قسمت8

الطائفة السادسة [ما تدلّ علی أنّ النبيّ و الأئمّة عليهم السّلام في المناصب الإلهية سواء]

أخبار تدلّ علی استواء جميع الأئمّة عليهم السّلام بعضهم بالنسبة للآخر و كلّهم بالنسبة إلی النبيّ صلّی اللّه عليه و آله في جميع ما أعطاهم اللّه من المقامات و المناصب و الاختيارات.

و لا بأس أوّلا بأن نذكر بعض الأخبار الواردة في خصوص النبيّ صلّی اللّه عليه و آله ثمّ نتبعه بذكر تلك الأخبار.

                       

 [الأخبار الدالّة علی أنّ أمر الخلق مفوّض إلی النبيّ صلّی اللّه عليه و آله و هي 5 أحاديث‏]

1- ففي صحيحة زرارة قال: سمعت أبا جعفر و أبا عبد اللّه عليهما السّلام يقولان: إنّ اللّه عزّ و جلّ فوّض إلی نبيّه صلّی اللّه عليه و آله أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم، ثمّ تلا هذه الآية:

ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «1».

و من الواضح أنّ أمر الخلق مطلق يشمل كلّ ما هو مرتبط بهم، سواء فيه أن يكون أمرا كلّيّا لا يختصّ بزمان خاصّ كما في الأحكام الإسلامية الدائمة أو كان أمرا جزئيّا مختصّا ببعض الأزمنة أو الأمكنة كما فيما يرتبط بإدارة امور الامّة يوما فيوما، فتدلّ الصحيحة علی أنّ أمر إدارة امور الامّة أيضا مفوّض من اللّه تعالی إلی النبيّ صلّی اللّه عليه و آله.

2- و في صحيحة الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: إنّ اللّه عزّ و جلّ أدّب نبيّه فأحسن أدبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: إِنَّكَ لَعَلی‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ثمّ فوّض إليه أمر الدين و الامّة ليسوس عباده، فقال عزّ و جلّ: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا و إنّ رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله كان مسدّدا موفّقا مؤيّدا بروح القدس، لا يزلّ و لا يخطئ في شي‏ء ممّا يسوس به الخلق، فتأدّب بآداب اللّه، ثمّ إنّ اللّه عزّ و جلّ فرض الصلاة ركعتين ركعتين عشر ركعات، فأضاف رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله إلی الركعتين ركعتين و إلی المغرب ركعة فصارت عديل الفريضة، لا يجوز تركهنّ إلّا في سفر، و أفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر و الحضر فأجاز اللّه عزّ و جلّ له ذلك كلّه، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة- ثمّ ذكر جعله صلّی اللّه عليه و آله أربعا و ثلاثين ركعة نافلة يومية، و جعله صوم شعبان و ثلاثة أيّام من كلّ شهر سنّة، و تحريمه لكلّ مسكر و إن لم يكن خمرا، ثمّ قال:- فوافق أمر رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله أمر اللّه عزّ و جلّ، و نهيه نهي اللّه عزّ و جلّ، و وجب علی العباد التسليم له كالتسليم للّه تبارك و تعالی «2».

                       

فهذه الصحيحة أيضا كما تری قد صرّحت بأنّ اللّه تبارك و تعالی «فوّض إلی النبيّ أمر الدين و الامّة ليسوس عباده» و تفويض أمر الامّة إليه عبارة اخری عن تفويض أمر خلقه المذكور في صحيحة زرارة، و قد عرفت دلالتها علی أنّ معناه ولايته صلّی اللّه عليه و آله من اللّه تعالی علی إدارة أمر الامّة و بلاده، بل لا يبعد أن يقتضي تفويض أمر الدين إليه أيضا علاوة عن إيكال جعل الأحكام الكلّية إليه كما ذكر موارد منها في الصحيحة فلا يبعد أن يقتضي أيضا ولايته علی مراقبة الامّة في العمل بأحكام الدين كما سيأتي إن شاء اللّه تعالی عند ذكر تفصيل اختيارات وليّ الأمر، فارتقب حتّی حين.

3- و في خبر زيد الشحّام قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالی:

عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ قال: أعطی سليمان ملكا عظيما، ثمّ جرت هذه الآية في رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله فكان له أن يعطي ما شاء من شاء و يمنع من شاء، و أعطاه [اللّه‏] أفضل ممّا أعطی سليمان، لقوله: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «1».

فإطلاق هذا الخبر أيضا يدلّ علی ثبوت الولاية له صلّی اللّه عليه و آله كما هو واضح.

4- و في رواية إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ اللّه تبارك و تعالی أدّب نبيّه صلّی اللّه عليه و آله فلمّا انتهی به إلی ما أراد قال له: إِنَّكَ لَعَلی‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ففوّض إليه دينه، فقال: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، و إنّ اللّه عزّ و جلّ فرض الفرائض و لم يقسم للجدّ شيئا، و إنّ رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله أطعمه السدس فأجاز اللّه جلّ ذكره له ذلك، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ 2.

و قد عرفت ذيل صحيحة الفضيل أنّ نفس تفويض الدين أيضا يقتضي نوعا من الولاية، فتذكّر.

                       

5- و قريب منه خبر آخر عن زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام «1»، فراجع.

فهذه الأخبار الخمسة انموذج ممّا يدلّ علی تفويض الأمر إلی الرسول الأعظم صلّی اللّه عليه و آله و ولايته علی إدارة أمر الامّة، و المتتبّع يظفر بأكثر من ذلك.

 [الأخبار الدالّة علی الاستواء، و هي 13 حديثا]

و أمّا الأخبار الواردة في أنّ كلّما ثبت للنبيّ أو لبعض الأئمّة عليهم السّلام فهو ثابت لجميعهم فهي أيضا أخبار متعدّدة:

1- منها صحيحة ثعلبة بن ميمون أبي إسحاق النحوي قال: دخلت علی أبي عبد اللّه عليه السّلام فسمعته يقول: إنّ اللّه عزّ و جلّ أدّب نبيّه علی محبّته فقال: وَ إِنَّكَ لَعَلی‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ثمّ فوّض إليه فقال عزّ و جلّ: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، و قال عزّ و جلّ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ. قال: ثمّ قال: و إنّ نبيّ اللّه صلّی اللّه عليه و آله فوّض إلی عليّ عليه السّلام و ائتمنه، فسلّمتم و جحد الناس، فو اللّه لنحبّكم أن تقولوا إذا قلنا و أن تصمتوا إذا صمتنا، و نحن فيما بينكم و بين اللّه عزّ و جلّ، ما جعل اللّه لأحد خيرا في خلاف أمرنا «2».

فالصحيحة كما تری قد ذكرت الآيات الّتي تدلّ علی تفويض الأمر من اللّه تعالی إلی النبيّ الأعظم، و قد عرفت من بعض الصحاح المذكورة أوّلا أنّ هذا الأمر أمر الدين و الخلق و الامّة الّذي تفويضه عبارة اخری عن إيكال ولاية أمرهم إليه صلّی اللّه عليه و آله و هذه الصحيحة زادت علی تلك الصحاح أنّ هذا الّذي فوّضه اللّه تعالی إلی النبيّ الأعظم فقد فوّضه إلی عليّ عليه السّلام و ائتمنه عليه، و بعد ذكر ذلك التفت الإمام عليه السّلام فقال: «و نحن فيما بينكم و بين اللّه عزّ و جلّ، ما جعل اللّه لأحد خيرا في خلاف أمرنا» فيعلم أنّ هذا التفويض لا يختصّ بأمير المؤمنين بل يعمّ جميع الأئمّة المعصومين عليهم السّلام و هذا ما أردناه.

2- و منها رواية عبد اللّه بن سنان- الّتي لا يبعد اعتبار سندها- قال: قال أبو

                       

عبد اللّه عليه السّلام: لا و اللّه ما فوّض اللّه إلی أحد من خلقه إلّا إلی رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و إلی الأئمّة عليهم السّلام، قال عزّ و جلّ: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ و هي جارية في الأوصياء عليهم السّلام «1».

3- و منها رواية محمّد بن الحسن الميثميّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: إنّ اللّه عزّ و جلّ أدّب رسوله حتّی قوّمه علی ما أراد، ثمّ فوّض إليه، فقال عزّ ذكره: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فما فوّض اللّه إلی رسوله صلّی اللّه عليه و آله فقد فوّضه إلينا 2.

و دلالة هاتين الروايتين تعلم ممّا ذكرناه ذيل صحيحة أبي إسحاق.

4- و منها رواية موسی بن أشيم قال: دخلت علی أبي عبد اللّه عليه السّلام فسألته عن مسألة فأجابني فيها بجواب، فأنا جالس إذ دخل رجل فسأله عنها بعينها فأجابه بخلاف ما أجابني، فدخل رجل آخر فسأله بعينها فأجابه بخلاف ما أجابني و خلاف ما أجابه به صاحبي، ففزعت من ذلك و عظم عليّ، فلمّا خرج القوم نظر إليّ، و قال: يا ابن أشيم كأنّك جزعت؟ فقلت: جعلت فداك إنّما جزعت من ثلاثة أقاويل في مسألة واحدة، فقال: يا ابن أشيم إنّ اللّه فوّض إلی داود أمر ملكه فقال: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ و فوّض إلی محمّد صلّی اللّه عليه و آله أمر دينه فقال: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا و إنّ اللّه فوّض إلی الأئمّة منّا و إلينا ما فوّض إلی محمّد صلّی اللّه عليه و آله فلا تجزع «3».

فهذا المتن الّذي نقلناه قد أخذناه من اختصاص الشيخ المفيد قدس سرّه و إنّما قدّمناه علی ما سننقله عن اصول الكافي لصحّة سنده إلی ابن أشيم، و إن كان موسی بن أشيم خطّابيا غير ثقة، فقد روی الكشّي فيه بسند موثّق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «قال:

إنّي لأنفّس علی أجساد اصيبت معه- يعني أبا الخطّاب- النار، ثمّ ذكر ابن الأشيم‏

                       

فقال: كان يأتيني فيدخل عليّ هو و صاحبه و حفص بن ميمون و يسألوني فأخبرهم بالحقّ، ثمّ يخرجون إلی أبي الخطّاب فيخبرهم بخلاف قولي فيأخذون بقوله و يذرون قولي» فسند الحديث ليس بمعتبر.

