الدرس‌ الثالث‌ والثلاثون‌

الدرس‌ الثالث‌ والثلاثون‌:

 يعيّن‌ أهل‌ الحلّ والعقد الولي‌ّ الفقيه‌، لا برأي‌ أكثريّة‌ عامّة‌ الناس‌

 

 

أعُوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ

بِسْـمِ اللَهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِـيـمِ

وصلَّی اللَهُ عَلَی سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ

ولَعْنَةُ اللَهِ عَلَی أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَی‌ قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ

ولاَ حَولَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَهِ العلی‌ِّ العَظِيمِ

 

 من‌ شرائط‌ ولاية‌ الفقيه‌ الثبوتيّة‌: الاعلميّة‌ بأمر الله‌، الاورعيّة‌، الاقوائيّة‌، الذكوريّة‌، البلوغ‌، كمال‌ العقل‌، الهجرة‌ إلی‌ دار الإسلام‌، والتشيّع‌ والإسلام‌ وهما أمر واحد؛ كما يُستفاد من‌ بعض‌ الروايات‌ لزوم‌ كون‌ الولي‌ّ الفقيه‌ طاهر المولد، أي‌ لا يكون‌ من‌ أبناء الزنا.

 كيف‌ نصل‌ إلی‌ الولي‌ّ الفقيه‌ في‌ مقام‌ الإثبات‌؟ ومن‌ أين‌؟ وما هو الطريق‌ إلیه‌؟ والجواب‌: يختصّ طريق‌ الوصول‌ إلیه‌ بتشخيص‌ أهل‌ الفنّ والخبرة‌؛ فَسْئَلُو´ا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن‌ كُنتُمْ لاَتَعْلَمُونَ. [20]

 فعلی‌ الإنسان‌ أن‌ يرجع‌ في‌ كلّ موضوع‌ من‌ الموضوعات‌ إلی‌ أهل‌ الخبرة‌ في‌ ذلك‌ الفنّ للحصول‌ علی‌ إلیقين‌، والخروج‌ من‌ الشكّ والترديد، إذ إنَّ أهل‌ الخبرة‌ هم‌ وحدهم‌ الذين‌ يعرفون‌ ذلك‌ الموضوع‌، لاجميع‌ الناس‌. فلاطريق‌ للناس‌ أبداً إلی‌ تلك‌ الطرائف‌ والدقائق‌ والدرجات‌ العإلیة‌ التي‌ تكون‌ موجودة‌ في‌ نفس‌ الفقيه‌. فالناس‌ لا يرون‌ سوي‌ الصورة‌، ولايدركون‌ سوي‌ انعكاس‌ الظاهر، فهم‌ ينجذبون‌ لمن‌ كان‌ ظاهره‌ أكثر رونقاً وخداعاً. ولا يفهم‌ تلك‌ الدقائق‌ اللطيفة‌ إلاّ أهل‌ الفنّ، الذين‌ لهم‌ قدرة‌ التشخيص‌ والتفريق‌ بين‌ المهمّ والاهمّ والعالم‌ والاعلم‌ والتقي‌ والاتقي‌.

 إنَّ رجوع‌ الناس‌ في‌ أُمورهم‌ إلی‌ أهل‌ الاختصاص‌ في‌ كلّ موضوع‌ من‌ الموضوعات‌ من‌ المسائل‌ الارتكازيّة‌ والعرفيّة‌ والطبيعيّة‌ والتجريبيّة‌؛ فلايقومون‌ بالاختيار العشوائي‌ّ في‌ حالة‌ التردّد والشكّ في‌ تحديد الشخص‌ المطلوب‌، بل‌ يرجعون‌ إلی‌ أهل‌ الخبرة‌ ليأخذوا رأيهم‌ في‌ تحديد الشخص‌ الافضل‌ تخصّصاً والاكثر بصيرة‌ وخبرة‌ في‌ ذلك‌ الفنّ.

