المقدّمة الثانية [الولاية أمر مجعول من اللّه تعالى‏]

فبعد ما عرفت في المقدّمة الاولى فهل شارع الإسلام لم يدخل و لم يتعرّض أبدا و بالمرّة لأمر الولاية و الحكومة؟ أم تعرّض لهما و دخل فيهما تبعا لورود الناس أنفسهم فيها بمعنى أنّ الناس أنفسهم إذا قاموا بصدد تعيين نائب عن أنفسهم فوّضوا إليه إدارة أمر جمعهم أي أمرهم في ما يتعلّق بكلّهم و بما هو مرتبط بمعاملتهم مع جماعات اخرى و فوّضوا إليه جميع ما ذكرناه في بيان المراد بالولاية فالشارع حينئذ يمضي هذه النيابة و الوكالة؟ أم إنّ تعرّضه أكثر من ذلك بأن يجعل الشارع من الامور الأصلية و الأحكام الركنية الإسلامية مسألة ولاية أمر المسلمين؟

هذه الاحتمالات الثلاثة احتمالات مهمّة بدوية لا بدّ في الجواب عن ايّ منها من مراجعة الأدلّة المعتبرة، و هو مقصودنا الأصيل في هذا الكتاب.

المقدّمة الثالثة [ولاية الأمر غير النبوّة و الرسالة،]

قد عرفت في المقدّمة الاولى المراد بالولاية فنقول: إنّك بالتدبّر فيها تعرف أنّ أمر الولاية هو إمامة الامّة بما عرفت، و لا محالة ليست هي مجرّد أمر بيان أحكام اللّه تعالى بل يتصوّر أن يكون إنسان نبيّا مرسلا إلى الناس ينبئهم بأحكام اللّه تعالى فيجب على الناس اتّباع هذه الأحكام، إلّا أنّ هذا النبيّ ربما تكون وظيفته مقصورة على مجرّد هذا الإنباء من غير أن يكون موظّفا بأمر إمامتهم و الولاية عليهم. و لعلّ أمر الامامة و الولاية يحتاج إلى كمالات و مؤهّلات خاصّة بل الدقّة في معنى الإمامة و النبوّة تعطي أن يكون بينهما عموم و خصوص من وجه، فربما يكون النبيّ إماما و وليّ أمر الامّة كإبراهيم الخليل و نبيّ الإسلام، و ربما يكون الإنسان نبيّا ليس بإمام كلوط النبيّ و كثير من الأنبياء عليهم السّلام، و ربما يكون الإنسان‏ إماما و وليّ أمر الامّة الّا أنّه لم يبلغ مرتبة النبوّة كأئمّتنا الهداة المعصومين عليهم السّلام.

و لا بأس بذكر بعض الأخبار الواردة في هذا المضمار ليتبيّن مرادنا أكثر من ذلك.

فقد روى في الكافي بإسناد لا يبعد اعتباره عن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: الأنبياء و المرسلون على أربع طبقات: فنبيّ منبّأ في نفسه لا يعدو غيرها، و نبيّ يرى في النوم و يسمع الصوت و لا يعاينه في اليقظة و لم يبعث إلى أحد و عليه إمام مثل ما كان إبراهيم على لوط عليهما السّلام، و نبيّ يرى في منامه و يسمع الصوت و يعاين الملك و قد ارسل إلى طائفة قلّوا أو كثروا كيونس، قال اللّه ليونس: وَ أَرْسَلْناهُ إِلى‏ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قال: يزيدون ثلاثين ألفا، و عليه إمام، و الّذي يرى في نومه و يسمع الصوت و يعاين في اليقظة و هو إمام مثل اولي العزم، و قد كان إبراهيم نبيّا و ليس بإمام حتّى قال اللّه: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي فقال اللّه لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ من عبد صنما أو وثنا لا يكون إماما «1».

