولة و مفوّضة إليه و هي لا تحصل إلّا بأن يروّی و يفعل بهم ما هو الأصلح لهم و قد عرفت أنّ تأسيس جميع الإدارات داخل فيها و حيث إنّ هذا الاختيار مفوّض إليه بما أنّه وليّ أمر قسم من البلاد الإسلامية فهو ثابت للإمام وليّ أمر كلّ الامّة و البلاد بطريق أوسع و أولی.

3- و كتب عليه السّلام فيه: «و اعلم أنّه ليس شي‏ء بأدعی إلی حسن ظنّ راع برعيّته من إحسانه إليهم و تخفيفه المؤونات عليهم».

فدعا مالكا إلی تخفيف المؤونات الّتي جعلها علی الرعية و هذه المؤونات تعمّ الجزية و الخراج ممّا كانت متحقّقة في تلك الأزمنة و كان تعيينها بيد وليّ الأمر

                       

كما تعمّ مثل أنواع ما يعبّر عنها في زماننا بالماليات المجعولة علی الرعية، فهذه الامور ممّا تتوقّف عليها إدارة أمر الامّة فقد كان تعيينها بيد الوالي و كان الأولی له تخفيفها مهما أمكن.

4- و كتب عليه السّلام فيه: «و اعلم أنّ الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلّا ببعض و لا غنی ببعضها عن بعض، فمنها جنود اللّه، و منها كتّاب العامّة و الخاصّة، و منها قضاة العدل، و منها عمّال الأنصاف و الرفق، و منها أهل الجزية و الخراج من أهل الذمّة و مسلمة الناس، و منها التجّار و أهل الصناعات، و منها الطبقة السفلی من ذوي الحاجة و المسكنة؛ و كلّ قد سمّی اللّه [له‏] سهما و وضع علی حدّه فريضة في كتابه أو سنّة نبيّه صلّی اللّه عليه و آله عهدا منه عندنا محفوظا.

فالجنود بإذن اللّه حصون الرعية و زين الولاة و عزّ الدين و سبل الأمن، و ليس تقوم الرعية إلّا بهم ... ثمّ لا قوام لهذين الصنفين إلّا بالصنف الثالث من القضاة و العمّال و الكتّاب لما يحكمون من المعاقد و يجمعون من المنافع و يؤتمنون عليه من خواصّ الامور و عوامّها و لا قوام لهم جميعا إلّا بالتجّار و ذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم و يقيمونه من أسواقهم و يكفونه من الترفّق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم. ثمّ الطبقة السفلی من أهل الحاجة و المسكنة الّذين يحقّ رفدهم و معونتهم. و في اللّه لكلّ سعة و لكلّ علی الوالي حقّ بقدر ما يصلحه».

فهذه الطبقات السبعة من الرعية قد عدّ عليه السّلام منهم عمّال الإنصاف و الرفق، فهؤلاء العمّال و إن كانوا عمّالا للدولة الإسلامية يفعلون ما اريد منهم إلّا أنّ إضافة لفظة «عمّال» إلی «الإنصاف و الرفق» تشهد علی هدف الدولة من استعمالهم- أعني أعمال الرفق و النصفة بالنسبة للرعية- ففيها إشارة إلی أنّه علی وليّ الأمر إعمالهما بالرعية بأيّ وجه يراه مناسبا. نعم لو اريد منهم خصوص العمّال علی أخذ الجزية و الخراج لاختصّ بأمر خاصّ فلا يكون فيه ذاك الإطلاق.

ثمّ إنّه عليه السّلام قد عدّ من أوصاف و ميزات الجنود أنّهم سبل الأمن، و كونهم سبلا

                       

له يقتضي بإطلاقه أنّ لوليّ الأمر أن يؤسّس الدوائر المختلفة الّتي يری تأسيسها مصلحة و طريقا لحصول هذا الأمن، فيستفاد منه أنّ له ذلك.

ثمّ إنّ قوله عليه السّلام في الفقرة الأخيرة: «و لكلّ علی الوالي حقّ بقدر ما يصلحه» يدلّ علی أنّ علی الوالي القيام بكلّ ما له دخل في حصول مصالح كلّ من أفراد الطبقات السبعة من الرعية فمن لوازمه أنّ إليه و عليه تأسيس إدارات مختلفة تقوم كلّ واحدة منها بقسم خاصّ من الامور الدخيلة بنحو ما في حصول مصلحة أفراد الامّة. و هو بعينه ما ذكرناه و نحن الآن بصدد إثباته.

5- و قال فيه: «ثمّ انظر في امور عمّالك فاستعملهم اختبارا و لا تولّهم محاباة و أثرة فإنّهما جماع من شعب الجور و الخيانة، و توخّ منهم أهل التجربة و الحياء من أهل البيوتات الصالحة و القدم في الإسلام المتقدّمة فإنّهم أكرم أخلاقا و أصحّ أعراضا و أقلّ في المطامع إشرافا و أبلغ في عواقب الامور نظرا ... ثمّ تفقّد أعمالهم و ابعث العيون من أهل الصدق و الوفاء عليهم، فإنّ تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوة لهم علی استعمال الأمانة و الرفق بالرعية ...».

فهؤلاء العمّال يستعملون علی كلّ ما يراه الوالي صالحا، فإطلاقه- لا سيّما بلحاظ ازدياد الأعمال المحتاجة إلی عامل دوليّ و لو تبعا لتقدّمات علمية توجب صنائع حديثة و إمكانات و خدمات جديدة- يقتضي تأسيس إدارات مختلفة يراه الوليّ لازما.

6- و كتب عليه السّلام فيه في أمر الخراج: «و تفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله ...

و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا يدرك إلّا بالعمارة ...».

فقد أمر الوالي بعمارة الأراضي الخراجية، و واضح أنّ غالب أراضي الزرع حينذاك كانت خراجية فيؤول الأمر بعمارتها إلی الأمر بعمارة الأراضي الزراعية و من المعلوم أنّ عمارتها بتهيئة المياه بالمقدار اللازم لها و بإعداد سوق البيع‏

                       

و الشراء لما حصل منها بل و بتهيئة و إعطاء البذر الصالح و السموم الدافعة للمضارّ و ما يقوّي الأراضي و نباتها و هذه الامور ربما احتاجت إلی تأسيس إدارات مختلفة متعدّدة ربما كانت مترتّبة فالأمر بعمارة الأراضي يقتضي تجويز تأسيسها بل يؤول إلی الأمر به.