 فإذا أرادوا إجراء عمليّة‌ جراحيّة‌ ( وكان‌ عندهم‌ في‌ هذا المجال‌ أطبّاءمتعدّدون‌) فلايختارون‌ لذلك‌ طبيباً بشكل‌ عشوائي‌ّ، بل‌ يرجعون‌ إلی‌ الاطبّاء الآخرين‌ المطّلعين‌ علی‌ وضعه‌ بشكل‌ كامل‌، فيقوم‌ أهل‌ الخبرة‌ منهم‌ بترجيح‌ طبيب‌ علی‌ الآخرين‌.

ولو جعلنا اختيار الاخصّائي‌ّ بيد عامّة‌ الناس‌ فسيبطل‌ حكمهم‌، لانَّ عامّة‌ الناس‌ لايملكون‌ خبرة‌ في‌ هذا الموضوع‌، ورأي‌ الاكثريّة‌ ساقط‌ عن‌ درجة‌ الاعتبار بشكل‌ كلّي‌ّ في‌ هذا المجال‌، لانَّ أكثريّة‌ الناس‌ يتحرّكون‌ ويسعون‌ علی‌ أساس‌ ما يحملونه‌ في‌ ضمائرهم‌ وآرائهم‌ وأفكارهم‌ ومقاصدهم‌.

 الرجوع الي الفهرس

دلالة‌: فَسْئَلُو´ا أَهْلَ الذِّكْرِ... وآية‌: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي‌ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ...

يتحرّك‌ أكثريّة‌ الناس‌ وفقاً لمنطق‌ الانفعال‌ لا العقل‌

 إنَّ أفكار عامّة‌ الناس‌ علی‌ مستوي‌ متدنٍ وهابط‌، ولايستطيعون‌ إدراك‌ تلك‌ الخصوصيّات‌ اللازمة‌ في‌ الشخص‌ الاخصّائي‌ّ.

 وقد وردت‌ حول‌ هذه‌ المسألة‌ آيات‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌:

 يقول‌ تعإلی‌ في‌ سورة‌ الزمر: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي‌ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَيَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الاْلْبَـ'بِ. [21]

 فلا يتساوي‌ الذين‌ يعلمون‌ مع‌ الذين‌ لا يعلمون‌. وأصحاب‌ الفهم‌ والإدراك‌ يدركون‌ أ نَّه‌ لا ينبغي‌ لهذه‌ الاُمور أن‌ تكون‌ بيد الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَيَعْلَمُونَ، بدرجة‌ واحدة‌ في‌ مسألة‌ انتخاب‌ الولي‌ّ الفقيه‌.

 ويقول‌ تعإلی‌ في‌ سورة‌ الرعد: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي‌ الاْعْمَي‌' وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي‌ الظُّلُمَـ'تُ وَالنُّورُ. [22]

 فيقول‌ تعإلی‌ هنا علی‌ نحو الاستفهام‌ الاستنكاري‌ّ: هل‌ يمكن‌ التسوية‌ بين‌ الاعمي‌ والبصير، أو بين‌ الظلمات‌ والنور؟! فالجهل‌ عمي‌ وظلمة‌، والعلم‌ بصيرة‌ ونور. ولا يمكنكم‌ أن‌ تجمعوا بين‌ النور والظلمة‌، وبين‌ العمي‌ والبصر لتجعلوهم‌ معاً منشأً واحداً للاثر وفي‌ درجة‌ واحدة‌!