و روى فيه أيضا عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر عليه السّلام. قال: سمعته يقول:

إنّ اللّه اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيّا، و اتخذه نبيّا قبل أن يتخذه رسولا، و اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، و اتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماما، فلمّا جمع له هذه الأشياء و قبض يده قال له: يا ابراهيم إنّي جاعلك للناس إماما، فمن عظمها في عين إبراهيم عليه السّلام قال: يا ربّ و من ذرّيتي، قال: لا ينال عهدي الظالمين 2.

و روى فيه أيضا عن زيد الشحّام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام نحوه، إلّا أنّه عليه السّلام زاد في آخره: «لا يكون السفيه إمام التقي» 3.

و قد صرّح أبو الحسن الرضا عليه السّلام في رواية عبد العزيز بن مسلم بقوله عليه السّلام: إنّ الإمامة خصّ اللّه عزّ و جلّ بها إبراهيم الخليل بعد النبوّة، و الخلّة مرتبة ثالثة، و فضيلة شرّفه بها و أشار بها ذكره فقال: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ... الحديث «4».             

أقول: و الظاهر أنّ عدّها مرتبة ثالثة لمكان أنّه عليه السّلام لم يعد كونه عبدا مرتبة أصلا كما أنّه عليه السّلام لم يعد النبوّة مرتبتين مرتبة مجرّد النبوّة و مرتبة الرسالة. و بالجملة:

فلا منافاة بين هذه الأخبار، و هي دالّة بحدّ الصراحة على أنّ الإمامة مقام فوق مقام النبوّة و الرسالة و على أنّ النبيّ و الرسول مع علوّ الرسالة عن النبوّة ربما كان عليهما أيضا إمام كما كان إبراهيم عليه السّلام إماما للوط و يونس على نبيّنا و آله و عليهم السلام.

إذا عرفت هذه المقدّمات فلا ينبغي الريب في أنّ المستفاد من الأدلّة المعتبرة الكثيرة هو انّ الشارع الأقدس قد داخل في أمر ولاية الامّة الإسلامية ابتداء و جعل الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام أولياء منصوبين لإدارة أمر الجامعة الإسلامية.

و قبل الورود لبيان هذه الأدلّة لا بدّ من بيان نكتة أساسية: هي: أنّ المستفاد من الدليل القطعي العقلي و من الدليل الواضح اللفظي الشرعي هو أنّ حقّ الأمر و النهي و جعل الوظيفة على العباد إنّما هو حقّ طلق للّه تعالى:

أمّا من طريق العقل فلأنّ اللّه تبارك و تعالى هو الواجب الوجود الّذي لا واجب وجود إلّا هو و يمتنع له شريك في هذه الصفة كما تدلّ عليه أدلّة توحيده، و عليه فجميع واقعيّات العالم في أصل وجودها و في بقائها و في نموّها و رشدها متقوّمة به تعالى، فالإنسان مثلا في أصل وجوده النطفي و العلقي و الجنيني متقوّم الوجود به تعالى و والده و أمّه و جميع ما يتوقّف عليه وجودهما و جميع الأغذية و الموادّ و الهواء و كلّ ما يستفيد هو و غيره في أصل وجوده و بقائه و نمائه فكلّ ذلك متقوّم الوجود باللّه تعالى، فالموادّ و سائر ما يحتاج إليه و إنمائها و القوى الّتي بها الرشد و الإنماء و كلّ أفعاله و حركاته كنفس الأفعال و الحركات و نتائجها جميعها متقوّم الوجود به تعالى و معلول له تعالى، و إن كان في البين علل اخرى و أنواع طولية فهي أيضا و جميع أفعالها و معلولاتها متقوّمة الوجود به تعالى معلولات بالأصالة له.

و حينئذ فجميع الأشياء و الأشخاص الّذي منه الإنسان ملك له تعالى بحقيقة

                       

معنى الملكية، أي إنّ جميع الوجودات و ما يتعلّق بها فحقيقتها متقوّمة و متعلّقة الحقيقة به تعالى و ليست ملكيّته تعالى لأمر ملكيّة اعتبارية يعتبرها العقلاء بين الأشياء و مالكيها.