7- و كتب عليه السّلام في التجّار: «ثمّ استوص بالتجّار و ذوي الصناعات و أوص بهم خيرا ... فإنّهم موادّ المنافع و أسباب المرافق ... و اعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقا فاحشا و شحّا قبيحا و احتكارا للمنافع و تحكّما في البياعات و ذلك باب مضرّة للعامّة و عيب علی الولاة، فامنع من الاحتكار فإنّ رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله منع منه، و ليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل و أسعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إيّاه فنكّل به و عاقبه في غير إسراف».

فقد أمره أوّلا بالإيصاء بالتجّار خيرا، و هكذا ذوو الصناعات و هو يقتضي إعداد الأدوات اللازمة للتجارة و إنتاج المصنوعات من إعداد الأسواق المأمونة من أيّ عدوان و سرقة، و إعداد أو إعطاء كلّ ما يحتاج الصانع إليه في صنعته من كهرباء و غيره، بل و استعلام البلاد و الأسواق العالمية و إعلام الأمر بالتجّار و ذوي الصنائع لأن يذهبوا أموالهم و صنائعهم إلی تلك المواضع للبيع إلی غير ذلك، فلا محالة إذا احتاجت هذه العمليات إلی تأسيس إدارات مختلفة خاصّة فالأمر بالإيصاء بهم خيرا يؤول بالنهاية إلی الأمر بتأسيسها.

كما أنّ ما أفاده عليه السّلام أخيرا من نظارة وليّ الأمر لأمر معاملاتهم حتّی لا يحصل حكرة و لا تحكّم في المبايعات الّتي ربما تنتهي إلی تسعير الأمتعة بما لا يجحف بالفريقين أمر لازم علی الوليّ و ربما احتاجت إلی تأسيس إدارات مختلفة يؤول الأمر بهذه النظارة بالنهاية إلی تأسيس هذه الإدارات اللازمة.

هذا قسم من مواضع الأخبار الدالّة علی المطلوب، و لعلّ المتأمّل يشهد موارد اخری موجودة في العهد المبارك أو الروايات الاخری إلّا أنّ في ما ذكرناه كفاية لا سيّما و لم نجد و لا يوجد- ظاهرا- فيما بأيدينا من الأدلّة ما يوهم الخلاف.

                       

الفصل التاسع في أنّ بيد وليّ الأمر نصب مسئولي الدولة الإسلامية

إنّ الإسلام شريعة عالمية و قد أرسل اللّه تعالی رسوله بالهدی و دين الحقّ ليظهره علی الدين كلّه، فمهما اتسعت هذه الشريعة اتسعت الدولة الإسلامية و كثرت بلادها، و مع ازدياد الحاجات بحدوث الصنائع و الإمكانات الحديثة تحدث الحاجة و تقتضي المصلحة إحداث دوائر مختلفة و ربما تقتضي تقسيم الدولة الوسيعة إلی أقطار و نواح و بلاد و قری كثيرة فتحدث إدارات مختلفة، و قد عرفت في الفصل الماضي أنّ بيد وليّ الأمر تأسيس أيّة إدارة يری تأسيسها صلاحا للأمّة، فمن المعلوم أنّ كلّا من هذه الإدارات و هكذا كلّ من تلك النواحي و البلاد الكثيرة يحتاج إلی مسئول رئيسي و إلی عمّال آخرين لكي يقوموا كلّ بوظائفهم، فهاهنا نقول: إنّ أمر نصب هؤلاء المسؤولين أيضا من اختيارات وليّ أمر الامّة و وظائفه ينصبهم بنفسه أو بواسطة من يوكل الأمر إليه كيفما شاء و رءاه مصلحة للأمّة.

و الدليل عليه أيضا من وجهين:

أحدهما: هو الوجه الّذي استندنا إليه في كثير من المواضع و هو أنّه قد مرّ أنّ أدلّة كثيرة واضحة الدلالة بل قطعيتها قد دلّت علی أنّ وليّ أمر الامّة قد جعله اللّه تعالی وليّ أمرهم و أولی بالمؤمنين من أنفسهم و قيّما منه تعالی عليهم و فوّض إليه أمر الدين و الامّة، و لازم كلّ من هذه العناوين عند العقلاء أن يكون إلی هذا الولي‏

                       

و عليه إدارة أمر الامّة بما يكون فيه صلاحهم، و بعد جعل إدارات و نواح مختلفة في البلاد الإسلامية بمقتضی أنّ المصلحة تقتضيه فلا شكّ في أنّه لا يحصل الغرض الأصيل من كلّ منها إلّا بأن يكون علی كلّ و في كلّ مسئول و عمّال بمقدار الحاجة، و لا تتحقّق إدارة أمر الامّة إلّا بنصب هؤلاء المسؤولين و العمّال، فلا محالة يكون نصبهم إلی الوليّ عليهم و القيّم بأمر اللّه عليهم ينصبهم بنفسه أو يوكل إلی من يقدر علی نصب الأفراد الصالحين بأيّ نحو رآه فيه صلاح الامة.

و الوجه الثاني: أنّ في أدلّة خاصّة أيضا دلالة علی هذا المعنی، و المتتبّع يقف بأخبار كثيرة واضحة الدلالة علی هذا المعنی، فهذا نهج البلاغة مشحون بذكر موارد كثيرة قد نصب أمير المؤمنين عليه السّلام علی البلاد واليا أو عاملا، كما أنّه قد مرّ في بحث القضاء أيضا أنّه عليه السّلام جعل شريحا منصوبا للقضاء بين الناس، فهذه الروايات كثيرة إلّا أنّا نقتصر هنا علی ملاحظة ما كتبه عليه السّلام في عهده الشريف إلی مالك الأشتر حين ولّاه مصر فقد مرّ أنّ سنده تامّ و فيه موارد متعدّدة تدلّ علی المطلوب.