 الرجوع الي الفهرس

الآيات‌ الدالّة‌ علی‌ أنَّ عامّة‌ الناس‌ يفرّون‌ من‌ الحقّ

انتخاب‌ العوامّ تبع‌ للمزاجيّة‌ والتفكير السطحي‌ّ والنظرة‌ الساذجة‌

 ويقول‌ تعإلی‌ في‌ سورة‌ المؤمنون‌: بَلْ جَآءَهُم‌ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَـ'رِهُونَ* وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَـ'وَ ' تُ وَالاْرْضُ وَمَن‌ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَـ'هُم‌ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن‌ ذِكْرِهِم‌ مُّعْرِضُونَ. [23]

 لقد أتينا بالحقّ للناس‌ ( والحقّ يعني‌ الاصالة‌ والواقعيّة‌، كما أنَّ وجود النبي‌ّ حقّ ومتحقّق‌ بالاصالة‌ والواقعيّة‌ ) لكنَّ أكثر الناس‌ يمتنعون‌ عن‌ قبول‌ الحقّ، وطباعهم‌ معرضة‌ عنه‌، فلم‌ تصل‌ تربية‌ الناس‌ وتكاملهم‌ النوعي‌ّ في‌ ذلك‌ المستوي‌ في‌ الرشد والارتقاء لحدّ الآن‌، أي‌ إلی‌ المستوي‌ الذي‌ يكون‌ الطبع‌ الاوّلي‌ّ للناس‌ هو الانجذاب‌ للحقّ، والسعي‌ إلیه‌ حتّي‌ لو خالف‌ لذّاتهم‌ الشهوانيّة‌ وميولهم‌ الطبيعيّة‌ والمادّيّة‌.

 لا يزال‌ الناس‌ إلی‌ الآن‌ في‌ مستوي‌ بسيط‌ ورهين‌ للافكار البهيميّة‌، ولم‌يخرج‌ عامّة‌ الناس‌ إلی‌ الآن‌ من‌ هذه‌ الحدود لكي‌ يتّجهوا نحو الحقّ، فطباعهم‌ الاوّليّة‌ تُعرِض‌ عن‌ الحقّ وتهرب‌ منه‌. وليس‌ بإمكان‌ الحقّ من‌ اتّباع‌ آرائهم‌ وأفكارهم‌.

 عبّرت‌ الآية‌ عن‌ آرائهم‌ وأفكارهم‌ بصفتها أهواء، والاهواء هي‌ الافكار الفارغة‌ الخاوية‌. فلو اتّبع‌ الحقّ والاصالة‌ والواقعيّة‌ والحقيقة‌ أهواء وأفكار هؤلاء الناس‌ الخاوية‌ والخإلیة‌ والفاقدة‌ للاعتبار لفسدت‌ السماوات‌ والارض‌ ومن‌ يعيش‌ بينهما. فليس‌ بمقدور الحقّ إذَن‌ أن‌ يتّبع‌ الاكثريّة‌.

 لقد جئنا لهؤلاء الناس‌ بحقيقة‌ الذكر والتذكير بالحقّ، وبما يلزم‌ للإنسان‌ ما يذكّره‌، وأرشدناهم‌ إلی‌ ذلك‌؛ لكنّهم‌ أعرضوا عن‌ ذكر الله‌ ولم‌يصغوا.

 ويقول‌ تعإلی‌ في‌ سورة‌ المائدة‌: قُل‌ لاَّ يَسْتَوِي‌ الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَهَ يَـ'´أُولِي‌ الاْلْبَـ'بِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. [24]

 قل‌ يا أيّها النبي‌ّ أن‌ ليس‌ الخبيث‌ والطيّب‌ في‌ مستوي‌ واحد، ولاهما متساويان‌، وإن‌ كان‌ للخبيث‌ كثرة‌ في‌ العالم‌ ( سواء كثرة‌ عدديّة‌ أم‌ تخيّليّة‌ وتخيّل‌إجمإلی‌)، وإن‌ أعجبك‌ ونال‌ استحسانك‌ الخبيث‌ وكثرة‌ الذين‌ يعيشون‌ في‌ الاهواء والآراء الشيطانيّة‌؛ فعلیك‌ أن‌ لا تهتمّ بالخبيث‌، وأن‌ لاتغترّ بكثرته‌، ولا ينبغي‌ لك‌ أن‌ تعجب‌ به‌؛ واتّبع‌ الطيّب‌ والحقّ وإن‌ قلّ عدده‌!