و لازم هذه الملكيّة الحقيقية عند العقل بلا شبهة أنّ بيده تعالى أمر جميع هذه المخلوقات الّتي لا شأن لها إلّا و هو آت من قبله متعلّق الحقيقة به تعالى، و عليه فله أن يجعل على كلّ من له عقل و شعور ما شاء و أراد من الوظائف. كما أنّ له أن يجعل لمن أراد حقّ الولاية و الإمارة على جميع الناس أو بعضهم.

و حيث إنّ هذه الخالقيّة و العلّية الوسيعة العامّة ليست لغيره فليس هذا الحقّ لغيره، اللّهمّ إلّا أن يعطي هو تعالى هذا الاختيار لمن شاء من العباد، و إلّا فهو لا غيره هو المالك لجميع الأشياء و خالقهم و معطيهم أصل واقعيّتهم و جميع ما يحتاجون إليه و يعيشون به و كلّ شي‏ء نفسه و جميع آثاره و صفاته للّه تعالى تبارك اللّه ربّ العالمين.

هذا هو البيان العقلي.

و أمّا من طريق الشرع فالكتاب الكريم أيضا ناطق بذلك و هو من وجهين:

الوجه الأوّل: من نفس ذاك الطريق العقلي و ذلك أنّ هنا آيات كثيرة تدلّ على أنّ كلّ شي‏ء فهو مخلوق له سبحانه، فقد قال تعالى: قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ «1» و قال عزّ و جلّ: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَكِيلٌ «2» فقد جعل خلق كلّ شي‏ء من اللّه تعالى و الشي‏ء- كما هو واضح- مساوق لما له واقعية و وجود، فالآيتان دلّتا على أنّ كلّ ما له واقعية فهو مخلوق للّه تعالى، و الخلق كما ترى هو عبارة اخرى عن الإنشاء و الإيجاد، فكلّ موجود فلا محالة يكون اللّه تعالى هو موجده. هذا من ناحية أصل الايجاد.

و قال تعالى: قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ‏ءٍ «3» و قد تكرّر في الكتاب الكريم أنّ اللّه تعالى ربّ العالمين و الربّ- كما في مفردات الراغب- في‏ الأصل التربية و هو إنشاء الشي‏ء حالا فحالا يقال: ربّه و ربّاه و ربّبه ... فالربّ مصدر مستعار للفاعل و لا يقال: الربّ مطلقا إلّا للّه تعالى المتكفّل بمصلحة الموجودات نحو قوله: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ انتهى. فالربّ- بالمعنى المصدري- هو التربية و الإنماء و التكفّل بمصلحة الموجودات في بقائهم، فلا محالة مثل هذه الآيات أنّها تدلّ بوضوح على تعلّق جميع الأشياء به تعالى في بقائها أيضا. و الظاهر أنه المراد من كونه وكيلا على الأشياء المذكورة ذيل الآية الثانية الّتي مرّت فهو تعالى حافظ على كلّ شي‏ء «1».

فحاصل الطائفتين: أنه تعالى خالق جميع الأشياء و معطي الوجود لها و كذلك هو ربّها و مبقيها فهو تعالى خالق الأشياء كلّها و مبقيها و لازم هذا التعلّق الحقيقي كما عرفت أن تكون الأشياء ملكا له تعالى بحقيقة معنى الملكية.

و قد جاء التصريح بهذا اللزام في ضمن آيات كثيرة: منها قوله تعالى: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَ لَهُ كُلُّ شَيْ‏ءٍ «2». و منها قوله تعالى:

                       

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ «1». و منها قوله تعالى: وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ «2». فقد حكمت الآية الاولى بأنّ كلّ شي‏ء فهو له تعالى و اللام ظاهر في الملكية، و قد عرفت أنّ ملكيّته تعالى إنّما هي ملكية حقيقية لا ملكية اعتبارية تعتبر لأفراد الإنسان مثلا بالنسبة إلى ما يملكه.