فأوّل العهد الشريف هكذا: بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما أمر به عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولّاه مصر جباية خراجها و جهاد عدوّها و استصلاح أهلها و عمارة بلادها» «1».

فقد صرّح عليه السّلام بأنّه ولّی مالكا مصر و جعله و نصبه مسئولا لإتيان الامور المذكورة الّتي هي إدارة أمر أهل مصر من جميع الجهات، ففيه دلالة واضحة علی أنّ لوليّ أمر الامّة أن ينصب من يراه صالحا واليا لإدارة هذه الناحية العظيمة من بلاد المسلمين و قد أكّد عليه السّلام أنّ له من اللّه تعالی هذه التولية- بعد أمر مالك بالعفو و الصفح عن الرعية- بقوله عليه السّلام: «فإنّك فوقهم و والي الأمر عليك فوقك و اللّه فوق من ولّاك و قد استكفاك أمرهم و ابتلاك بهم» 2 فإنّ ظاهر الجملة الأخيرة أنّ فاعل‏

                       

فعلی الاستكفاء و الابتلاء هو اللّه تعالی فاستكفی اللّه مالكا أمر أهل مصر و ابتلاه بهم و هو لا يكون إلّا بأن يكون من اللّه إلی أمير المؤمنين عليه السّلام تفويض هذه التولية حتّی يكون توليته له كتولية اللّه له و يتعقبه أنّ اللّه تعالی استكفاه أمرهم و ابتلاه بهم.

ففيه دلالة واضحة علی أنّ من اللّه إلی وليّ الأمر أن يولّي ولاة النواحي و البلاد.

2- و كتب عليه السّلام فيه: «إنّ شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا و من شركهم في الآثام فلا يكوننّ لك بطانة فإنّهم أعوان الأثمة و إخوان الظلمة و أنت واجد منهم خير الخلف ممّن له مثل آرائهم و نفاذهم و ليس عليهم مثل آصارهم و أوزارهم ...

فاتّخذ اولئك خاصّة لخلواتك و حفلاتك ثمّ ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحقّ لك و أقلّهم مساعدة فيما يكون منك ممّا كره اللّه لأوليائه، واقعا ذلك من هواك حيث وقع، و الصق بأهل الورع و الصدق ثمّ رضهم علی أن لا يطروك و لا يبجحوك بباطل لم تفعله «1» فإنّ كثرة الإطراء تحدث الزهو و تدني من العزّة» «2».

فقد ذكر عليه السّلام من يصلح للوزارة و من لا يصلح و أمره بأن يتخذ الصلحاء لوزارته و الاستشارة بهم لخلواته و حفلاته. ففيه دلالة واضحة علی أنّ لوالي الأمر في ناحية من بلاد المسلمين تعيين الوزارء و منه يعلم ثبوت هذا الحقّ لوالي أمر جميع المسلمين بطريق أصيل أولی. و الوزارة و إن كانت في أصل اللغة بمعنی المعاونة و الوزير هو المعاون و ليس بحسب اللغة بالمعنی المتعارف المعهود منه في أذهاننا إلّا أنّه لا ينبغي الريب في أنّ من عيّن لإدارة قسم خاصّ من أمر البلاد كالزراعة و نحوها أيضا يكون معينا للوالي فلا شكّ في شموله للمعنی المعهود منه في أذهاننا أيضا، فلا مجال للريب في دلالته علی أنّ إلی الوالي و عليه تعيين هؤلاء الوزراء.

3- و كتب عليه السّلام فيه في أمر الجند: «فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك و أنقاهم جيبا و أفضلهم حلما ممّن يبطئ عن الغضب و يستريح‏

                       

إلی العذر و يرأف بالضعفاء و ينبو علی الأقوياء و ممّن لا يثيره العنف و لا يقعد به الضعف ثمّ الصق بذوي المروءات و الأحساب و أهل البيوتات الصالحة و السوابق الحسنة ثمّ أهل النجدة و الشجاعة و السخاء و السماحة فإنّهم جماع من الكرم و شعب من العرف ... و ليكن آثر رءوس جندك عندك من و اساهم في معونته و أفضل عليهم من جدته بما يسعهم و يسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتّی يكون همّهم همّا و أحدا في جهاد العدوّ فإنّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك» «1».

فقد أمره عليه السّلام بأن ينصب أولياء الامور في الجنود من يراه في نفسه أنصحهم للّه و للرسول و لإمام الامّة و من يكون له تلك الفضائل الّتي ذكرها و من كان من أهل البيوت الصالحة و أهل النجدة و الشجاعة و السخاء و السماحة. و فيه دلالة واضحة علی أنّ نصب أمراء الجند و تعيين سماتهم إلی والي الأمر. و بعد ذلك أمره بأن يجعل آثرهم عنده من كان يواسي أعضاء الجند في معونته و يفضل عليهم بما يجده عند نفسه. و هذا كلّه أمر بنصب أمراء الجند و كيفية انتخاب الأصلح و الآثار منهم.

4- و كتب عليه السّلام فيه: «ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الامور و لا تمحكه الخصوم و لا يتمادی في الزلّة و لا يحصر من الفي‏ء إلی الحقّ إذا عرفه و لا تشرف نفسه علی طمع و لا يكتفي بأدنی فهم دون أقصاه و أوقفهم في الشبهات و آخذهم بالحجج و أقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم و أصبرهم علی تكشّف الامور و أصرمهم عند اتّضاح الحكم ممّن لا يزدهيه إطراء و لا يستميله إغراء، و اولئك قليل. ثمّ أكثر تعاهد قضائه ...» 2.