و أمّا دلالته فإنّ قوله عليه السّلام في الذيل: «و إنّ اللّه فوّض إلی الأئمّة منّا و إلينا ما فوّض إلی محمّد صلّی اللّه عليه و آله» يدلّ بوضوح علی استواء الأئمّة عليهم السّلام مع الرسول الأعظم في جميع ما فوّضه اللّه تعالی إليه، و هو المطلوب.

5- و منها روايته بنقل الكافي، فإنّها قريبة ممّا نقلناه، و في آخرها قال عليه السّلام:

و فوّض إلی نبيّه صلّی اللّه عليه و آله فقال: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، فما فوّض إلی رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله فقد فوّضه إلينا «1».

و أخرج في الاختصاص بسند آخر حديثا عن موسی بن أشيم قريبا منه، فراجع «2».

و هكذا في بصائر الدرجات و هي في الدلالة قريبة ممّا مرّ عن الاختصاص، و يزيد عليه أنّ في سندها بكار ابن بكر أو بكار ابن أبي بكر الّذي لم يوثّق.

6- و منها ما رواه في الاختصاص مرسلا عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و نحن في الأمر و النهي و الحلال و الحرام نجري مجری واحدا، فأمّا رسول اللّه و عليّ صلوات اللّه عليهما فلهما فضلهما «3». و رواه مسندا مثله الصفّار في بصائر الدرجات بمثل سند الكافي «4».

فقوله عليه السّلام: «رسول اللّه و نحن في الأمر و النهي ... نجري مجری واحدا» فيه دلالة علی المطلوب، بناء علی أنّ ظاهره استواؤهم معه في الأمر و النهي الّذي‏

                       

ينشئونه أنفسهم، و لا محالة تكون هي التكاليف الّتي يقرّرونها في الموارد الخاصّة الّتي تلزمها إدارة امور الامّة الإسلامية.

7- و منها ما رواه الكليني عن أحمد بن محمّد عن محمّد بن الحسن عن عليّ ابن إسماعيل عن صفوان بن يحيی عن ابن مسكان عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: قال رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله: نحن في الأمر و الفهم و الحلال و الحرام نجري مجری واحدا، فأمّا رسول اللّه و عليّ صلوات اللّه عليهما و آلهما فلهما فضلهما «1».

و سند الحديث صحيح بناء علی أنّ محمّد بن الحسن هو الصفّار، و عليّ بن إسماعيل هو ابن السندي الثقة، و هذا السند بعينه سند الحديث في البصائر، و الظاهر أنّه حديث واحد، و اختلاف المتن من غلط إحدی النسختين.

و إذا فسّرنا الأمر المذكور في نسخة الكافي بالأمر الصادر عنهم عليهم السّلام في الموارد الخاصّة اتّحد مضمون النسخ.

8- و منها ما رواه الشيخ المفيد في الاختصاص و الصفّار في بصائر الدرجات عن أبي إسحاق النحوي قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: إنّ اللّه أدّب نبيّه صلّی اللّه عليه و آله علی محبّته، فقال: وَ إِنَّكَ لَعَلی‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ثمّ فوّض إليه فقال: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا و قال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ و أنّ رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله فوّض إلی عليّ عليه السّلام و ائتمنه، فسلّمتم و جحد الناس، و نحن فيما بينكم و بين اللّه، ما جعل اللّه لأحد من خير في خلاف أمرنا، فإنّ أمرنا أمر اللّه عزّ و جلّ.

هكذا في الاختصاص، و في البصائر مثله، إلّا أنّ فيه ذيل الحديث هكذا: «ما جعل اللّه لأحد من خير في خلافه» «2».

                       

و روی قريبا منه في البصائر عن أبي إسحاق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أيضا، فراجع «1».

و هذه الرواية متّحدة المضمون مع ما رويناه أوّلا عن اصول الكافي، و إنّما ذكرناها هنا ثانيا لاختلاف ما في متنها بما لا يضرّ بالمقصود، كما هو واضح.

و هذه الأحاديث كما عرفت لا تختصّ بمجرّد بيان الأحكام، بل إطلاق تفويض أمر الخلق أو الامّة إليهم عليهم السّلام كظهور لفظي «الأمر» و «النهي» يقتضي شمولها لإظهار النظر و الأمر و النهي في كلّ ما يكون مرتبطا بإدارة أمر الامّة ممّا كان مقتضی تصدّي إدارة امورهم و الولاية عليهم كما مرّ، فما يظهر من تعبير صاحب الوافي قدس سرّه في عنوان البحث هنا خلاف مقتضی إطلاق هذه الروايات.

9- و منها ما رواه في الاختصاص بسند معتبر صحيح عن أبي الصباح مولی آل سام، قال: كنّا عند أبي عبد اللّه عليه السّلام أنا و أبو المغراء، إذ دخل علينا رجل من أهل السواد فقال: السلام عليك و رحمة اللّه و بركاته، ثمّ اجتذبه و أجلسه إلی جنبه، فقلت لأبي المغراء- أو قال لي أبو المغراء-: إنّ هذا الاسم ما كنت أری أحدا يسلّم به إلّا علی أمير المؤمنين عليّ صلوات اللّه عليه، فقال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أبا الصباح إنّه لا يجد عبد حقيقة الإيمان حتّی يعلم أنّ ما لآخرنا ما لأوّلنا «2».

و ذيل الصحيحة كما تری يقتضي استواء الأئمّة عليهم السّلام في جميع الأوصاف و الفضائل و الاختيارات الّتي ثبتت لواحد منهم، فيثبت لجميعهم ما ثبت لعليّ عليه السّلام، بل لا يبعد دعوی ظهوره في استوائهم جميعا مع رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله أيضا، و بالجملة: فمقتضی الصحيحة ثبوت الولاية بالمعنی المطلوب لجميع الأئمّة المعصومين عليهم السّلام.

10- و منها ما في الاختصاص أيضا مرسلا عن أحمد بن عمر الحلبي الثقة قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: لا يستكمل عبد الإيمان حتّی يعرف أنّه يجري لآخرنا ما

                       

يجري لأوّلنا، و هم في الطاعة و الحجّة و الحلال و الحرام سواء، و لمحمّد و عليّ صلوات اللّه عليهما و آلهما فضلهما «1».

و بيان دلالتها يظهر ممّا ذكرناه في صحيحة أبي الصباح آنفا.

11- و منها ما رواه في الاختصاص أيضا بسند صحيح عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: لا يستكمل عبد الإيمان حتّی يعرف أنّه يجري لآخرهم ما جری لأوّلهم، و هم في الحجّة و الطاعة و الحلال و الحرام سواء، و لمحمّد و أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهما و آلهما فضلهما «2».

12- و منها ما رواه أيضا بنفس ذاك الإسناد قال الرضا عليه السّلام: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كلّنا نجري في الطاعة و الأمر مجری واحد، و بعضنا أعلم من بعض 3.

و بيان دلالة هاتين الصحيحتين أيضا يعلم ممّا ذكرناه آنفا، فتذكّر.

13- و منها ما رواه في الاختصاص عن معمّر بن خلّاد عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: سمعته يقول: إنّا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا حذو القذّة بالقذّة 4.

فقد صرّح عليه السّلام بتوارث كلّ لاحق منهم عليهم السّلام، و إطلاق هذا التوارث يقتضي ثبوت جميع الصفات الكمالية و المناصب الإلهية الثابتة لكلّ سابق للّاحق، فلا محالة منصب الولاية بمعنی إدارة امور الامّة إذا كان ثابتا للنبيّ صلّی اللّه عليه و آله أو لأحد من الأئمّة السابقين كأمير المؤمنين عليه السّلام فهو ثابت بعينه لجميع من يلحقه من الأئمّة بعده عليهم السّلام، و الفقرة الأخيرة فيه- أعني قوله عليه السّلام: «حذو القذّة بالقذّة»- تأكيد لإرادة هذا الإطلاق، فإنّ الحذو هو المقايسة و التقدير لأحد الشيئين بالآخر، و القذّة- بضمّ القاف- هي ريش السهم. فحاصل مفادها: أنّ هذا التوارث عامّ لجميع المناصب و الصفات حتّی أنّه لا يخرج عنه مثل القذّة الّتي هي شي‏ء تزييني و صغير أيضا، عن نهاية ابن الأثير في معناه: «يضرب مثلا للشيئين يستويان و لا يتفاوتان» و هو راجع ما قلناه بل ما قلناه تحرير له.

                       

فهذه الطائفة من الأخبار تامّة الدلالة علی ثبوت منصب الولاية لجميع الأئمّة عليهم السّلام، و لا تختصّ بواحد منهم أو بالنبيّ صلوات اللّه عليهم دون الباقين.

 [فعلية ولايتهم لا تتوقف علی البيعة]

بيان شبهة التوقّف‏

قد ظهر بحمد اللّه تعالی من الآيات الشريفة المتعدّدة و طوائف عديدة من الأخبار الكثيرة المتواترة ثبوت الولاية علی إدارة امور الامّة الإسلامية للنبيّ الأكرم و آله الأئمّة الهداة المهديّين، و هذه الأدلّة واضحة الظهور بل قريبة من الصراحة، بل بعضها صريح في أنّ تمام الموضوع لهذه الولاية هو نفس وجودهم الشريف بلا انتظار لأّية حالة و أيّ شي‏ء. و بالنتيجة تكون ولاية كلّ منهم فعلية بلا توقّف علی شي‏ء أصلا. و بالطبع يترتب عليه فعلية وجوب الإطاعة عنهم عليهم السّلام في كلّ ما يتعلّق بإدارة امور الجامعة الإسلامية و ما هو من لوازم تلك الإدارة.