و الظاهر أنّ المراد ب «ما في السماوات» هو الأشياء ذات الواقعية الموجودة في العوالم المحيطة بالأرض سواء كان عاقلا أو غير عاقل- على ما يقتضيه اطلاق معنى «ما» و المراد بلفظة «من» الموجودة في الآية الأخيرة هو كلّ شخص ذي شعور و عقل. فقد تطابقت الآيات الثلاث على أنّ كلّ أمر موجود في الأرض و في سائر العوالم المحيطة بها سواء كان ذا شعور أو غير ذي شعور فهو ملك للّه تعالى، و هذا هو لازم معنى الخالقية و الربّية العامّة الّتي دلّت عليها الآيات السابقة.

ثمّ إنّ الآيات الدالّة على أنه تعالى خالق جميع الأشياء أو ربّها أو مالكها ليست منحصرة في ما ذكرناه بل ما ذكرناه فإنّما هو نموذج من آيات كثيرة قرآنية.

و بالجملة: فالمتحصّل من هذه الآيات هو أنّ الأشياء و الأشخاص جميعها و جميعهم ملك للّه تعالى بحقيقة معنى الملكية، و من المعلوم أنّها اذا كانت بجميع حقيقتها ملكا له تعالى فلا محالة ليست ملكا لغيره تعالى إذ لا مساغ لاجتماع ملكين على شي‏ء واحد، فجميع الأشياء هي ملك للّه تعالى وحده، و قد عرفت أنّ لازم هذه الملكية المنحصرة أن يكون له تعالى حقّ جعل أيّ وظيفة أرادها على مخلوقاته ذوي الشعور.

و قد صرّح بهذا اللزام الأخير بل بجميع ما استفدناه أيضا من الآيات المذكورة قوله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ* ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ

فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَكِيلٌ «1». فالآيتان كما ترى صرّحتا بأنّ اللّه تعالى خالق كلّ شي‏ء كما صرّحت الآية الثانية بأنّه تعالى على كلّ شي‏ء وكيل. و قد عرفت أنّ الحفاظة على الأشياء هي تربيتها و تكفّل مصلحتها بقاء، فهي عبارة اخرى عن كونه تعالى ربّا لها، كما صرّحت أيضا بأنّ اللّه تعالى ربّ المؤمنين و بعد ذلك كلّه ففرّعت الآية الثانية الأمر بعبادته تعالى بقوله: «فاعبدوه» على كونه تعالى خالق كلّ شي‏ء، و حيث إنّ خلقه لكلّ الأشياء ملزوم لمالكيته لها فكأنّها فرّعت معبوديته تعالى للمسلمين على كونه تعالى مالكا لهم و لجميع الأشياء الاخر.

و كيف كان، فالمستفاد من هذه الآيات التنصيص بما مرّ من مفاد البرهان العقلي و هو أنّ اللّه تعالى مالك الأشياء و الأشخاص ملكا حقيقيا فله حقّ أن يجعل عليهم أيّ وظيفة شاء و له أيضا- لا لغيره- أن يجعل عليهم من يقوم إدارة أمر جامعة الناس و المسلمين.

هذا هو الوجه الأوّل.

الوجه الثاني: أنّه قد ورد في الكتاب الكريم آيات متعدّدة تدلّ ابتداء على أنّ حقّ جعل الوظيفة على الناس منحصر في اللّه تعالى، قال اللّه تعالى: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ «2».