 فَاتَّقُوا اللَهَ؛ بناء علی‌ هذا، فاتّقوا الله‌ يا أُولي‌ الالباب‌ وأصحاب‌ العقول‌، وإذا كان‌ عندكم‌ ميل‌ نحو الفلاح‌ وأمل‌ به‌ فعلیكم‌ أن‌ تسيروا علی‌ هذا المنهاج‌.

 ويقول‌ تعإلی‌ في‌ سورة‌ الانعام‌: وَإِن‌ تُطِعْ أَكْثَرَ مَن‌ فِي‌ الاْرْضِ يُضِلُّوكَ عَن‌ سَبِيلِ اللَهِ إِن‌ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ. [25]

 إنَّ هذه‌ الآية‌ واضحة‌ وصريحة‌ جدّاً في‌: أنَّ أكثريّة‌ من‌ في‌ الارض‌ أُناس‌ ضالّون‌ ومضلّون‌، أي‌ قاصرون‌ وناقصون‌. فأكثر من‌ في‌ الارض‌ أُناس‌ غيرناضجين‌، وكأ نَّهم‌ فاكهة‌ غير ناضجة‌، وشجرة‌ غير مقلّمة‌، وغابة‌ متشابكة‌ الاشجار. فيجب‌ أن‌ يخضوا للتربية‌، وتخضع‌ نفوسهم‌ للتهذيب‌ والتزكية‌ حتّي‌ يُشذّبوا، وعلی‌ البستاني‌ّ أن‌ يربّيهم‌ ويشذّبهم‌ ليمكن‌ الاستفادة‌ منهم‌.

 ومع‌ ما يحمل‌ الاكثريّة‌ من‌ آراء وأهواء، فلا يتحرّكون‌ ولايسعون‌ إلاّ نحو المادّيّات‌ والملذّات‌ الصوريّة‌ وذات‌ الجمال‌ الطبيعي‌ّ والتخيّلات‌ الاعتباريّة‌ والاماني‌ الفانية‌، وتراهم‌ يضحّون‌ بأنفسهم‌ في‌ سبيلها، فحربهم‌ وسلمهم‌ يقومان‌ علی‌ هذا الاساس‌؛ كما أنَّ معاملاتهم‌ وعلاقاتهم‌ واجتماعاتهم‌ وسوقهم‌ علی‌ هذا المنهاج‌ والطريقة‌ أيضاً. وإذا أردت‌ اتّباعهم‌ فسوف‌ يضلّونك‌ عن‌ سبيل‌ الله‌. وبما أنَّ سبيل‌ الله‌ هو سبيل‌ الحقّ، فيجب‌ أن‌ يقطع‌ جميع‌ الطرق‌ ويتقدّم‌ علیها، وإذا أردت‌ اتّباع‌ هؤلاء فسوف‌ يهبطون‌ بك‌ إلی‌ أساس‌ أفكارهم‌، ممّا يؤدّي‌ إلی‌ تخلّفك‌ عن‌ طي‌ّ طريق‌ الحقّ وضلالك‌.

 إنَّ جملة‌: إِن‌ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ في‌ حكم‌ التعلیل‌، أي‌ بسبب‌ اتّباع‌ الناس‌ الظنّ، وعدم‌ وصولهم‌ إلی‌ الحقّ والعلم‌ والواقعيّة‌ وإلیقين‌، فإنَّما جميع‌ تحرّكاتهم‌ وفعّإلیاتهم‌ في‌ الدنيا علی‌ أساس‌ الاحتمال‌ والخرص‌ والتخمين‌.