إلّا أنّه ربّما يوجد في الكلمات المنقولة عن سيّد الوصيّين أمير المؤمنين عليه السّلام خلاف ذلك، فيوجد فيها ما يكون ظاهره أنّ فعلية الولاية متفرّقة علی اختيار جمع خاصّ من الامّة هم في ذلك الزمان عدّة من المهاجرين و الأنصار كانوا بالمدينة المنوّرة و باختيارهم أحدا يثبت له الولاية و الإمامة.

فلا بدّ من التعرّض لهذه الكلمات و بيان ما هو المستفاد منها جنب تلك الأدلّة الكثيرة، فنقول: إنّ هذه الكلمات توجد فيما نقل عن مولانا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في نهج البلاغة و تمامه:

1- فمنها ما ذكره عليه السّلام في كتاب له إلی معاوية أرسله مع جرير بن عبد اللّه البجلي، قال عليه السّلام:

أمّا بعد فإنّ بيعتي و أنا بالمدينة قد لزمتك و أنت بالشام لأنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان علی ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار و لا للغائب أن يردّ، و إنّما الشوری للمهاجرين و الأنصار دون غيرهم، فإن اجتمعوا

                       

علی رجل و سمّوه إماما كان ذلك للّه عزّ و جلّ رضا، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلی ما خرج منه، فإن أبی قاتلوه علی اتّباعه غير سبيل المؤمنين و ولّاه ما تولّی و أصلاه جهنّم و ساءت مصيرا ... و اعلم يا معاوية أنّك من الطلقاء الّذين لا تحلّ لهم الخلافة و لا تعقد معهم الإمامة و لا يدخلون في الشوری «1».

فهذا الكلام المبارك مع غمض العين عن ذكره لمبايعة قوم و ظهوره في دخل البيعة في ثبوت الولاية قد دلّ علی أنّ اجتماع قوم خاصّ من المهاجرين و الأنصار لا يدخل فيهم مثل معاوية الّذي هو من الطلقاء، و اختيارهم لأحد و تسميتهم له إماما دخيل في ثبوت الإمامة و الولاية له، و كان هذا الّذي سمّوه إماما محلّ رضا اللّه تعالی، و بهذه العلّة كان أبو بكر و عمر و عثمان أئمّة، و حيث إنّ نفس هذا الجمع بايعوا عليّا عليه السّلام و سمّوه إماما فهو أيضا إمام و علی الناس الآخرين كلّهم سواء كانوا حاضرين في المدينة أو غائبين عنها اتباع هذه التسمية و الانتخاب، و لذلك أيضا فعلی معاوية أن يتبع انتخاب هذه الشوری، فإن خرج عن أمرهم خارج ردّوه إلی الحقّ و إلّا قاتلوه و كانت جهنّم مصيره.

2- و منها قوله عليه السّلام في خطبة خطبها حين مسير أصحاب الجمل إلی البصرة:

أيّها الناس إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه و أعلمهم بأمر اللّه فيه و أعملهم به، فإن شغب شاغب استعتب، فإن أبی قوتل، و لعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّی تحضرها عامّة الناس فما إلی ذلك سبيل و لكن أهلها يحكمون علی من غاب عنها، ثمّ ليس للشاهد أن يرجع و لا للغائب أن يختار «2».

و هذه المقالة المباركة بعد ذكر شرائط ثلاثة لمن هو أحقّ بالإمامة و بعد ذكر وجوب التبعية له أفاد أنّ انعقاد الإمامة و إن لم يحتجّ إلی حضور عامّة الناس و إنشاء الرأي في إمامة من يجعل إماما، إلّا أنّها مع ذلك ينعقد برأي جمع خاصّ عبّر عنهم‏

                       

بلفظة «أهلها» و جعل لهم أنّهم سيحكمون بإمامة من يختارونه علی الغائبين، فليس للغائب أن يختار أحدا بنفسه بل عليه اتباع رأي هذا الجمع، بل ليس للشاهد أيضا- سواء كان من أفراد الجمع أو غيرهم- أن يرجع عمّن اختاروه إماما.

فهذا المقال أيضا فوّض أمر تعيين الوليّ و الإمام إلی جمع خاصّ لم يذكر من خصوصياتهم شيئا سوی التعبير عنهم بلفظة «أهلها»، فهو أيضا في أصل المطلب مثل كلامه السابق و إن ذكر ذاك السابق خصوصية أهل الشوری إثباتا و نفيا بخلاف هذا الثاني.

3- و منها قوله عليه السّلام لابنه الحسن المجتبی عليه السّلام- لمّا قال له: يا أمير المؤمنين إنّ القوم حصروا عثمان يطلبون ما يطلبونه. ثمّ أشار عليه بأن يعزل الناس و يلحق بمكّة حتّی تؤوب العرب و تعود إليها أحلامها و تأتيك وفودها ... فإن اجتمعت الامّة عليك فذاك، و إن اختلفت رضيت بما قضی اللّه، فأجابه عليه السّلام بالنسبة إلی شقوق كلامه المختلفة- ... و أمّا قولك: «ائت مكّة» فو اللّه ما كنت لأكون الرجل الّذي تستحلّ به مكّة، و أمّا قولك: «لا تبايع حتّی تأتي بيعة الأمصار» فإنّ الأمر أمر أهل المدينة و كرهت أن يضيع هذا الأمر «1».

فقوله عليه السّلام في الجواب عن اتّباع بيعة أهل الأمصار: «فإنّ الأمر أمر أهل المدينة» دليل علی أنّه عليه السّلام يری اعتبار بيعة أهل المدينة الناشئة لا محالة عن رأيهم و انتخابهم، فيدلّ علی أنّ الإمامة منوطة برأي أهل المدينة و أنّه به تنعقد الولاية الصحيحة الإسلامية للوالي، و ضياع هذا الاعتبار و انتظار بيعة أهل الأمصار الاخر خلاف هذا الاعتبار و هو ممّا لا يحبّه بل مكروه عنده عليه السّلام.

فهذا المقال أيضا يؤكّد علی إناطة حصول الولاية برأي أهل المدينة لكنّه عليه السّلام لم يشرط فيهم خصوصية كونهم من المهاجرين و الأنصار.

4- و منها قوله عليه السّلام في كتاب له إلی معاوية يكذّب فيه ادّعاءاته: و أمّا

                       

تحذيرك إيّاي أن يحبط عملي و سابقتي في الإسلام فلعمري لو كنت الباغي عليك لكان لمكان تحذّرني ذلك و لكنّي وجدت اللّه تعالی يقول: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّی تَفِي‏ءَ إِلی‏ أَمْرِ اللَّهِ فنظرنا إلی الفئتين، أمّا الفئة الباغية فوجدناها الفئة الّتي أنت فيها، لأنّ بيعتي بالمدينة لزمتك و أنت بالشام كما لزمتك بيعة عثمان بالمدينة و أنت أمير لعمر علی الشام، و كما لزمت يزيد أخاك بيعة عمر و هو أمير لأبي بكر علی الشام «1».

فتراه عليه السّلام حكم بلزوم بيعة أهل المدينة له بالولاية معاوية و هو بالشام، فيدلّ أوّلا علی اعتبار بيعة أهل المدينة لثبوت الولاية و الإمامة العظمی له عليه السّلام، و ثانيا وجوب اتّباع من ليس بالمدينة كمعاوية الّذي هو بالشام لأهلها.

فهذا المقال أيضا يدلّ علی تأثير انتخاب أهل المدينة و بيعتهم لأحد في ثبوت الولاية له كما فيما سبقه. نعم هذا أيضا لم يذكر في أهل المدينة خصوصية مثل كونهم من المهاجرين و الأنصار.

5- و منها قوله عليه السّلام- في كتاب طويل كتبه و أمر أن يقرأ علی الناس في كلّ يوم جمعة و كان هذا في أواخر أيّام قيامه بالولاية-: ... فبعث [يعني معاوية] إليّ:

أنّ أهل الحجاز كانوا الحكّام علی أهل الشام فلمّا قتلوا عثمان صار أهل الشام الحكّام علی أهل الحجاز، فبعثت إليه: إن كنت صادقا فسمّ لي رجلا من قريش الشام تحلّ له الخلافة و يقبل في الشوری، فإن لم تجده سمّيت لك من قريش الحجاز من تحلّ له الخلافة و يقبل في الشوری 2.

فالظاهر أنّ قوله عليه السّلام: «من يقبل في الشوری» إشارة إلی من يصلح أن يكون من أعضاء الشوری الّذين ببيعتهم و رأيهم تثبت الولاية لمن بايعوه و هم المذكورون في كلماته السابقة.

فهذا المقال أيضا يدلّ علی وجود شوری برأيها و بيعتها يثبت ولاية من عيّنوه‏

                       

و بايعوه و إن لم يذكر لأهلها خصوصية سوی أنّ بعض قريش الحجاز صالح لهذا.

6- و منها قوله عليه السّلام في خطبة خطبها في أمر البيعة لمّا تخلّف عنها بعض الناس: ... أيّها الناس، إنّكم بايعتموني علی ما بويع عليه من كان قبلي، و إنّما الخيار للناس قبل أن يبايعوا، فإذا بايعوا فلا خيار لهم، و إنّ علی الإمام الاستقامة و علی الرعية التسليم، و هذه بيعة عامّة من رغب عنها رغب عن دين الإسلام و اتّبع غير سبيل أهله «1».

فهذا المقال المبارك أيضا قد حكم بأنّ الناس علی الخيار في تعيين وليّ الأمر قبل البيعة، و أمّا إذا بايعوا فلا خيار لهم، و حكم في ذيله بأنّ هذه البيعة بما أنّها كانت عامّة فلا يجوز لأحد الرغبة عنها، فإنّ الرغبة عنها رغبة عن دين الإسلام و اتباع لغير سبيل أهل الإسلام فإذا كانت البيعة العامّة بهذه المرتبة من الأهمّية فلا محالة تكون كمال المؤثّر في تعيين وليّ أمر المسلمين، و البيعة قوامها برأي أهل البيعة و انتخابهم رجلا خاصّا يجعلونه وليّ الأمر و إماما. فحاصل مفاد هذا المقال: أنّ حصول الولاية مشروط و موقوف برأي أهل البيعة و لا تنعقد لأحد بلا بيعة و رأي أهل البيعة.