فمضمون الآية المباركة و إن كانت حكاية لما قاله يوسف النبيّ على نبيّنا و آله و عليه السلام لصاحبيه في السجن إلّا أنّه لا ريب في أنه من الحكم و المعارف الإلهية الّتي نطق بها القرآن الكريم و أنزلت على رسول ربّ العالمين و حكاه اللّه تعالى تذكرة للناس و هداية للمهتدين، و قد صرّح فيها بقوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ بأنّ حقّ جعل الحكم منحصر به تعالى، و ليس لأحد أن يجعل حكما إلّا اللّه تعالى، و لا ريب في أنّ المراد بالحكم هو إبداء النظر و جعل الوظيفة أو هو نفس النظرالمبدأ و الوظيفة المجعولة. و على أيّ حال فلا ريب أنّ جميع القوانين و الوظائف المقرّرة و الامور المجعولة للعباد مصاديق للحكم، و قد ذكرت الآية المباركة من مصاديق هذا الحكم هو أمره تعالى بأن لا يعبد الناس إلّا إيّاه فقال تلوه: «أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» فتدلّ الآية بوضوح كالصراحة على أنّ حق جعل كلّ وظيفة و أمر على العباد مختصّ باللّه تعالى ليس لأحد غيره. و هذا هو الّذي رضاه.

إن قلت: إنّ الحكم على ما يستفاد من اللغة هو الرأي المحكم الّذي يعطي لفصل النزاع فيختصّ بمورد القضاء و لا يعمّ كلّ القوانين، قال الراغب في المفردات:

 «و الحكم بالشي‏ء أن تقضي بأنه كذا أو ليس بكذا سواء ألزمت ذلك غيرك أم لم تلزمه» فتراه أنّه أخذ في مفهومه القضاء المختصّ بموارد التنازع و طرح الدعوى عند أحد بل إنّ هذه الخصوصية ملحوظة بوضوح في غالب موارد استعماله في القرآن الكريم: قال تعالى: وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ «1». و قال تعالى:

أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ «2» إلى غير ذلك من موارد قرآنية كثيرة. و بالجملة فلا يبعد دعوى اختصاص مفهومه بما إذا كان هناك اختلاف و كان صدور الحكم و إنشاؤه لهدف إبداء القول الفصل لحلّ هذا الخلاف و لا أقلّ من احتمال اعتبار هذا القيد فيه فلا يتمّ الاستدلال بإطلاقه لجميع الوظائف المقرّرة.

قلت: بل إنّ غاية ما يستفاد من ذكر قول أهل اللغة و الآيات المشار إليها هي دعوى اعتبار أن يكون الحكم هو الرأي المتين في مورد فيه اختلاف الآراء بالفعل أو كان مظنّة الاختلاف. و من الواضح أنّ الوظائف و القوانين أيضا مثار الاختلاف و تشتّت الآراء فجعلها و إبداء النظر في موردها يكون من مصاديق الحكم في مجال الاختلاف، و الشاهد الواضح على صدق الحكم عليها هو نفس الآية المباركة، فإنّ ظاهرها كما أشرنا إليه أنّ نفس أمره تعالى بأن لا يعبد إلّا اللّه المذكور تلوه بقوله: «أمر أنّ لا تعبدوا إلّا ايّاه» من مصاديق هذا الحكم، و من‏ المعلوم أنّ مفاد هذا الأمر أيضا مثار اختلاف الآراء و لذا كان المشركون يعبدون أسماء سمّوها أنفسهم و آباؤهم. و بالجملة: فشمول الحكم للوظائف المجعولة ممّا لا شبهة فيه، و من الواضح أنّ جعل أحد وليّا لأمور الناس و نصبه مسئولا لإدارة أمر البلاد أيضا أمر لا يسلمه الناس جميعا، فهو أيضا من مصاديق الحكم الّذي نصّت الآية الشريفة بأنّ حقّ جعله بيد اللّه تعالى لا غير.

ثمّ إنّ هذا المدلول وقع النصّ عليه في آيات كثيرة كقوله تعالى حكاية عن يعقوب النبيّ: وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ «1». و ربما تعمّ هذه الآية لحكمه تعالى في الامور التكوينية بل نفس الكبرى الكلّية شاملة للأحكام الجعلية القانونية و التكوينية. و من هذه الآيات قوله تعالى في سورة الأنعام: ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ «2» إلى غير ذلك من الآيات المباركات.