فتراه عليه السّلام قد أمر مالكا بأن يختار للحكم و القضاء بين الناس أفضل رعيّته عند نفسه من بين أشخاص لهم هذه الفضائل العالية مع أنّهم قليل، و أمره بعد أن اختاره للقضاء بأن ينظر و يتعاهد قضاءه. و من الواضح أنّ اختيار من يراه ذا فضائل‏

                       

لهذه الّتي ذكرها عليه السّلام للحكم بين الناس عبارة اخری عن أنّ تعيين من هو واجد لهذه الصفات و نصبه لمنصب القضاء بيد الوالي، و هذا الاختيار و النصب إنّما يكون بيده لأن يقع الدين الإلهي موقعه المناسب له، و لذا فقد علّل عليه السّلام أمره باختيار القاضي و نصبه و تعاهد قضاءه بقوله عليه السّلام: «فإنّ هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار يعمل فيه بالهوی و تطلب به الدنيا» «1» يعني: فيا مالك فاعمل أنت بهذه الكيفية في نصب القاضي و تعاهد قضاءه حتّی لا يكون للدين أسر و لا يعمل فيه بالهوی.

فيدلّ علی أنّ كون أمر نصب القاضي بيد الوالي أمر إلهيّ مرغوب فيه شرعا.

5- و قد كتب عليه السّلام فيه: «ثمّ انظر في امور عمّالك فاستعملهم اختبارا و لا تولّهم محاباة و أثرة فإنّهما جماع من شعب الجور و الخيانة، و توخّ منهم أهل التجربة و الحياء من أهل البيوتات الصالحة و القدم في الإسلام المتقدّمة، فإنّهم أكرم أخلاقا و أصحّ أعراضا و أقلّ في المطامع إشراقا، و أبلغ في عواقب الامور نظرا ... ثمّ تفقّد أعمالهم و ابعث العيون من أهل الصدق و الوفاء عليهم فإنّ تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوة لهم علی استعمال الامانة و الرفق بالرعية» 2.

فتراه عليه السّلام قد ذكر الصفات اللازمة الرعاية في عمّال الوالي فجعل اختيار استعمالهم بعد معرفة أنّهم واجدو هذه الصفات إلی الوالي نفسه ثمّ أمره بتفقّد أعمال هؤلاء العمّال و بعث ناظري الصدق و الوفاء عيونا علی العمّال لكي يوجب تعاهد امورهم أن يستعملوا في أعمالهم الامانة و أن يرفقوا بالرعية.

فدلّت هذه الفقرات المباركات علی أنّ أمر نصب العمّال بعد معرفة أنّهم أهل لأن يستعملوا إلی الوالي و علی الوالي، و عمّال الوالي هم عمّال الحكومة و يصدق عنوانهم علی كلّ من فوّض عمل من الحكومة إليه فيعمّ جميع العمّال و يدلّ العهد الشريف علی أنّ معرفة صلاحيّتهم و نصبهم من اختيارات الوالي و وظائفه.

                       

6- و قد كتب عليه السّلام في أمر كتّاب الوالي: «ثمّ انظر في حال كتّابك فولّ علی امورك خيرهم و اخصص رسائلك الّتي تدخل فيها مكائدك و أسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق ... ثمّ لا يكن اختيارك إيّاهم علی فراستك و استنامتك و حسن الظنّ منك، فإنّ الرجال يتعرّضون لفراسات الولاة بتصنّعهم و حسن خدمتهم، و ليس وراء ذلك من النصيحة و الأمانة شي‏ء، و لكن اختبرهم بما ولّوا للصالحين قبلك فاعمد لأحسنهم كان في العامّة أثرا و أعرفهم بالأمانة وجها فإنّ ذلك دليل علی نصيحتك للّه و لمن ولّيت أمره ... و مهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه الزمته» «1».

فهذا المقطع المبارك يدلّ علی أنّ اختيار من فيه صلاح أن يكون من كتّاب الوالي و نصبه لأمر الكتابة إلی الوالي نفسه فيختارهم للكتابة و يعطي كلّا منهم كتابة امور هو صالح لكتابتها.

فهذه الموارد الستة المذكورة نماذج من نصب عمّال الحكومة بيد الوالي مع أنّ المورد الخامس منها يشمل كلّ من يستعمل لأمر من امور الولاية، و يستفاد منها بالوضوح أنّ نصب كلّ من يطلب منه أمر في دائرة ولاية الوالي فهو من وظائف الوالي و اختياراته.

فهذه الاختيارات ثابتة لمثل مالك الّذي جعل واليا من وليّ أمر الامّة علی مصر الّتي هي ناحية من البلاد الإسلامية، و يفهم منه أنّ تلك الاختيارات بنحو أوسع و أصيل ثابتة من اللّه تعالی لوليّ أمر الامّة النبيّ أو الأئمّة المعصومين عليهم أفضل صلاة اللّه و سلامه، كما أنّ نفس تولية مالك و نصبه لولاية مصر مصداق آخر لنصب عاملي الحكومة قد تصدّاه إمام الامّة و وليّ الأمر بنفسه، فهذا العهد المبارك فيه دلالة كاملة علی أنّ نصب جميع عمّال الولاية يكون إلی وليّ الأمر.

                       

ثمّ إنّ من الواضح أنّ جميع الامور لا يفوّض إلی عمّال الحكومة بل فيها ما لا بدّ من مباشرة الوليّ له بنفسه، و هو أمر بيّن، و قد أشار إليه في العهد المبارك حيث كتب فيه: «ثمّ امور من امورك لا بدّ لك من مباشرتها، منها إجابة عمّالك بما يعيا عنه كتّابك، و منها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك» «1».

فالإتيان في بيان هذه الامور بلفظة «منها و منها» شاهد علی أنّ ما ذكره فإنّما هو من قبيل المثال، و الانصاف أنّ مصاديق هذه الامور تتضح لوليّ الأمر المتصدّي لإدارة أمر الامّة. و اللّه يهدي إلی الخير و هو وليّ التوفيق.

                       

الفصل العاشر في أنّ أمر الحرب و الجهاد بيد وليّ الأمر

إنّ الجهاد يتصوّر له أنواع ثلاثة، فإنّه قد يكون ابتدائيا يهجم فيه جنود الإسلام علی بلاد الكفر بهدف هداية الكفّار و دعوتهم إلی الإسلام طريق الحقّ و الهداية، و قد يكون دفاعا عن هجوم المهاجمين، و المهاجم قد يكون كافرا و من خارج البلاد الإسلامية، و قد يكون باغيا علی وليّ الأمر و إمام المسلمين من أنفس المسلمين أو أهل الذمّة الّذين يعيشون في لواء الولاية الإسلامية.