فهذا المقال أيضا يدلّ علی اعتبار رأي و بيعة أهل بيعة عامّة و إن لم يذكر لهم خصوصية.

فحاصل هذه الكلمات: أنّ انعقاد الولاية و الإمامة العظمی لأحد موقوف علی انتخاب جمع قد خصّهم بأن يكونوا من المهاجرين و الأنصار في بعض هذه الكلمات و صرّح بعض آخر بأنّ من كان من قريش الحجاز يصلح أن يكون عضو هذه الجماعة.

و علی أيّ حال فهو خلاف ما استفدناه من تلك الآيات و الروايات الكثيرة من أنّ ولاية النبيّ و الأئمّة المعصومين عليهم الصلاة و السلام فعلية من اللّه تعالی لا تتوقّف علی رأي و لا بيعة.

                       

إزاحة الشبهة

و الجواب عن هذه الشبهة هو: أنّ ثبوت فعلية الولاية من اللّه تعالی لكلّ من النبيّ صلّی اللّه عليه و آله و الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين ليس طريق إثباته مجرّد إطلاق أدلّة ولايتهم بل إنّ كثيرا من آحاد الأدلّة المذكورة في كلّ طائفة من الآيات أو الروايات الماضية صريح في ذلك:

فهل يرتاب أحد في أنّ الولاية الثابتة للنبيّ صلّی اللّه عليه و آله بقوله تعالی: النَّبِيُّ أَوْلی‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ممّا ينشئها اللّه له من عند نفسه؟! أو يرتاب في أنّ التنزيل المذكور ذيل الآية المذكورة أعني قوله تعالی: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ الّذي فسّرته الروايات العديدة بأنّ المراد ثبوت الولاية لعليّ عليه السّلام و بعده للأئمّة عليهم السّلام فهل يشكّ أحد في انّ هذه الولاية غير تلك الولاية الثابتة في صدر الآية من اللّه تعالی للنبيّ؟! بل لا ريب في وحدة المراد بها و وحدتهما في أنّ ثبوتها لهم جميعا من عند اللّه تعالی من دون أن يشترط في ثبوتها لهم أزيد من ثبوت وجودهم المبارك.

و هكذا فهل يحتمل في قوله تعالی: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ... غير أنّ الولاية ثابتة للّه تعالی و لرسوله و للّذين آمنوا الّذين فسّرته الروايات العديدة بعليّ بن أبي طالب و أولاده الأئمّة المعصومين عليهم السّلام و غير أنّ هذا المقام منصب إلهي قد جعله اللّه تعالی لهم و جعله عدلا لولايته تعالی علی المؤمنين؟

بل لا يرتاب أحد في أنّه معناه و أنّ تمام موضوع هذه الولاية هو مجرّد وجود اللّه تعالی و وجود رسوله صلّی اللّه عليه و آله و وجود الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم.

و هكذا فهل يحتمل أحد في آية الغدير سوی أنّه انزل من الربّ تعالی إلی النبيّ أمرا إلهيا أمره اللّه تعالی بتبليغه و أنّ هذا الأمر بمرتبة من الأهمّية إن لم تبلّغه فما بلّغت رسالته؟ و قد فسّرته الروايات المتواترة بأنّه الولاية علی الامّة و كان تبليغ الرسول و توضيحه له بمثل قوله صلّی اللّه عليه و آله: «أ لست أولی بكم من أنفسكم» فإذا

                       

أجابوه ببلی: قال: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» فلا يحتمل في الآية و الروايات المتواترة الواردة ذيلها غير هذا المعنی.

و هكذا فهل يكون معنی للروايات المتعدّدة الواردة في بيان سرّ عدم قتال أمير المؤمنين عليه السّلام من غصب حقّه- بما لها من الطوائف- إلّا أنّه كان له عليه السّلام حقّ الولاية علی الامّة الإسلامية فغصبوا حقّه و هو عليه السّلام لم يقاتلهم للجهات المذكورة في هذه الروايات؟ فلا محالة ثبوت حقّ الولاية علی الامّة له عليه السّلام لم يشترط فيه بيعة و لا رأي و لا انتخاب بل كانت ثابتة له عليه السّلام قد ظلموه بغصبها.

و هكذا كثير من آحاد الروايات الكثيرة الواردة في هذا المرام، فتذكّر.

فبالجملة: فعدّة كثيرة من الآيات و الروايات المعتبرة القطعية الصدور تدلّ بالصراحة علی ثبوت منصب الولاية علی الامّة من اللّه تعالی للنبيّ و لكلّ واحد من الأئمّة المعصومين صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين، و حينئذ فلا مجال لتوهّم إناطة ثبوت هذا الحقّ أو إناطة فعليّته لهم بدخل واحد أو جمع من الناس بل هو أمر أعطاه اللّه سبحانه لهم بلا مدخلية لأحد فيها أصلا و بأيّ نحو.

فبعد هذه النكتة الأساسية يمكن توجيه ما في تلك الكلمات و أمثالها- لو فرض لها مثل- بوجهين:

أحدهما: أنّ كيفية انتخاب الولي بين المسلمين بعد النبيّ الأعظم صلّی اللّه عليه و آله خلافا لما جعله اللّه تعالی و بيّنه رسوله الأكرم مرارا و إجبار أعاظم الأصحاب و أتقيائهم حتّی مثل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام نفسه الّذي كان هو وليّ الأمر من اللّه و رسوله و أولی بالمؤمنين من أنفسهم علی البيعة لمن سمّوه وليّ الأمر و خليفة الرسول أوجب ارتكاز أذهان الناس، لا سيّما و قد مرّ من رحلة الرسول الأكرم صلّی اللّه عليه و آله إلی قتل عثمان أربع و عشرون سنة و لا محالة كان شباب المسلمين قد ارتكزت أذهانهم علی أنّ عقد الشوری في المدينة و تعيين الولي بالبيعة له و نحوها هو الطريق الإسلامي الوحيد لتعيين وليّ أمر المسلمين، خصوصا إذا لو حظ أنّ عامّة المسلمين‏

                       

و المشايخ منهم إلّا الخلّص من الشيعة كانوا يؤيّدون و يصحّحون هذه الطريقة، فلذلك فلا يمكن مع هذه الوضعية و الأرضية بيان ما هو الحقّ و العدول إلی نصب الرسول له عليه السّلام وليّ أمر المسلمين لا سيّما إذا كان مخاطب الكلام مثل معاوية، و عليه فالمناسب أن يستدلّ لإثبات الولاية لنفسه بما يراه الناس و العامّة طريقا.

و الشاهد لثبوت مثل هذا الارتكاز في أذهان المسلمين هو ما رواه ثقة الإسلام في روضة الكافي بسند معتبر عن سليم بن قيس الهلالي- الّذي هو أيضا ثقة بحسب الظاهر- أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام خطب خطبة، و بعد ذكر مقدار من هذه الخطبة قال الراوي: ثمّ أقبل بوجهه و حوله ناس من أهل بيته و خاصّته و شيعته فقال عليه السّلام:

قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله متعمّدين لخلافه ناقضين لعهده مغيّرين لسنّته، و لو حملت الناس علی تركها و حوّلتها إلی مواضعها و إلی ما كانت في عهد رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله لتفرّق عنّي جندي حتّی أبقی وحدي أو قليل من شيعتي «1» الّذين عرفوا فضلي و فرض إمامتي من كتاب اللّه عزّ و جلّ و سنّة رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله.

أ رأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم عليه السّلام فرددته إلی الموضع الّذي وضعه فيه رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله، و رددت فدك إلی ورثة فاطمة عليها السّلام- ثمّ ذكر ثمانية و عشرين موردا آخر و قال:- إذا لتفرّقوا عنّي، و اللّه لقد أمرت الناس أن يجتمعوا في شهر رمضان إلّا في فريضة و أعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادی بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي: يا أهل الإسلام غيّرت سنّة عمر؛ ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا و لقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري، ما لقيت من هذه الامّة من الفرقة «2» و طاعة أئمّة الضلالة و الدعاة إلی النار ....

إلی أن قال: ما لقي أهل بيت نبيّ من امّته ما لقينا بعد نبيّنا صلّی اللّه عليه و آله و اللّه المتسعان‏

                       

علی من ظلمنا، و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم «1».

فهذا الحديث المبارك يحكي زاوية من الشدّة العظيمة الّتي ابتلي بها أمير المؤمنين عليه السّلام و شيعته الفائزون و بعده سائر الأئمّة المعصومين عليهم السّلام. فمع هذه الأرضية الشديدة كيف يمكن الاستدلال البيّن بما هو الحقّ الصحيح؟ بل لا مجال إلّا الالتجاء إلی حديث يرونه حقّا و يثبت به المطلوب الأساسي.

و قد ورد عن كتاب سليم بن قيس الّذي يرويه أبان بن عمر ما حاصله: أنّ معاوية بعث أبا الدرداء و أبا هريرة في حرب صفّين إلی عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام يعرض مطالب عليه، و في ضمن ما أجاب هو عليه السّلام أنّه قال:

و قد بايعني الناس بعد قتل عثمان، و بايعني المهاجرون و الأنصار بعد ما تشاوروا بي ثلاثة أيّام، و هم الّذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان و عقدوا إمامتهم، ولي بذلك أهل بدر و السابقة من المهاجرين و الأنصار غير أنهم بايعوهم قبل، علی غير مشورة من العامّة، و أنّ بيعتي كانت بمشورة من العامّة.