فتبيّن من طريق العقل القطعي و النقل المعتبر انحصار حقّ جعل كلّ حكم و وظيفة كحقّ جعل إمارة أحد و ولايته على الناس في اللّه تعالى، فله أن ينصب من شاء وليا على الناس و أميرا لهم و ليس لغيره هذا الحق، اللّهمّ إلّا أن يجعل اللّه تعالى و يفوّض إلى غيره أيضا حقّ هذا النصب.

هذه هي النكتة الأساسية، و بعدها نرد في إقامة الدليل على ولاية المعصومين عليهم السّلام فنقول:

الاستدلال لولاية النبيّ و الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين‏

إنّه يمكن الاستدلال لولايتهم على الامّة الإسلامية و نصبهم من اللّه تعالى أولياء على إدارة أمر الدولة الإسلامية بالكتاب و السنّة بل و بضرورة المذهب‏

أمّا الكتاب فبآيات‏

و هي على طائفتين، إحداهما: ما تدلّ و لو بانضمام تفسيرها بالروايات المعتبرة على ولاية النبيّ و جميع الأئمّة المعصومين عليهم السّلام. و الثانية: ما يكون مفادها ولاية النبيّ أو بعض خاصّ من الأئمّة عليهم السّلام ثمّ بضمّ أدلّة تساويهم في المناصب الإلهية نستفيد ثبوتها لجميع المعصومين عليهم السّلام.

أمّا الطائفة الأولى فآيات:

الآية الأولى [آية الولاية]

قوله تعالى في سورة المائدة: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ* وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ «1».

محلّ استشهادنا هي الآية الاولى، و قد دلّت الآية المباركة على أنّ وليّ المسلمين هو اللّه تعالى و رسوله و الَّذِينَ آمَنُوا، و وصف الَّذِينَ آمَنُوا بوصف هو أنّهم يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ في حال ركوعهم للّه تعالى، و صيرورة الاستدلال بها تامّة متوقّفة على أمرين، أحدهما: أن يراد من الولاية المذكورة فيها ولاية إدارة أمر الأمّة و بلادهم و مملكتهم. و الثاني: أن يكون المراد بالّذين آمنوا خصوص الأئمّة المعصومين عليهم السّلام.

أمّا الأوّل فقد ذكر للولاية و لخصوص لفظ «الوليّ» معنى كون الشخص قيّما بأمر أو على شخص مفوّضا إليه إدارة أمره، ففي المصباح المنير: «و الوليّ فعيل بمعنى فاعل من وليه: اذا قام به، و منه «اللّه وليّ الّذين آمنوا» و الجمع أولياء، قال ابن فارس:

و كلّ من ولي أمر احد فهو وليّه، و قد يطلق الوليّ أيضا على ... و الناصر و حافظ النسب و الصديق». و في نهاية ابن الاثير: «في أسماء اللّه تعالى: الوليّ هو الناصر، و قيل: المتولّي لأمور العالم و الخلائق القائم بها ... و كلّ من ولي أمرا أو قام به فهو مولاه و وليّه». و في مفردات الراغب: «و الولاية: النصرة، و الولاية: تولّي الأمر، و قيل: الولاية و الولاية نحو الدّلالة و الدّلالة، و حقيقته تولّي الأمر». و في أقرب الموارد: «ولي الشي‏ء و عليه ولاية و ولاية: ملك أمره و قام به ... و ولي فلانا و ولي عليه: نصره و ولي فلانا ولاية: أحبّه و ولي البلد: تسلّط عليه ... الوليّ- كغنيّ- ...:

المحبّ و الصديق، و الوليّ النصير».