فالمقصود من عقد هذا الفصل بيان أنّ أمر القيام بالقتال و الجهاد في أنواعه الثلاثة بيد وليّ الأمر لا يجوز للمسلمين أن يقوموا بأيّ منها إلّا بأمر وليّ الأمر أو إذنه أو أمر من فوّض إليه أمر الجهاد خاصّا أو عامّا من ناحية وليّ الأمر.

نعم إذا خيف من تأخير الأمر إلی الاستئذان منه أو قيامه به أن يقع علی بلاد المسلمين أو نفوسهم أو أموالهم من ناحية المهاجمين في قسمي الدفاع ضرر أو قتل و نهب فعلی المسلمين أنفسهم أن يدفعوا عن الحادثة و يقاتلوا المهاجمين قبل أخذ إذن وليّ الأمر في عين أنّه يجب عليهم أيضا إعلام الأمر بأية وسيلة ممكنة سريعة إلی وليّ الأمر أو منصوبه لكي يتولّی أمر القتال الدفاعي بأيّ نحو رأی فيه الصلاح.

و قبل الورود في ذكر الدليل علی هذه الدعوی لا بأس بذكر نبذة من كلمات‏

                       

فقهائنا العظام في هذا المجال، فإنّه و إن لم يتعرّض لذكره كثير منهم إلّا أنّه مذكور في كلام جمع آخر نذكر نحن نبذا منه.

 [أقوال الفقهاء في أنّ أمر الجهاد بيد وليّ الأمر]

1- قال شيخ الطائفة قدّس سرّه (المتوفّی سنة 460 ه) في النهاية- كتاب الجهاد و سيرة الإمام، باب فرض الجهاد و من يجب عليه و شرائط وجوبه ...-: «و من وجب عليه الجهاد إنّما يجب عليه عند شروط: و هي أن يكون الإمام العادل الّذي لا يجوز لهم القتال إلّا بأمره و لا يسوغ لهم الجهاد من دونه ظاهرا أو يكون من نصبه الإمام للقيام بأمر المسلمين حاضرا ثمّ يدعوهم إلی الجهاد، فيجب عليهم حينئذ القيام به، و متی لم يكن الإمام ظاهرا و لا من نصبه الإمام حاضرا لم يجز مجاهدة العدوّ، و الجهاد مع أئمّة الجور أو من غير إمام خطأ يستحقّ فاعله به الإثم و إن أصاب لم يؤجر عليه و إن اصيب كان مأثوما، اللّهمّ إلّا أن يدهم المسلمين أمر من قبل العدوّ يخاف منه علی بيضة الإسلام و يخشی بواره أو يخاف علی قوم منهم وجب حينئذ أيضا جهادهم و دفاعهم؛ غير أنّه يقصد المجاهد- و الحال علی ما وصفناه- الدفاع عن نفسه و عن حوزة الإسلام و عن المؤمنين و لا يقصد الجهاد مع الإمام الجائر و لا مجاهدتهم ليدخلهم في الإسلام» «1».

و قال قدّس سرّه فيه أيضا- في باب قتال أهل البغي من كتاب الجهاد-: «كلّ من خرج علی إمام عادل و نكث بيعته و خالفه في أحكامه فهو باغ، و جاز للإمام قتاله و مجاهدته، و يجب علی من يستنهضه الإمام في قتالهم النهوض معه و لا يسوغ له التأخّر عن ذلك، و من خرج علی إمام جائر لم يجز قتالهم علی حال، و لا يجوز لأحد قتال أهل البغي إلّا بأمر الإمام» 2.

2- و قد تعرّض ابن إدريس (المتوفّی سنة 578 أو 598 ه) في كتاب الجهاد من السرائر حكم الجهاد للكفّار و الدفاع عن هجومهم و حكم جهاد البغاة بعين الألفاظ

                       

الّتي حكيناها عن النهاية و لم يعترض عليه و لم يزد شيئا إلّا تفسير بيضة الإسلام بقوله: «و بيضة الإسلام مجتمع الإسلام و أصله» فلا وجه لتكرار ألفاظه فراجع «1».

أقول: يدهم المسلمين: من الدهم بمعنی الغشيان، ففي لسان العرب: «دهموهم و دهموهم يدهمونهم دهما: غشوهم ... و كلّ ما غشيك فقد دهمك و دهمك دهما».

3- و قال الشيخ قدّس سرّه في كتاب الجهاد من المبسوط: «و إذا اجتمعت الشروط الّتي ذكرناها فيمن يجب عليه الجهاد فلا يجب عليه أن يجاهد إلّا بأن يكون هناك إمام عادل أو من نصبه الإمام للجهاد ثمّ يدعوهم إلی الجهاد فيجب حينئذ علی من ذكرناه الجهاد، و متی لم يكن الإمام و لا من نصبه الإمام سقط الوجوب، بل لا يحسن فعله أصلا، اللّهمّ إلّا أن يدهم المسلمين أمر يخاف معه علی بيضة الإسلام و يخشی بواره أو يخاف علی قوم منهم فإنّه يجب حينئذ دفاعهم و يقصد به الدفع عن النفس و الإسلام و المؤمنين و لا يقصد الجهاد ليدخلوا في الإسلام ... إلی أن قال: و الجهاد مع أئمّة الجور أو من غير إمام أصلا خطأ قبيح يستحقّ فاعله به الذمّ و العقاب، إن اصيب لم يوجبه و إن أصاب كان مأثوما» «2».