فإن كان اللّه جلّ اسمه جعل الاختيار إلی الامّة و هم الّذين يختارون و ينظرون لأنفسهم و اختيارهم لأنفسهم و نظرهم لها خير لهم من اختيار اللّه و رسوله لهم و كان من اختاروه و بايعوه بيعته بيعة هدی و كان إماما واجبا علی الناس طاعته و نصرته فقد تشاوروا فيّ و اختاروني بإجماع منهم.

و إن كان اللّه جلّ و عزّ هو الّذي يختار و له الخيرة فقد اختارني للأمّة و استخلفني عليهم و أمرهم بطاعتي و نصرتي في كتابه المنزل و سنّة نبيّه صلّی اللّه عليه و آله فذلك أقوی بحجّتي و أوجب بحقّي «2».

و كتاب سليم و إن كان غير معتبر السند إلّا أنّ هذا الّذي تضمّنه كما تری مشتمل علی جوابين، أوّلهما ما عليه ارتكاز الناس، و قد ذكره أوّلا و بصورة أحد

                       

عدلين ذكرهما في قالب إنّ الشرطية ليكون جمعا بين بيان الحقيقة و رعاية التقيّة المضطرّ إليها.

فأمّا كلماته المذكورة في صدر البحث فقد اقتصرت علی الشقّ الأوّل بلا ترديد كما ذكر هو عليه السّلام أيضا أنّ له لا لغيره الولاية علی الامّة بعد الرسول الأعظم صلّی اللّه عليه و آله علی ما مرّ أو يأتي منه عليه السّلام مرّات كريرة عديدة فلا بأس بأن يكون الاقتصار علی خصوص الأوّل لاقتضاء المقام رعاية جانب الشدّة كما لا يخفی.

هذا هو أوّل الوجهين.

الوجه الثاني: أن يقال: إنّ لإثبات ولايته الحقّة طريقين: أحدهما جدلي علی مبنی ما يعتقده عامّة الناس، و ثانيهما هو الاستناد إلی الآيات و السنّة الدالّة عليها، و كلا الطريقين يثبت المطلوب، فكما أنّه عليه السّلام استند إلی الطريق الثاني فهكذا استند في تلك الكلمات إلی الطريق الأوّل، و كلاهما صحيح، و أحدهما لا يبطل الآخر.

                       

تكملة في البيعة و حكمها

قد تبيّنت بكمال الوضوح من الأدلّة الكثيرة القطعية و المتواترة من الآيات القرآنية و الروايات المتعدّدة ولاية النبيّ و الأئمّة المعصومين صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين علی الامّة الإسلامية، و أنّهم عليهم السّلام قد نصّبوا لهذه الولاية من اللّه تعالی، فالنبيّ أولی بالمؤمنين من أنفسهم، و اولو الأرحام بعضهم أولی ببعض في كتاب اللّه من المؤمنين و المهاجرين، و قد أنزل اللّه تعالی ولاية عليّ عليه السّلام و أمر الرسول صلّی اللّه عليه و آله بتبليغه و أنّه لو لم يفعل فما بلّغ رسالته، و امتثالا لهذا الأمر جمع الرسول صلّی اللّه عليه و آله عشرات الآلاف من المسلمين عند رجوعه من حجّة الوداع جمعهم في غدير خمّ و صعد المنبر و خطب خطبة إلی أن قال: أ لست أولی بكم من أنفسكم؟ فقالوا: بلی، فأخذ بيد عليّ بين يدي هؤلاء الناس و رفعه و قال: «... ألا من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ... الخ». و في ذلك قال اللّه تعالی: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ و قد وردت روايات كثيرة تامّة الدلالة علی أنّ المقصود بالموصولين في الآية المباركة هو عليّ و أولاده الأئمّة المعصومين عليهم السّلام و أنّهم كرسول اللّه أولياء امور المسلمين من اللّه تعالی.

الی غير ذلك من الأدلّة الكثيرة التامّة الدلالة علی هذا المطلوب ممّا قد مرّ.

 [تأكيد علی عدم إناطة الولاية و لا وجوب الإطاعة بالبيعة]

و حينئذ نقول: إنّه لا ريب في أنّ مقتضی أدلّة ثبوت هذه الولاية لهم عليهم السّلام أنّ‏

                       

هذه الولاية ثابتة لهم من اللّه تعالی و هي معتبرة بالفعل لهم، و تمام موضوع هذا الاعتبار إنّما هو عنوان وجودهم عليهم السّلام فالنبيّ أو عليّ أو سائر الأئمّة قد اعتبر اللّه لهم هذه الولاية و لم يشترط في ثبوتها لهم أمرا آخر أصلا، فإطلاق أدلّة اعتبار هذا الحقّ لهم عليهم السّلام يقتضي أن لا يكون ثبوتها لهم منوطا بأيّ شي‏ء، فلا محالة لا يشترط في ثبوتها بيعة جميع المسلمين أو جمع منهم مع النبيّ أو الإمام عليه السّلام أصلا.

و إذا كان هذا الحقّ ثابتا لهم بلا أيّ شرط فلا ريب في أنّ من لوازم الولاية أن يكون أخذ التصميم المناسب لإدارة أمر الامّة مفوّضا إلی وليّ الأمر فإنّه لا معنی لولاية الأمر إلّا أنّ لوليّ الأمر و عليه إدارة أمر الامّة، و إليه و عليه أخذ التصميم المناسب و الأمر و النهي بما ينبغي أن يكون أو أن لا يكون.

كما أنّ من لوازمها و من لوازم هذا اللازم أن يجب اتباع أوامره و نواهيه و أن تكون إدارة أمر الامّة تمثلا لما أراد، فلا محالة من لوازم إطلاق ولايتهم عليهم السّلام وجوب اتباع أوامرهم و نواهيهم و وجوب العمل بتصميماتهم في كلّ ما يكون إدارة لأمر الامّة فيجب علی الامّة أيضا إطاعتهم بلا اشتراطه أيضا بشي‏ء حتّی البيعة.

كما أنّ مقتضی ظهور الآيات و الروايات الدالّة علی وجوب إطاعتهم أنّ طاعتهم واجبة مطلقة و بلا قيد، فمثل قوله تعالی: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ليس موضوعه إلّا اللّه تعالی و الرسول و اولي أمر المسلمين الّذين هم الأئمّة عليهم السّلام فإذا صدر منهم أمرّ أو نهي و تحقّق موضوع الإطاعة فإطاعتهم واجبة بلا اشتراط أيّ شي‏ء حتّی مثل بيعة المسلمين لهم.

فمقتضی إطلاق أدلّة ثبوت الولاية كأدلّة وجوب الإطاعة أنّ البيعة ليست شرطا لا في ثبوت أصل منصب الولاية و لا في وجوب إطاعتهم علی الناس بل الرسول و الأئمّة المعصومون صلوات اللّه عليهم أولياء الامور واجبو الإطاعة علی الامّة و إن لم تنشأ من المسلمين بيعة.

و ممّا يؤكّد إطلاق ثبوت الولاية لهم عليهم السّلام حتّی مع فرض عدم البيعة الروايات‏

                       

الكثيرة المتعدّدة الّتي مضت «1» عن علل الشرائع و نهج البلاغة و تمامها في بيان سرّ عدم قيام الأمير عليه السّلام و عدم قتاله مع الطواغيت الثلاثة من أعذار قلّة الأعوان أو ضعف إيمان المسلمين أو الاتباع للنبيّ و بعض النبيّين. و قد عرفت أنّ من هذه الطائفة هي الخطبة المعروفة بالشقشقية و ذاك الكتاب الّذي كتبه حتّی يقرأ علی الناس و الشيعة في كلّ يوم جمعة.

فإنّ تعليل عدم قيامه بأخذ حقّ ولايته الإلهي بهذه العلل فيه دلالة واضحة علی أنّه عليه السّلام كان له هذا الحقّ حتّی في ذلك الزمان الّذي لم يبايعه الناس بل بايعوا غيره من هؤلاء الطواغيت الظلمة الثلاثة، فعدم بيعة الناس معه عليه السّلام لم يسلب حقّه كي لا يكون مجال لأخذ حقّه بل حقّه هذا حقّ إلهي ثابت له و إنّما لم يقم مقام أخذه لهذه العلل المذكورة أو لغيرها أيضا.

فتلك الإطلاقات المتعدّدة و هذه الدلالة الصريحة واضحة الدلالة جدّا علی أنّ البيعة ليست شرطا في حدوث هذا الحقّ و لا أنّ عدمها موجب لأن لا يكون هذا الحقّ ثابتا له و لهم عليهم السّلام بل حقّ الولاية ثابت لهم حتّی مع فرض عدم البيعة بل حتّی مع البيعة لمن ليس أهلا للولاية، و قد عرفت أنّ لازم ثبوته أنّه يجب إطاعته علی المولّی عليهم، أعني المسلمين في كلّ ما يأمر به أو ينهی عنه ممّا يتعلّق بإدارة أمر الامّة.

فالبيعة ليست شرطا لا في أصل حدوث ولايتهم و لا في وجوب طاعة الناس لهم صلوات اللّه عليهم.

نعم يتصوّر و يبقی للبيعة أثر آخر هو أنّ بيعة الناس معناها و لازمها تهيّؤ الناس المبايعين و حضورهم لامتثال أوامر وليّ الأمر، فبعون حضورهم يقدر و يمكن لوليّ الأمر أعمال تصميماته و إقامة ما يراه مصلحة لأمر الامّة و إدارة بلادهم و سائر ما يراه لازما لتحقّق أهداف الإسلام و توسعته و لهدم مخالفيه و مانعي وصول هداية الإسلام إلی جميع امم الأرض، فإنّ الإسلام دين الهداية و القرآن يهدي‏

                       

للّتي هي أقوم و لا يرضی اللّه لعباده الكفر، و وليّ أمر المسلمين هو المأمور بتحقيق هذه الأهداف العالية الإلهية، إلّا أنّه لمّا كان إرادة اللّه تعلّقت بأن يكون الناس بمقتضی اختيارهم يفعلون و يتركون و يطيعون اللّه و لا يعصونه باختيارهم فلا محالة يكون تحقّق هذه الأهداف الإلهية العالية منوطة بحضور الناس و إعانتهم و إطاعتهم، و بهذا المقدار تكون البيعة ذات أثر في تقدّم الأهداف و الطلبات الإسلامية.