 ويقول‌ تعإلی‌ أيضاً في‌ سورة‌ الانعام‌: وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَآنءِهِم‌ بِغَيْرِ عِلْمٍ. [26]

 فكثير من‌ الناس‌ يضلّون‌ غيرهم‌ من‌ دون‌ علم‌ ودراية‌ بآرائهم‌ وأهوائهم‌ الخاوية‌. وحيثما كان‌ الامر بيد الاكثريّة‌ فلم‌ تكن‌ النتيجة‌ سوي‌ الضلال‌.

 يبيّن‌ الله‌ تعإلی‌ في‌ سورة‌ الشعراء في‌ ثمانية‌ مواضع‌ حالات‌ أُمم‌ ثمانية‌ أنبياء ( قوم‌ خاتم‌ النبيّين‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ وسلّم‌، وقوم‌ النبي‌ّ موسي‌، وقوم‌ إبراهيم‌، ونوح‌، وهود، وصالح‌، وشعيب‌، ولوط‌ ) ويذكر علاقاتهم‌ بأنبيائهم‌، ويقول‌ في‌ آخر كلّ موضع‌:

 وَمَاكَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ.

 فلو بني‌ هؤلاء الانبياء مواقفهم‌ علی‌ أساس‌ رأي‌ الاكثريّة‌ لكانت‌ شعوبهم‌ قد أمرتهم‌ بترك‌ الجهاد والتبليغ‌ والامر والنهي‌ والصوم‌ والزكاة‌ والإنفاق‌ علی‌ الفقراء، وبالمشاركة‌ في‌ مجالسهم‌ ومحافلهم‌، وبمساعدتهم‌ في‌ أعمالهم‌ المخالفة‌ للشرع‌، وفي‌ إسرافهم‌ وتبذيرهم‌ ولهوهم‌ ولعبهم‌.

 لو كان‌ رأي‌ الاكثريّة‌ حجّة‌، بل‌ الاكثريّة‌ القريبة‌ للإجماع‌، بل‌ أكثريّة‌ أهل‌ مكّة‌ وقريش‌ التي‌ كادت‌ تكون‌ إجماعاً هو قتل‌ النبي‌ّ وتمزيقه‌ إرباً إربا لكي‌ تتخلّص‌ من‌ الافكار الجديدة‌ التي‌ أتي‌ بها إلیهم‌؛ فهذا الرجل‌ رجل‌ ضالّ بزعمهم‌!

 هذه‌ هي‌ نتيجة‌ اتّباع‌ الاكثريّة‌. وهجرة‌ النبي‌ّ الاكرم‌ إلی‌ المدينة‌ أيضاً من‌ نتائج‌ رأي‌ الاكثريّة‌ الذي‌ كان‌ قد استقرّ علی‌ لزوم‌ قتل‌ النبي‌ّ، ممّا دعاه‌ صلوات‌الله‌ علیه‌ إلی‌ الهجرة‌.

 بَلْ جَآءَهُم‌ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَـ'رِهُونَ. [27]

 جاءهم‌ بالحقّ ( أي‌ أنَّ قلبه‌ وقرآنه‌ ونزوله‌ وكلامه‌ وتصرّفه‌ في‌ المجتمع‌، جميع‌ ذلك‌ كان‌ حقّاً ).

 وَلَـ'كِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَـ'رِهُونَ. [28]

 وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِمْ مِّنْ عَهْدٍ. [29]

 وَمَا يَتَّبِـعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا. [30]

 وَلَـ'كِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ. [31]

 وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ. [32]

 بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ. [33]

 كِتَـ'بٌ فُصِّلَتْ ءَايَـ'تُهُ و قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ. [34]