فالمستفاد من مبسوط الشيخ و نهايته كالسرائر أنّ الجهاد الابتدائي للدعوة إلی الإسلام من غير إمام عادل و لا منصوبه خطأ قبيح يستحقّ فاعله به الإثم، بل و هكذا حكم الجهاد للكفّار المهاجمين لاقتضاء لفظ الجهاد له أيضا إلّا أن يخاف من تركه إلی الاستئذان من الإمام علی مجتمع الإسلام أو علی قوم من المسلمين فيجب حينئذ جهادهم في حدّ الدفاع لا بقصد أن يدخلوهم في الإسلام، فهذان القسمان قد ذكر حكمهما في الكتب الثلاثة، و قد زادت النهاية و السرائر حكم القتال للبغاة، و أنّه أيضا بحكم القسمين الأوّلين، و لا يجوز لأحد قتال أهل البغي إلّا بأمر الإمام، و يجب علی من يستنهضه الإمام في قتالهم النهوض معه.

                       

و لم يذكر هذان العلمان حكم ما إذا خيف علی قوم من المسلمين أو بعض البلاد الإسلامية من تأخير الدفاع عن البغاة إلی الاستئذان من الإمام أو مباشرته، إلّا أنّه لا يبعد استفادة جواز المبادرة إلی جهادهم بل وجوبها حينئذ ممّا أفتيا به في الدفاع عن هجوم الكفّار إلی بعض بلاد الإسلام كما هو ظاهر للمتأمّل. و سيأتي للكلام تتمّة إن شاء اللّه تعالی.

ثمّ إنّ الموضوع المذكور في كلامهم و إن كان هو عنوان الإمام و لعلّه منصرف في الأذهان إلی مجرّد الإمامة لبيان المعارف و الأحكام الإسلامية إلّا أنّه لا ريب في أنّ هذا الانصراف البدوي لو سلّم- لا مجال له لا سيّما و قد ذكر مقابل هذا العنوان أئمّة الجور الّذين لا شأن لهم إلّا تولّي امور المجتمع الإسلامي و بلاد المسلمين عصيانا و طغيانا، فالإمام العادل أيضا هو من يتصدّی لإدارة أمر المسلمين و بلادهم بأمر اللّه تعالی و هو وليّ أمر المسلمين.

4- و قال شيخ الطائفة في كتاب الجهاد من الجمل و العقود- عند التعرّض لجهاد أهل الكتاب-: «و لا يبتدءون بالقتال إلّا بعد أن يدعوا إلی الإسلام ...

و يكون الداعي الإمام أو من يأمره الإمام» «1».

و قال فيه أيضا في أحكام البغي: «من قاتل إماما عادلا فهو باغ و وجب جهاده علی كلّ من يستنهضه الإمام و لا يجوز قتالهم إلّا بأمر الإمام» 2.

فاشتراطه الابتداء بقتال أهل الكتاب بأن يدعوا قبله إلی الإسلام و أن يكون الداعي إليه هو الإمام أو من يأمره الإمام يلزمه أن لا يجوز تحقّق قتالهم إلّا بمباشرة الإمام أو من هو مأذون أو منصوب من قبله. هذا في الجهاد الابتدائي كما أنّه صرّح في قتال البغاة بعدم جوازه إلّا بأمر الإمام. فهذا الّذي تعرّض له في كتابه هذا موافق لما أفاده في المبسوط و النهاية.

                       

5- و قال الشيخ الفقيه أبو يعلی حمزة بن عبد العزيز الديلمي الطبرستاني المعروف بسلّار- تلميذ السيّد المرتضی و الشيخ المفيد قدّس سرّهما، المتوفّی سنة 448 أو سنة 463 ه- في باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إقامة الحدود و الجهاد عن الدين من كتابه المراسم: «و لفقهاء الطائفة أن يصلّوا بالناس في الأعياد و الاستسقاء، و أمّا الجمع فلا، فأمّا الجهاد فإلی السلطان أو من يأمره السلطان إلّا أن يغشی المؤمنين العدوّ فليدفعوا عن نفوسهم و أموالهم و أهليهم، و هم في ذلك مثابون قاتلهم و مقتولهم جارحهم و مجروحهم» «1».

فظاهر كلامه قدّس سرّه أنّ أمر الجهاد إلی السلطان الّذي لا ريب في أنّ المراد به هو سلطان الحقّ و العدل و هو لا محالة منطبق علی أولياء الامور من اللّه تعالی النبيّ و الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين، و قد نفی بقرينة المقابلة للجمل السابقة جواز تصدّيه للفقهاء العظام و لعلّه لأنّ المفروض عنده أنّه لا تنعقد الولاية الإسلامية عملا بهم.

و كيف كان، فلا يبعد شمول إطلاق الجهاد في كلامه لأقسامه الثلاثة الّتي ذكرناها إذ لا ينبغي الريب في شموله لمثل جهاد أمير المؤمنين في حروب الجمل و صفّين و الخوارج مع أنّها بالحقيقة من قتال البغاة كما صرّح به فيما سبق رواية الأسياف الخمسة، فإطلاقه شامل للأقسام الثلاثة و قد حكم بأنّه إلی السلطان الحقّ، و حينئذ فيراد من قوله قدّس سرّه في الاستثناء «إلّا أن يغشی المؤمنين ... إلی آخره» ما إذا كان الأمر بحيث لو أخّر أمر الجهاد الدفاعي إلی الاستئذان من وليّ الأمر أوجب ذلك وقوع ضرر مالي أو نفسي علی المؤمنين، فعليهم أن يدفعوا حينئذ عن نفوسهم و أهليهم و أموالهم.

و بهذا البيان تعرف انطباق كلامه علی ما أفاده الشيخ الطوسي قدّس سرّه في النهاية، فتذكّر.