و بالحقيقة تكون البيعة ذات أثر في حصول القدرة العادية لوليّ الأمر علی تقديم الأهداف الإلهية العالية الإسلامية، بل بحسب الدقّة ما يحصّل و يوجب حصول هذه القدرة إنّما حضور من يعيّن و يساعد و يمتثل أوامر وليّ الأمر و إن لم تكن بيعة، غاية الأمر أنّ البيعة مقدّمة و تعتمد علی هذا الحضور و الامتثال.

و إلی هذه الفائدة و الدقّة يشير قوله عليه السّلام في ذيل الخطبة الشقشقية: «أما و الّذي فلق الحبّة و برأ النسمة لو لا حضور الحاضر و قيام الحجّة بوجود الناصر و ما أخذ اللّه علی العلماء أن لا يقارّوا علی كظّة ظالم و لا سغب مظلوم لألقيت حبلها علی غاربها و لسقيت آخرها بكأس أوّلها و لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز «1».

فهذا القسم من كلامه عليه السّلام تضمّن أمرين مهمّين في مسألة الولاية الإسلامية باجتماعهما يصير التكليف علی وليّ الأمر منجّزا:

أحدهما: حضور الحاضر الّذي بوجوده و نصرته تقوم الحجّة علی وليّ الأمر، فإنّ وليّ الأمر و إن كان لا يقدر بنفسه و بوحدته علی تقديم الأهداف الإلهية إلّا أنّ حضور الناس للمتهيّئين لامتثال أمره يوجب حصول القدرة له علی إيجاد تلك الأهداف، و عبارته عليه السّلام كما تری قد عبّرت عن هذا الأمر بحضور الحاضر و وجود الناصر، فكلامه هذا و إن وقع عقيب حكاية بيعة الناس عامّة معه علی الولاية إلّا أنّه عليه السّلام خصّ بالذكر فائدة حضور الناس بعدها عند وليّ الأمر لإقامة أوامره، و هذا هو الّذي ذكرناه.

                       

و الأمر الثاني الّذي ذكره هو: ما أفاده عليه السّلام بقوله: «و ما أخذ اللّه علی العلماء أن لا يقارّوا علی كظّة ظالم و لا سغب مظلوم» و قد فسّر الكظّة في اللغة بما يعتري الآكل من الثقل و الكرب عند امتلاء البطن بالطعام، و عليه فكظّة الظالم هي امتلاء جوفه و ظاهره و باطنه من المظالم الّتي ظلم بها المظلومين، كما أنّ اللغة فسّرت السغب بشدّة الجوع، و إضافته إلی المظلوم تعطي أنّ المراد شدّة الجوع و الانكسار الّذي يعتري المظلوم بالظلم الّذي يورد عليه. فحاصل مفاد الفقرة أنّ اللّه تعالی أخذ علی علماء الدين الّذين في صدرهم المعصومون عليهم السّلام أن لا يكون لهم هدوء و قرار إذا كانوا يرون ظلم الظالمين و امتلاء ظاهرهم و باطنهم من أكل حقوق المظلومين تحت أيديهم و يرون شدّة الجوع الوارد علی المظلومين بظلم اولئك الظلمة، فلهذا العهد الإلهي فالعلماء موظّفون بمنع الظلمة من ظلمهم و ردّ حقّ المظلومين إليهم.

فهذا العهد الإلهي و تلك القدرة إذا اجتمعا فقد قامت الحجّة و تمّت علی العالم الّذي عليه ولاية أمر المسلمين، و باجتماعهما وجب عليه عليه السّلام القيام بأمر الولاية، و إلّا فالمنصب الدنيوي اللازم منه و كلّ الدنيا أزهد عنده عليه السّلام من أرذل الأشياء الّذي لا يرغب فيه أحد.

هذا هو مقتضی دلالة تلك الأدلّة الكثيرة القطعية، فليست البيعة لا شرطا في فعلية ولاية المعصومين عليهم السّلام و لا دخيلا في وجوب طاعة الناس عنهم و إنّما لها بما أنّ لازمها حضور المبايعين دخل في حصول القدرة لوليّ الأمر علی ايجاد الأهداف العالية الإلهية.

و بعد ذلك فلنرجع إلی الأدلّة الخاصّة الواردة في البيعة لكي نستفيد منها أنّها هل تدلّ علی دخل البيعة في فعلية ولايتهم أو في وجوب طاعة الناس لهم؟ بل و نستفيد منها أنّه هل للبيعة حكم و أمر شرعي كوجوب العمل بها إذا كانت بيعة مع من هو أهل لأن يبايع معه أم لا؟ فنقول:

                       

إنّ البيعة و المبايعة مأخوذتان من مادّة البيع الّذي هو تمليك مال بعوض، قال الراغب في المفردات: البيع إعطاء المثمن و أخذ الثمن، و الشراء إعطاء الثمن و أخذ المثمن ... و المبايعة و المشاراة تقالان فيهما ... و بايع السلطان: إذا تضمّن بذل الطاعة له بما رضخ له، و يقال لذلك: بيعة و مبايعة، و قوله عزّ و جلّ: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ إشارة إلی بيعة الرضوان المذكورة في قوله تعالی: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ و إلی ما ذكر في قوله تعالی:

إِنَّ اللَّهَ اشْتَری‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ الآية.

فظاهره كما تری أنّ البيعة مأخوذة من مادّة البيع بملاحظة أنّ الرجل المبايع يتعهّد بذل طاعته للسلطان و يعطيها إيّاه في قبال ما يرضخ السلطان له، و الرضخ هو أيضا إعطاء المال، فالبيعة كأصل معنی البيع إعطاء الطاعة بما يبذل له السلطان من الأمن في المال و المسكن و غيرهما.

و قال الفيّومي في المصباح: ... و البيعة: الصفقة علی إيجاب البيع، و تطلق أيضا علی المبايعة و الطاعة.

و قال ابن الأثير في النهاية: و في الحديث أنّه قال: «ألا تبايعوني علی الإسلام» هو عبارة عن المعاقدة عليه و المعاهدة، كأنّ كلّ واحد منهما باع ما عنده من صاحبه و أعطاه خالصة نفسه و طاعته و دخيلة أمره، و قد تكرّر ذكرها في الحديث.

و قال ابن منظور الإفريقي المصري في لسان العرب: «و البيعة: الصفقة علی إيجاب البيع و علی المبايعة و الطاعة، و البيعة: المبايعة و الطاعة، و قد تبايعوا علی الأمر: كقولك: أصفقوا عليه، و بايعه عليه مبايعة: عاهده. و بايعته من البيع و البيعة جميعا، و التبايع، مثله، و في الحديث أنّه قال: «ألا تبايعوني علی الإسلام»؟ هو عبارة عن المعاقدة و المعاهدة، كأنّ كلّ واحد منهما باع ما عنده من صاحبه و أعطاه خالصة نفسه و طاعته و دخيلة أمره، و قد تكرّر ذكرها في الحديث.

و قال الطريحي في مجمع البحرين: و المبايعة: المعاقدة و المعاهدة، كأنّ كلّا

                       

منهما باع ما عنده من صاحبه و أعطاه خالصة نفسه و دخيلة أمره.

فهذه بعض من أقوال اللغة و التحقيق في بيان مفهوم البيعة و المبايعة، فقد فسّروها بالمعاقدة و المعاهدة علی الطاعة، و قد ذكروا أنّها مأخوذ فيها معنی البيع الّذي هو تمليك مال بمال فبذل المبايع طاعته في قبال ما يعطيه السلطان و وليّ الأمر مثلا من الأمن و الأمان و نحوهما، و لعلّه يأتي في بعض ما نذكره إن شاء اللّه من الأدلّة توضيح و تفسير لمعناها.

فإرادة هذا المعنی منها واضحة، و إنّما المهمّ هو المراجعة إلی الآثار و الآيات الواردة فيها لكي نری هل يستفاد منها بعض الامور المارّة الذكر أم لا؟ فنقول:

قد جاء ذكر المبايعة في الآيات القرآنية و الأحاديث المأثورة عن المعصومين عليهم السّلام:

 [الآيات المتعرّضة للبيعة، و هي آيات أربع‏]

أمّا الآيات فقد جاء ذكرها في آيات ثلاث:

الآية الأولی قوله تعالی في سورة الفتح: [/ 18]

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً «1».

فهذه الآية المباركة متضمّنة لبيعة الناس للرسول صلّی اللّه عليه و آله بيعة تسمّی بيعة الرضوان لنزول قوله تعالی فيه: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.

و كانت هذه البيعة في السنة السادسة من الهجرة. و ذلك أنّه صلّی اللّه عليه و آله أراد المسير إلی مكّة عام الحديبية معتمرا و كان في ذي القعدة من سنة ستّ من الهجرة- كما في مجمع البيان»

 ذيل الآية 11 من سورة الفتح في قوله تعالی: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ-. فلم يوافقه قريش في تلك السنة و أدّی الأمر إلی مبايعة أصحابه‏

                       

له- علی ما سيأتي إن شاء اللّه تعالی- ثمّ عقد عقد الصلح مع قريش علی أن يرجع هو و المسلمون في هذا العام و يرجعوا إلی الاعتمار في السنة التالية.

و في مجمع البيان- ذيل الآية 15 من سورة الفتح في قوله تعالی: قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ-: إنّ هذه السورة نزلت بعد الانصراف من الحديبية في سنة ستّ من الهجرة «1».