 كتاب‌ آياته‌ مُفصّلة‌ ومُبيّنة‌ وواضحة‌، يُتلي‌ علیكم‌ بلسان‌ عربي‌ٍّ فصيح‌ وواضح‌ ( لقد جعله‌ الله‌ قرآناً لكي‌ يكون‌ قابلاً للقراءة‌ ولكي‌ تقرؤوه‌ )، وهذا القرآن‌ بشير ونذير للذين‌ يفهمون‌ ويعلمون‌ ( يُبشّر بالسعادة‌ وينذر بالشقاوة‌ والتعاسة‌ )، ولكن‌ مع‌ الاسف‌ فإنَّ أكثريّة‌ الناس‌ قد أعرضوا عن‌ هذا القرآن‌ « فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ » ولا يصغون‌ إلیه‌، يتلي‌ علیهم‌ القرآن‌ ولكنّهم‌ لايسمعون‌!

 أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ. [35]

 يقول‌ تعإلی‌ بنحو التعجّب‌: أم‌ تحسب‌ أنَّ أكثر الناس‌ يسمعون‌ أو يعقلون‌؟! كلاّ فلا يظنّ ذلك‌ أبداً، بل‌ إنَّ أكثريّة‌ الناس‌ لاتسمع‌ ولاتعقل‌.

 وجاءت‌ عبارة‌: وَلَـ'كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وما شابهها في‌ عدّة‌ مواضع‌ من‌ القرآن‌.

 وتكرّرت‌ الآية‌: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ في‌ مواضع‌ من‌ القرآن‌.

 وقال‌ تعإلی‌ في‌ سورة‌ الانبياء: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَيَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم‌ مُّعْرِضُونَ. [36]

 وقال‌ تعإلی‌ في‌ سورة‌ الشوري‌: فَلِذَ ' لِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَتَتَّبِـعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَهُ مِن‌ كِتَـ'بٍ وَأُمِرْتُ لاِعْدِلَ بَيْنَكُمْ. [37]

 وبناء علی‌ هذا، فعامّة‌ الناس‌ يخضعون‌ للاحاسيس‌، ولم‌ يرتقوا إلی‌ درجة‌ التكامل‌ العقلي‌ّ؛ فإذا تقرّر إعطاؤهم‌ حقّ انتخاب‌ الرئيس‌ والحاكم‌ فسوف‌ يكون‌ اختيارهم‌ علی‌ أساس‌ التخيّلات‌ والاوهام‌ الواهية‌، فينخدعون‌ في‌ رؤية‌ صورة‌ أو استماع‌ خطبة‌، ومن‌ ثمّ يؤيّدون‌ علی‌ هذا الاساس‌! مع‌ أ نَّه‌ من‌ الممكن‌ أن‌ يكون‌ صاحب‌ الصورة‌ أو الخطبة‌ ذاك‌ من‌ الماكرين‌ الذين‌ أعدّوا أنفسهم‌ لصيد العوامّ.

 وكم‌ شاهدنا في‌ زماننا تكرار حالة‌ انجذاب‌ الناس‌ إلی‌ شخص‌ وانتخابهم‌ له‌ من‌ خلال‌ نصب‌ الصور والإعلانات‌ وكتابة‌ اسمه‌ علی‌ الجدران‌ والابواب‌؛ وما أن‌ تتغيّر الساحة‌ وتتبدّل‌ الدعايات‌ حتّي‌ يأتي‌ آخر يستقطب‌ الناس‌ إلیه‌ بتلك‌ الطريقة‌ السالفة‌، من‌ خلال‌ الصورة‌ والإعلان‌ والادّعات‌ الفارغة‌ والواهية‌!