هذه خلاصة من بعض كلمات اللغويين، و منها يعلم أنّ الولاية بمعنى القيام بشي‏ء أو بأمر أحد الّذي هو المساوق لتولّي الامور و تصدّيها، و هو المفيد لما نحن فيه معنى شائع لهذه المادة، و الوليّ بمعنى المتولّي للأمور معنى شائع لهذه اللفظة، و لا يبعد أن يكون هو المراد في قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ «1» و ذلك بقرينة أنّه أسند إلى الوليّ و الأولياء إخراج الّذين آمنوا من الظلمات إلى النور و إخراج الّذين كفروا من النور إلى الظلمات، و هو إنّما يناسب‏

                       

معنى التولّي بأمرهم حتّى يكون الولي هو الفاعل المخرج، و إلّا فالنصرة لا تقتضي أزيد من إعانة المنصور، فالمنصور هو الخارج و الناصر بعينه على أن يخرج، و عدم اقتضاء الولاية بمعنى المحبّة له أيضا واضح.

و مثل هذه الآية قوله تعالى حكاية عن يوسف على نبيّنا و آله و عليه السلام:

أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ «1» فإنّ استدعاء توفّيه و إلحاقه بالصالحين من اللّه تعالى بما أنّه تعالى وليّه إنّما يناسب إرادة المتولّي بأمره حتّى يكون هو المتوفّى و الملحق له بالصالحين.

و مثلهما أيضا قوله تعالى: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ* وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ* وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى‏ لا يَسْمَعُوا وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ «2» فإنّ جعل اللّه تعالى وليّا لنفسه في الآية الاولى مع التأكيد في الآيتين الثانية و الثالثة أنّ ما يدعونه المشركون لا يستطيعون نصرهم و لا أقلّ منه مناسب أيضا لأن يراد من الولاية تولّي أمره حتّى يكون وليّه القائم بأمره مخرجا له إلى النور و ملحقا له بالصالحين.

و بالجملة: فإرادة معنى التكفّل بأمر من يكون الوليّ وليّة من مادّة الولاية و من لفظة «الوليّ» أمر شائع في هذه المادّة، إلّا أنّه ربما يستشكل استظهاره منه في الآية المباركة و لذلك فتكون الروايات نعمت العون في هذه الجهة.

كما أنّ دلالة الآية على ولاية اللّه تعالى و الرسول واضحة، و أمّا إرادة خصوص أمير المؤمنين و سائر الأئمّة صلوات اللّه عليهم من قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ليست واضحة بنفسها. فلا محالة نحتاج إلى الأخبار لتوضيح كلا الأمرين فنقول:

إنّ الأخبار الّتي عثرنا عليها بعضها متكفّل لكلا الأمرين و بعضها لخصوص الأمر الثاني.

 

این مورد را ارزیابی کنید
(0 رای‌ها)
محتوای بیشتر در این بخش: « مقدمه مولف قسمت اول »

پیام هفته

مصرف کردن بدون تولید
آیه شریفه : وَ لَنُذيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى‏ دُونَ الْعَذابِ الْأَکْبَرِ ... (سوره مبارکه سجده ، آیه 21)ترجمه : و ما به جز عذاب بزرگتر (در قیامت) از عذاب این دنیا نیز به آنان می چشانیم ...روایت : قال أبي جعفر ( ع ): ... و لله عز و جل عباد ملاعين مناكير ، لا يعيشون و لا يعيش الناس في أكنافهم و هم في عباده بمنزله الجراد لا يقعون على شيء إلا أتوا عليه .  (اصول کافی ، ج 8 ، ص 248 )ترجمه : امام باقر(ع) مي‌فرمايد: ... و خداوند بدگانی نفرین شده و ناهنجار دارد که مردم از تلاش آنان بهره مند نمی شوند و ایشان در میان مردم مانند ملخ هستند که به هر جیز برسند آن را می خورند و نابود می کنند.

ادامه مطلب

موسسه صراط مبین

نشانی : ایران - قم
صندوق پستی: 1516-37195
تلفن: 5-32906404 25 98+
پست الکترونیکی: این آدرس ایمیل توسط spambots حفاظت می شود. برای دیدن شما نیاز به جاوا اسکریپت دارید