و في مجمع البيان- في تفسير الآية 27 من سورة الفتح-: و كذلك جری الأمر في عمرة القضاء في السنة التالية للحديبية و هي سنة سبع من الهجرة في ذي القعدة و هو الشهر الّذي صدّه فيه المشركون عن المسجد الحرام، فخرج النبيّ صلّی اللّه عليه و آله و دخل مكّة مع أصحابه معتمرين، و أقاموا بمكّة ثلاثة أيّام ثمّ رجعوا إلی المدينة 2.

و في مجمع البيان أيضا في تفسير سورة النصر عند حديث فتح مكّة قال:

و خرج [الرسول‏] عامدا إلی مكّة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان في عشرة آلاف من المسلمين و نحو من أربعمائة فارس ... 3.

و فيه أيضا- في تفسير الآية 15 من سورة الفتح-: «و كانت غزوة تبوك بعد فتح مكّة و بعد غزوة حنين و الطائف و رجوع النبيّ صلّی اللّه عليه و آله منها إلی المدينة و مقامه ما بين ذي الحجّة إلی رجب ثمّ تهيّأ في رجب للخروج إلی تبوك و كان منصرفه من تبوك في بقية رمضان من سنة تسع من الهجرة، و لم يخرج صلّی اللّه عليه و آله بعد ذلك لقتال و لا غزو إلی أن قبضه اللّه تعالی 4.

فقد ذكرنا ذكر تواريخ هذه الامور لارتباطها بمفاد الآيات الثلاث المذكورة، و ليتبيّن بالالتفات إليها زمان وقوع هذه المبايعات بالدقّة فإنّه نستنتج منها خصوصيات تأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه تعالی.

و كيف كان، ففي تفسير عليّ بن إبراهيم ذيل هذه الآية: «و نزلت في بيعة الرضوان لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ و اشترط

                       

عليهم أن لا ينكروا بعد ذلك علی رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله شيئا يفعله و لا يخالفوه في شي‏ء يأمرهم به، فقال اللّه عزّ و جلّ بعد نزول آية الرضوان: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلی‏ نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفی‏ بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً، و إنّما رضي عنهم بهذا الشرط أن يفوا بعد ذلك بعهد اللّه و ميثاقه و لا ينقضوا عهده و عقده فبهذا الشرط رضي اللّه عنهم، فقد قدّموا آية الشرط علی بيعة الرضوان، و إنّما نزلت أوّلا بيعة الرضوان ثمّ آية الشرط عليهم فيها «1».

و لأن يتبيّن المراد من المبايعة المذكورة في آيتنا يناسب جدّا أن نذكر الصحيحة المروية في تفسير القمّي رحمه اللّه فيها:

قال: حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن ابن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

كان سبب نزول هذه السورة و هذا الفتح العظيم أنّ اللّه عزّ و جلّ أمر رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله في النوم أن يدخل المسجد الحرام و يطوف و يحلق مع المحلّقين، فأخبر أصحابه و أمرهم بالخروج، فخرجوا، فلمّا نزل ذا الحليفة أحرموا بالعمرة و ساقوا البدن و ساق رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله ستّا و ستّين بدنة و أشعرها عند إحرامه و أحرموا من ذي الحليفة ملبّين بالعمرة قد ساق من ساق منهم الهدي مشعرات مجلّلات «2».

فلمّا بلغ قريشا ذلك بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا ليستقبل رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله فكان يعارضه علی الجبال، فلمّا كان في بعض الطريق حضرت صلاة الظهر فأذّن بلال و صلّی رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله بالناس، فقال خالد بن الوليد: لو كنّا حملنا عليهم و هم في الصلاة لأصبنا هم فإنّهم لا يقطعون صلاتهم، و لكن تجي‏ء

                       

لهم الآن صلاة اخری أحبّ إليهم من ضياء أبصارهم فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم، فنزل جبرئيل عليه السّلام علی رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله بصلاة الخوف بقوله: وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ الآية، و هذه الآية في سورة النساء و قد مضی ذكر خبر صلاة الخوف فيها ....

فلمّا كان في اليوم الثاني نزل رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله الحديبية و كان علی طرف الحرم و كان رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله يستنفر بالأعراب في طريقه معه فلم يتبعه أحد و يقولون:

أ يطمع محمّد صلّی اللّه عليه و آله و أصحابه أن يدخلوا الحرم و قد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوهم، أنّه لا يرجع محمّد صلّی اللّه عليه و آله و أصحابه إلی المدينة أبدا، فلمّا نزل رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله الحديبية خرجت قريش يحلفون باللّات و العزّی لا يدعون محمّدا صلّی اللّه عليه و آله يدخل مكّة و فيهم عين تطرف، فبعث إليهم رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله أنّي لم آت لحرب و إنّما جئت لأقضي نسكي و أنحر بدني و اخلّي بينكم و بين لحماتها.

فبعثوا عروة بن مسعود الثقفي و كان عاقلا لبيبا و هو الّذي أنزل اللّه فيه:

وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلی‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ فلمّا أقبل علی رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله عظّم ذلك و قال: يا محمّد تركت قومك و قد ضربوا الأبنية و أخرجوا العود المطافيل «1» يحلفون باللّات و العزّی لا يدعوك تدخل مكّة فإنّ مكّة حرمهم و فيها عين تطرف، أ فتريد أن تبيد أهلك و قومك يا محمّد؟! فقال رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله: ما جئت لحرب و

فرجع إلی قريش و أخبره

                       

ويح قريش قد نهكتهم الحرب ألا خلّوا بيني و بين العرب؛ فإن أك صادقا أجرّ الملك إليهم مع النبوّة، و إن أك كاذبا كفيتهم ذؤبان العرب لا يسألني اليوم امرؤ من قريش خطّة ليس للّه فيها سخط إلّا أجبتهم إليه.

قال: فوافوا رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله فقالوا: يا محمّد ألا ترجع عنّا عامك هذا إلی أن ينظر إلی ما ذا يصير أمرك و أمر العرب، فإنّ العرب قد تسامعت بمسيرك، فإن دخلت بلادنا و حرمنا استذلّتنا العرب و اجترأت علينا و نخلّي لك البيت في العام القابل في هذا الشهر ثلاثة أيّام حتّی تقضي نسكك و تنصرف عنّا. فأجابهم رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله إلی ذلك.

و قالوا له: و تردّ إلينا كلّ من جاءك من رجالنا و نردّ إليك كلّ من جاءنا من رجالك.

فقال رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله: من جاءكم من رجالنا فلا حاجة لنا فيه و لكن علی أنّ المسلمين بمكّة لا يؤذون في إظهارهم الإسلام و لا يكرهون و لا ينكر عليهم شي‏ء يفعلونه من شرائع الإسلام، فقبلوا ذلك ....

و رجع سهيل بن عمرو و حفص بن الأحنف إلی قريش فأخبراهم بالصلح ....

و رجع حفص بن الأحنف و سهيل بن عمرو إلی رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و قالا: يا محمّد قد أجابت قريش إلی ما اشترطت عليهم من إظهار الإسلام و أن لا يكره أحد علی دينه.

فدعا رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله بالمكتب «1» و دعا أمير المؤمنين عليه السّلام و قال له: اكتب، فكتب أمير المؤمنين عليه السّلام: «بسم اللّه الرحمن الرحيم». فقال سهيل بن عمرو: لا نعرف الرحمن، اكتب كما كان يكتب آباؤك «باسمك اللّهمّ» فقال رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله:

اكتب «باسمك اللّهمّ» فإنّه اسم من أسماء اللّه.

ثمّ كتب: «هذا ما تقاضی عليه محمّد رسول اللّه و الملأ من قريش». فقال سهيل ابن عمرو: لو علمنا أنّك رسول اللّه ما حاربناك، اكتب: «هذا ما تقاضی عليه محمّد ابن عبد اللّه» أ تأنف من نسبك يا محمّد؟! فقال رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله: أنا رسول اللّه و إن لم تقرّوا، ثمّ قال: امح يا عليّ و اكتب «محمّد بن عبد اللّه». فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: ما

                       

أمحو اسمك من النبوّة أبدا، فمحاه رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله بيده.

ثمّ كتب: «هذا ما اصطلح عليه محمّد بن عبد اللّه و الملأ من قريش و سهل بن عمرو، و اصطلحوا علی وضع الحرب بينهم عشر سنين علی أن يكفّ بعض عن بعض و علی أنّه لا إسلال و لا إغلال «1» و أنّ بيننا و بينهم غيبة مكفوفة و أنّه من أحبّ أن يدخل في عهد محمّد و عقده فعل، و إنّ من أحبّ أن يدخل في عهد قريش و عهدها فعل، و أنّه من أتی من قريش إلی أصحاب محمّد بغير إذن وليّه يردّه إليه، و أنّ من أتی قريشا من أصحاب محمّد لم يردّه إليه، و أن يكون الإسلام ظاهرا بمكّة لا يكره أحد علی دينه و لا يؤذی و لا يعيّر، و أنّ محمّدا يرجع عنهم عامه هذا و أصحابه ثمّ يدخل علينا في العام القابل مكّة فيقيم فيها ثلاثة أيّام، و لا يدخل عليها بسلاح إلّا سلاح المسافر، السيوف في القراب».

و كتب عليّ بن أبي طالب و شهد علی الكتاب المهاجرون و الأنصار ....

قال: فلمّا كتبوا الكتاب قامت خزاعة فقالت: نحن في عهد محمّد رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و عقده، و قامت بنو بكر فقالت: نحن في عهد قريش و عقدها.

و كتبوا نسختين: نسخة عند رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و نسخة عند سهيل بن عمرو.

و رجع سهيل بن عمرو و حفص بن الأحنف إلی قريش و أخبراهم.

و قال رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله لأصحابه: انحروا بدنكم و أحلقوا رءوسكم ... ثمّ رحل رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله نحو المدينة فرجع إلی التنعيم و نزل تحت الشجرة ... فنزلت آية الرضوان: نزل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ «2».