                       

6- و قال الشيخ الفقيه أبو الصلاح تقيّ الدين [أو: تقيّ‏] بن نجم الدين [أو:

نجم‏] بن عبيد اللّه الحلبي [المتوفّی سنة 447 ه] تلميذ السيّد المرتضی و الشيخ الطوسي بل و سلّار قدّس سرّهم و خليفة السيّد المرتضی و الشيخ بالبلاد الحلبية في كتابه الكافي في فصل الجهاد و أحكامه: «يجب جهاد كلّ من الكفّار و المحاربين من الفسّاق ... علی كلّ رجل حرّ كامل العقل سليم من العمی و العرج و المرض مستطيع للحرب بشرط وجود داع إليه يعلم أو يظنّ من حاله السير في الجهاد بحكم اللّه تعالی لكلّ من وصفناه من المحاربين ... و إن كان الداعي إليه غير من وصفناه وجب التخلّف عنه مع الاختيار، فإن خيف جانبه جاز النفور معه لنصرة الدين دونه، فإن خيف علی بعض بلاد الإسلام من بعض الكفّار أو المحاربين وجب علی أهل كلّ إقليم قتال من يليهم و دفعه عن دار الإيمان و علی قطّان البلاد النائية عن مجاورة دار الكفر أو الحرب النفور إلی أقرب ثغورهم بشرط الحاجة إلی نصرتهم حتّی يحصل بكلّ ثغر من ثغور المسلمين من يقوم بجهاد العدوّ و دفعه عنه فيسقط فرض النفور علی من عداهم، و ليقصد المجاهد و الحال هذه نصرة الإسلام و الدفع عن دار الإيمان دون معونة المتغلّب علی البلاد من الأمر.

و خالف الثاني الأوّل لأنّ الأوّل جهاد مبتدأ وقف فرض النصرة فيه علی داعي الحقّ لوجوب معونته دون داعي الضلال لوجوب خذلانه، و حال الجهاد الثاني بخلاف ذلك لتعلّقه بنصرة الإسلام و دفع العدوّ عن دار الإيمان لأنّه إن لم يدفع العدوّ درس الحقّ و غلب علی دار الإيمان و ظهرت بها كلمة الكفر.

و حكم جهاد المحاربين من المسلمين حكم من خيف منه علی دار الإيمان من الكفّار في عموم الفرض من غير اعتبار صفة الداعي» «1».

و حاصل كلامه: أنّه لم يشترط في الجهاد الدفاعي للكفّار المهاجمين أو

                       

المسلمين المحاربين شرطا في الداعي إلی الجهاد بل جعله واجبا لتعلّقه بنصرة الإسلام و دفع العدوّ، و اشترط في وجوب بل و جواز الجهاد الابتدائي أن يكون الداعي داعي حقّ، و فسّر داعي الحقّ بمن يعلم أو يظنّ من حاله السير في الجهاد بحكم اللّه تعالی للمحاربين.

فمقتضی إطلاق كلامه أنّ الجهاد الدفاعي بكلا قسميه واجب علی المسلمين و لا يشترط في جوازه و لا وجوبه أمر وليّ الأمر و لا إذنه، و أمّا الجهاد الابتدائي فلداعي الحقّ أن يقوم بالجهاد و تجب معونته، و من الواضح أنّ داعي الحقّ ينطبق علی وليّ الأمر بل هو مصداقه الأوضح إلّا أنّه ليس في كلامه دلالة علی حصره فيه.

فبالنتيجة: أنّ مفاد عبارة الكافي مغاير لغيره من كتب الأصحاب الّتي مضت و سيأتي إن شاء اللّه تعالی.

7- و عن القاضي عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز المعروف بابن البرّاج [المتوفّی سنة 481 ه و كان من غلمان «1» السيّد المرتضی قدّس سرّهما] في كتاب الجهاد من المهذّب: «و إنّما ذكرنا أن يكون مأمورا بالجهاد من قبل الإمام أو من نصبه، لأنّه متی لم يكن و أحدا منهما لم يجز له الخروج إلی الجهاد، فإن دهم المسلمين العدوّ و هجم عليهم في بلدهم جاز لجميع من في البلد قتاله علی وجه الدفع عن النفس و المال. و الجهاد مع أئمّة الجور و مع غير إمام أصلي أو من نصبه قبيح يستحقّ فاعله العقاب، فإن أصاب كان مأثوما، و إن اصيب لم يكن له علی ذلك أجر» «2».

و دلالته علی أنّ الجهاد من الحقوق المفوّضة إلی الإمام الأصلي الّذي هو وليّ الأمر واضحة.

8- و قال أبو جعفر محمّد بن عليّ بن حمزة الطوسي المشهدي «3» في كتاب‏

                       

الجهاد من الوسيلة: «الجهاد فرض من فرائض الإسلام و هو فرض علی الكفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين و إنّما يجب بثلاثة شروط: أحدها حضور إمام عدل أو من نصبه الإمام للجهاد، و الثاني أن يدعو إليه، و الثالث اجتماع سبع خصال في المدعوّ إليه- ثمّ قال بعد ذكر هذه الخصال:- و ربما يصير الجهاد فرض عين بأحد شيئين: أحدهما استنهاض الإمام إيّاه، و الثاني يكون في حضور الإمام و غيبته بمنزلة، و هو أن يدهم أمر يخشی بسببه علی الإسلام و هن أو علی مسلم في نفسه أو ماله: إذا حصل ثلاثة شروط: حضوره، و قدرته علی دفع ذلك، و وجود معاون إن احتاج إليه، و لا يجوز الجهاد بغير الإمام و لا مع أئمّة الجور» «1».

فهو قدّس سرّه صرّح بأنّه لا يجوز الجهاد بغير الإمام، و حينئذ فقوله قبل ذلك بالوجوب العيني للجهاد إذا دهم أمر يخشی منه و هن علی الإسلام أو علی مال مسلم أو نفس و أنّ هذا الوجوب يكون في حضور الإمام و غيبته بمنزلة واحدة لا بدّ و أن يراد منه عدم اشتراط وجوب هذا الجهاد الدفاعي بحضور الإمام بل هو واجب في غيبته أيضا لكنّه لا دلالة فيه علی جواز المبادرة إلی الجهاد مع حضور الإمام بدون أمر الإمام و إذنه، بل إنّ مقتضی إطلاق الذيل أنّه حينئذ أيضا لا يجوز الجهاد بغير الإمام.

فحاصل مفاد العبارة: أنّ الجهاد الابتدائي مطلقا و الدفاعي إذا كان الإمام حاضرا لا يجوز بغير أمر الإمام و إذنه.

9- و قال الشيخ سعيد بن عبد اللّه بن الحسين بن هبة اللّه بن الحسن الراوندي [المتوفّی سنة 573 ه] في كتاب الجهاد من فقه القرآن: «فالجهاد ركن من أركان الإسلام ... و من شرط وجوبه ظهور الإمام العادل إذ لا يسوغ الجهاد إلّا بإذنه ...»