 هل‌ يمكن‌ في‌ الإسلام‌ ـ ذلك‌ الدين‌ المؤسّس‌ لاصل‌ مواكبة‌ الحقّ وانتهاج‌ الاصالة‌ والواقعيّة‌ أن‌ يضع‌ اختيار وانتخاب‌ الولي‌ّ الفقيه‌ بيد أدني‌ الناس‌ علماً وتقوي‌ وإدراكاً؟! علی‌ الرغم‌ من‌ كون‌ الولي‌ّ الفقيه‌ هو العقل‌ والمتولّي‌ لمسؤوليّة‌ رقي‌ّ وتكامل‌ الافراد والمجتمعات‌ إلی‌ مآل‌ الهداية‌ والسعادة‌ في‌ الدنيا والآخرة‌، وبناء المدينة‌ الفاضلة‌، وإقامة‌ القسط‌ والعدل‌ في‌ جميع‌ أنحاء العالم‌، وقيادة‌ الاُمّة‌ إلی‌ ذروة‌ العرفان‌ والتوحيد الإلهي‌ّ! أبداً، أبداً!

 فعامّة‌ الناس‌ ينتخبون‌ من‌ يكون‌ سلوكه‌ منسجماً مع‌ أذواقهم‌ وأمزجتهم‌ ومنهجيّتهم‌ في‌ الحياة‌؛ ومن‌ الواضح‌ في‌ هذه‌ الحالة‌ مدي‌ انحلال‌ المجتمع‌ وهبوطه‌ إلی‌ وادي‌ الرغبات‌ والانانيّة‌ السحيق‌، وذلك‌ لابتعاده‌ عن‌ محور العدل‌ وأصالة‌ العقل‌.

 الرجوع الي الفهرس

تتمة النص

      

ارجاعات

[1] ـ «صحيح‌ البخاري‌ّ» ج‌ 3، ص‌ 60، كتاب‌ المغازي‌؛ وأيضاً في‌ ج‌ 4، ص‌ 154، كتاب‌ الفتن‌، المطبعة‌ العثمانيّة‌ المصريّة‌، سنة‌ 1351 ه.

[2] ـ «سنن‌ النسائي‌ّ» ج‌ 8، ص‌ 227، كتاب‌ آداب‌ القضاة‌، المطبعة‌ المصريّة‌ـ الازهر.

[3] ـ «سنن‌ الترمذي‌ّ» ج‌ 4، ص‌ 527 و 528، باب‌ 75 من‌ كتاب‌ الفتن‌، مطبعة‌ مصطفي‌ البابي‌ّ الحلبي‌ّ.

[4] ـ «تحف‌ العقول‌» ص‌ 35، المطبعة‌ الحيدريّة‌.

[5] ـ «بحار الانوار» ج‌ 77، ص‌ 138، الطبعة‌ الحروفيّة‌ الحيدريّة‌.

[6] ـ «النهاية‌» ج‌ 4، ص‌ 135.

[7] ـ «مستند الشيعة‌» ج‌ 2، ص‌ 519، كتاب‌ القضاء.

[8] ـ «جواهر الكلام‌» ص‌ 2، كتاب‌ القضاء، طبعة‌ الحاجّ موسي‌ الملفّق‌.

[9] ـ «النهاية‌» ج‌ 4، ص‌ 135.

[10] ـ «نهج‌ البلاغة‌» الخطبة‌ 78؛ ومن‌ طبعة‌ مصر بتعلیقة‌ الشيخ‌ محمّد عبده‌، ج‌ 1، ص‌ 129.

 [11] ـ «شرح‌ نهج‌ البلاغة‌» للشيخ‌ محمّد عبده‌، ج‌ 1، ذيل‌ الخطبة‌ 78، ص‌ 129.

[12] ـ «نهج‌ البلاغة‌» ج‌ 2، باب‌ الكتب‌، الرسالة‌ 31: وصيّة‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌ للإمام‌ الحسن‌ علیه‌ السلام‌، في‌ مكان‌ يدعي‌ حاضِرين‌، كتبها أثناء رجوعة‌ من‌ صفّين‌. وهذه‌ الفقرة‌ في‌ آخر الوصيّة‌، وأُوردت‌ في‌ «نهج‌ البلاغة‌» طبعة‌ مصر بتعلیقة‌ الشيخ‌ محمّد عبده‌، ج‌ 2، ص‌ 56.