فهذه الصحيحة قد تضمّنت ذكر هذا السفر المبارك و ما ذكر متن عقد الصلح‏

                       

بالتفصيل إلّا أنّها لم تتعرّض لحديث المبايعة مع أنّها كانت فيه، لكنّها مذكورة في صحيحة اخری رواها ثقة الإسلام في الكافي و في كلمات المفسّرين.

و نحن نذكر ما ورد فيها في صحيحة الكافي أوّلا ثمّ نتبعه ببعض توضيحات اخری لازمة:

ففيها- بعد ذكر أنّ المشركين أرسلوا أخيرا سهيل بن عمرو و حويطب بن عبد العزّی- ما نصّه:

فقالا: إنّ قومك يناشدونك اللّه و الرحم أن تدخل عليهم بلادهم بغير إذنهم و تقطع أرحامهم و تجرّئ عليهم عدوّهم. قال: فأبی عليهما رسول اللّه إلّا أن يدخلها.

و كان رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله أراد أن يبعث عمر، فقال: يا رسول اللّه إنّ عشيرتي قليلة و إنّي فيهم علی ما تعلم، و لكنّي ادلّك علی عثمان بن عفّان، فأرسل إليه رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله فقال: انطلق إلی قومك من المؤمنين، فبشّرهم بما وعدني ربّي من فتح مكّة، فلمّا انطلق عثمان لقي أبان بن سعيد، فتأخّر عن السرح، فحمل عثمان بين يديه، و دخل عثمان فأعلمهم، و كانت المناوشة.

فجلس سهيل بن عمرو عند رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و جلس عثمان في عسكر المشركين، و بايع رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله المسلمين و ضرب بإحدی يديه علی الاخری لعثمان ... الحديث «1».

فهذان الخطّان الأخيران فيهما نحو إشارة إلی أنّ مبايعته صلّی اللّه عليه و آله كانت لارتباط بأمر تأخير عثمان و لذلك بعد المبايعة ضرب بإحدی يديه علی الاخری لعثمان لكنّه لا صراحة فيهما لذلك.

و في مجمع البيان- في تفسير سورة الفتح، تحت عنوان قصّة فتح الحديبية-:

قال ابن عبّاس: إنّ رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله خرج يريد مكّة فلمّا بلغ الحديبية وقفت‏

                       

ناقته و زجرها فلم تنزجر و بركت الناقة، فقال أصحابه: خلأت «1» الناقة، فقال صلّی اللّه عليه و آله: ما هذا لها عادة و لكن حبسها حابس الفيل، و دعا عمر بن الخطّاب ليرسله إلی أهل مكّة ليأذنوا بأن يدخل مكّة و يحلّ من عمرته و ينحر هديه، فقال:

يا رسول اللّه مالي بها حميم و أنّي أخاف قريشا لشدّة عداوتي إيّاها و لكن أدلّك علی رجل هو أعزّ بها منّي عثمان بن عفّان، فقال: صدقت، فدعا رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله عثمان، فأرسله إلی أبي سفيان و أشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب و إنّما جاء زائرا لهذا البيت معظّما لحرمته، فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و المسلمين أنّ عثمان قد قتل، فقال صلّی اللّه عليه و آله: لا نبرح حتّی نناجز القوم، و دعا الناس إلی البيعة، فقام رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله إلی الشجرة فاستند إليها و بايع الناس علی أن يقاتلوا المشركين و لا يفرّوا.

قال عبد اللّه بن معقل: كنت قائما علی رأس رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله ذلك اليوم و بيدي غصن من الشجرة أذبّ عنه و هو يبايع الناس فلم يبايعهم علی الموت و إنّما بايعهم علی أن لا يفرّوا «2».

فظهر ممّا نقله المجمع أنّ البيعة كانت لأمر يرتبط بعثمان لبلوغ خبر قتله إليهم، فبايعه المسلمون علی أن يحاربوا المشركين و لا يفرّوا، فالبيعة إنّما كانت علی التهيّؤ للحرب و المقاومة قبال المشركين.

فقد تحصّل ممّا بيّنّاه بطوله: أنّ هذه البيعة لم تكن مبايعة علی ولايته صلّی اللّه عليه و آله لأمرهم و إدارة امور بلاد الإسلام فإنّ تصدي هذه الامور قد مضت عليه سنون و إنّما كانت المبايعة علی المقاومة و عدم الفرار من حرب المشركين الّتي لم تقع من رأس لرجوع عثمان سالما و ظهور أنّه لم يقتل بل وقعت بينه و بينهم مصالحة علی ترك القتال بينهم عشر سنوات كما مرّ.

فهذه البيعة ليست بيعة علی الولاية لكي يتوهّم دلالة الآية علی اشتراط

                       

فعليّتها بالبيعة أو اشتراط وجوب إطاعة الناس لوليّ الأمر بالبيعة و إنّما هو بيعة مقدّمية لتهيّؤ المسلمين للحرب و لا دلالة فيها علی أنّه لو لم يبايعهم لما وجب عليهم تبعيّته في أمره بالحضور في الحرب و قتال القوم، بل إنّما هي أمر مقدّمي أقدم هو صلّی اللّه عليه و آله علی أخذها عنهم تهيئة لمقدّمتها تهيئة عرفية، و إلّا فكما عرفت فمقتضی إطلاق ولايتها و إطلاق أدلّة وجوب طاعته أنّ إطاعته صلّی اللّه عليه و آله واجبة من دون توقّف و لا حاجة إلی البيعة.

نعم إنّ إظهار المسلمين لتهيّؤهم لحرب المشركين اتّباعا لأمره و طلبه و بيعتهم له صلّی اللّه عليه و آله علی ذلك إظهار منهم للتهيّؤ لمقام امتثال أمره و بذلك يستحقّون ثواب الطاعة و الانقياد فكان جديرا بأن يقال فيهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ....

و قد روی عليّ بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن عبد الملك بن هارون عن أبي عبد اللّه عن آبائه عليهم السّلام أنّ عليّا عليه السّلام كتب كتابا إلی معاوية و ذكر فيه: ... و أنا أوّل من بايع رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله تحت الشجرة في قوله: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ «1».

و في تفسير البرهان هنا عن محمّد بن العبّاس- كما في تأويل الآيات- بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قلت: قول اللّه عزّ و جلّ: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ كم كانوا؟ قال: ألفا و مائتين، قلت:

هل كان فيهم عليّ عليه السّلام؟ قال: نعم، عليّ سيّدهم و شريفهم «2».

فهذه الآية المباركة و إن دلّت علی فضيلة لتلك البيعة إلّا أنّها ليس فيها ما يخالف القواعد الماضية أصلا.

                       

الآية الثانية قوله تعالی في سورة الفتح [/ 10]

أيضا: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلی‏ نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفی‏ بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً «1».

فالآية المباركة قد عظّمت المبايعة له صلّی اللّه عليه و آله و جعلتها عدلا لمبايعة اللّه تعالی، و قد حكمت أيضا برفعة قدرها بأنّ يد اللّه فوق أيديهم- علی بعض الاحتمالات- و حكمت جزما بأنّ من نكث و نقض العهد الّذي تعهّده بالمبايعة فضرر هذا النقض يرجع إلی نفسه، و هو دلالة علی أنّ عهد المبايعة له صلّی اللّه عليه و آله يكون جميع منافعه إلی المؤمنين المبايعين، و لهذه الجهة تكون خسارة نقضه أيضا عائدة عليهم و حكمت أيضا بأنّ مَنْ أَوْفی‏ بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.

ففيه دلالة واضحة علی أنّ البيعة مع الرسول- بما أنّه رسول من اللّه تعالی- بيعة مع اللّه و معاهدة له تعالی بما يقع فيه البيعة، و لذلك فالوفاء بهذه البيعة و العهد يوجب نيل أجر عظيم من اللّه تعالی.

فالآية المباركة قد وردت في تعظيم شأن المبايعة للرسول صلّی اللّه عليه و آله تلك الدرجة الرفيعة، إلّا أنّها مع ذلك كلّه فإنّما اشتملت تعظيما لأمر البيعة و إنّ نكثها يوجب خسرانا علی المبايع و الوفاء بها يوجب أجرا عظيما، فمع ذلك كلّه ليس فيها دلالة علی اشتراط فعلية ولاية الرسول الّذي هو وليّ الأمر بمبايعة المسلمين له و لا علی اشتراط وجوب طاعة الناس له صلّی اللّه عليه و آله بهذه البيعة، بل إنّ أدلّة فعلية ولايته كسائر الولاة المعصومين عليهم السّلام باقية علی مقتضاها من إطلاق الولاية و فعليّتها بلا أيّ شرط، كما أنّ إطلاق أدلّة وجوب الإطاعة لهم أيضا باقية علی ما كانت بلا ورود قيد عليها كما هو واضح.

این مورد را ارزیابی کنید
(0 رای‌ها)
محتوای بیشتر در این بخش: « قسمت7 قسمت 9 »

پیام هفته

همکاری با نفوذیان خائن و اختلاس‌گران بی دین
قرآن : لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ کامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (سوره نحل، آیه 52)ترجمه: تا روز قیامت بار گناهان خود را تمام بردارند ، و [ نیز ] بخشی از بار گناهان کسانی را که ندانسته آنان را گمراه می کنند. آگاه باشید ، چه بد باری را می کشند.حدیث: و ایما داع دعی الی ضلالة فاتبع علیه، فان علیه مثل اوزار من اتبعه، من غیر ان ینقص من اوزارهم شیئا!: (مجمع‌البیان، ج6، ص 365)ترجمه: ... و هر کس دعوت به ضلالت کند و از او پیروی کنند همانند کیفر پیروانش را خواهد داشت، بی آنکه از کیفر آنها کاسته شود.

ادامه مطلب

موسسه صراط مبین

نشانی : ایران - قم
صندوق پستی: 1516-37195
تلفن: 5-32906404 25 98+
پست الکترونیکی: این آدرس ایمیل توسط spambots حفاظت می شود. برای دیدن شما نیاز به جاوا اسکریپت دارید