و قال في قتال البغاة: «و الداعي هو الإمام أو من يأمره» «2».

                       

فتعبيره في مقام الاستدلال واضح الدلالة علی أنّ الجهاد بإذن الإمام جائز و بدون إذنه غير جائز، و هو عبارة اخری عن أنّ إليه أمر الجهاد و لمّا كان الإمام العادل وليّ أمر المسلمين فدلالتها علی الإفتاء بما نحن بصدده واضحة.

10- و قال الفقيه أبو الحسن محمّد بن الحسين المعروف بقطب الدين البيهقي الكيدري [الّذي هو من أعلام القرن السادس و أوائل القرن السابع الهجري‏] في إصباح الشيعة في كتاب الجهاد منه: «الجهاد من فرائض الإسلام ... أمّا شرائط وجوبه فالحرّية ... و أمر الإمام العادل به أو من ينصبه الإمام أو ما يقوم مقام ذلك من كحصول خوف علی الإسلام أو علی الأنفس و الأموال، و متی اختلّ أحد هذه الشروط سقط الوجوب- إلی أن قال:- و لا يجوز أن يبارز أحد إلّا بإذن الإمام أو من نصبه الإمام» «1».

فهو قدّس سرّه قد جعل أمر الإمام أو منصوبه أولا شرط الوجوب فيدلّ علی أنّ من حقوق الإمام- الّذي هو وليّ الأمر- الأمر بالجهاد و ضمّ قوله أخيرا: «و لا يجوز أن يبارز أحد إلّا بإذن الإمام أو من نصبه الإمام» ربما كانت فيه إشارة إلی أنّ الجهاد لا يتحقّق إلّا بأمره أو أمر منصوبه، إلّا أنّ فيه تأمّلا واضحا فإنّ غايته أنّ جواز المبارزة منوط به لا أصل الجهاد.

و كيف كان، فقد جعل الجهاد الدفاعي الّذي يتحقّق- حسب عبارته- بما إذا حصل خوف علی الإسلام أو الأنفس و الأموال عدلا للجهاد الّذي أمر به الإمام و قائما مقام أمره به ففيه دلالة واضحة علی عدم حاجة الدفاع و لا وجوبه إلی أمره.

فمنتهی مدلوله أنّ للإمام أن يأمر بالجهاد و أنّ الدفاع لا يتوقّف علی أمره و لا دلالة فيه علی أنّ أمر الجهاد منحصر في أمره و إليه.

11- و قال المحقّق الأول جعفر بن الحسن بن يحيی بن سعيد الحلّيّ [المتوفّی‏

                       

سنة 676 ه] في الشرائع في الركن الأوّل من كتاب الجهاد: «و فرضه علی الكفاية بشرط وجود الإمام أو من نصبه للجهاد- إلی أن قال:- و من لواحق هذا الركن المرابطة و هي الإرصاد لحفظ الثغر و هي مستحبّة و لو كان الإمام مفقودا لأنّها لا تتضمّن قتالا بل حفظا و إعلاما».

12- و قريب منه ما في كتابه الآخر المختصر النافع قال قدّس سرّه: «و إنّما يجب مع وجود الإمام العادل أو من نصبه لذلك و دعائه إليه، و لا يجوز مع الجائر إلّا أن يدهم المسلمين من يخشی منه علی بيضة الإسلام أو يكون بين قوم و يغشاهم عدوّ فيقصد الدفع عن نفسه في الحالين لا معاونة الجائر- إلی أن قال:- و المرابطة إرصاد لحفظ الثغر و هي مستحبّة و لو كان الإمام مفقودا لأنّها لا تتضمّن جهادا بل حفظا و إعلاما».

فهو قدّس سرّه في أوّل العبارتين جعل وجود الإمام العادل الّذي هو وليّ أمر المسلمين شرطا لوجوب الجهاد و هو إنّما يدلّ علی أنّ لوليّ الأمر أن يدعو هو أو من ينصبه إلی الجهاد و أنّه يجب حينئذ و لا يدلّ علی تفويض أمر الجهاد إليه و انحصار جواز القيام به بأمره أو إذنه إلّا أنّ كلامه قدّس سرّه في الاستدلال لجواز المرابطة و استحبابها حتّی عند فقدان الإمام المراد به غيبته بقوله: «لأنّها لا تتضمّن قتالا [أو: جهادا] بل حفظا و إعلاما» فيه دلالة واضحة علی أنّ عدم كونها جهادا و قتالا هو الّذي اقتضی جوازها زمن غيبة الإمام، و يدلّ بمفهومه علی أنّها لو تضمّنت جهادا لما كان لجوازها سبيل، فحاصل مفاد كلامه أنّ أمر الحرب و الجهاد موكول إلی وليّ الأمر.

این مورد را ارزیابی کنید
(0 رای‌ها)
محتوای بیشتر در این بخش: « قسمت 12 قسمت 14 »

پیام هفته

حاکمیت قانون و ضوابط
قرآن : وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (سوره نور، آیه 2) ترجمه: اگر به خدا و روز بازپسين ايمان داريد در [كار] دين خدا نسبت به آنها (مجرمان) دلسوزى نكنيد. حدیث: انما هم اهل الدنیا مقبلون علیها، و مهطعون الیها و قد عرفوا العدل و راوه، و سمعوه و وعده، و علموا ان الناس عندنا فی الحق فهربوا الی الاثره فبعدا لهم و سحقا. (نهج البلاغه، نامه به سهل بن حنیف استاندار مدینه) ترجمه: آنان دنیا پرستانی هستند که به آن روی آوردند و شتابان در پی آن روانند. عدالت را شناختند و دیدند و شنیدند و به خاطر سپردند و دانستند که همه مردم نزد م...

ادامه مطلب

موسسه صراط مبین

نشانی : ایران - قم
صندوق پستی: 1516-37195
تلفن: 5-32906404 25 98+
پست الکترونیکی: این آدرس ایمیل توسط spambots حفاظت می شود. برای دیدن شما نیاز به جاوا اسکریپت دارید