[13] ـ صدر الآية‌ 34، من‌ السورة‌ 4: النساء.

[14] ـ قسم‌ من‌ الآية‌ 228، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌.

[15] ـ صدر الآية‌ 33، من‌ السورة‌ 33: الاحزاب‌.

[16] ـ قسم‌ من‌ الآية‌ 32، من‌ السورة‌ 33: الاحزاب‌.

[17] ـ انظر: «الرسالة‌ البديعة‌» ص‌ 140، الطبعة‌ الاُولي‌.

[18] ـ صدر الآية‌ 6، من‌ السورة‌ 4: النساء.

[19] ـ صدر الآية‌ 5، من‌ السورة‌ 4: النساء.

[20] ـ ذيل‌ الآية‌ 43، من‌ السورة‌ 16: النحل‌؛ وذيل‌ الآية‌ 7، من‌ السورة‌ 21: الانبياء.

[21] ـ ذيل‌ الآية‌ 9، من‌ السورة‌ 39: الزمر.

[22] ـ قسم‌ من‌ الآية‌ 16، من‌ السورة‌ 13: الرعد.

[23] ـ ذيل‌ الآية‌ 70 والآية‌ 71، من‌ السورة‌ 23: المؤمنون‌.

[24] ـ الآية‌ 100، من‌ السورة‌ 5: المائدة‌.

[25] ـ الآية‌ 116، من‌ السورة‌ 6: الانعام‌.

[26] ـ قسم‌ من‌ الآية‌ 119، من‌ السورة‌ 6: الانعام‌.

[27] ـ ذيل‌ الآية‌ 70، من‌ السورة‌ 23: المؤمنون‌.

[28] ـ ذيل‌ الآية‌ 78، من‌ السورة‌ 43: الزخرف‌.

[29] ـ صدر الآية‌ 102، من‌ السورة‌ 7: الاعراف‌.

[30] ـ صـدر الآية‌ 36، من‌ السورة‌ 10: يـونس‌.

[31] ـ ذيـل‌ الآية‌ 111، من‌ السـورة‌ 6: الانعـام‌.

[32] ـ ذيـل‌ الآية‌ 103، من‌ السـورة‌ 5: المائدة‌.

[33] ـ ذيل‌ الآية‌ 63، من‌ السورة‌ 29: العنكبوت‌.

[34] ـ الآيتان‌ 3 و 4، من‌ السـورة‌ 41: فصّلت‌.

[35] ـ صـدر الآية‌ 44، من‌ السورة‌ 25: الفرقان‌.

[36] ـ ذيل‌ الآية‌ 24، من‌ السورة‌ 21: الانبياء.

[37] ـ صدر الآية‌ 15، من‌ السورة‌ 42: الشوري‌.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

کتاب ولایة الفقیه فی حکومة الاسلام / المجلد الثالث / القسم السابع: الاشکال علی انتخاب الاکثریة، مشورة النبی صلی الله علیه ...

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

      

الصفحة السابقة

الإشکال‌ الوارد علی‌ مؤيّدي‌ فكرة‌ انتخاب‌ الاكثريّة‌ من‌ العامّة‌

 وهنا يُطرح‌ سؤال‌، وعلی‌ أتباع‌ الديمقراطيّة‌ الذين‌ يعطون‌ حقّ انتخاب‌ الحاكم‌ والقائد لعامّة‌ الناس‌ أن‌ يجيبوا عنه‌؛ والسؤال‌ هو:

 إنَّ عموم‌ الشعب‌ ـ في‌ أي‌ّ تجمّع‌ كانواـ ليسوا بمستوي‌ واحد من‌ حيث‌ الفهم‌ والشعور والدراية‌، واختلافهم‌ وكونهم‌ في‌ مراتب‌ متفاوتة‌ ملحوظ‌، فمنهم‌ من‌ بذل‌ جهوداً مضنية‌ وتحمّل‌ الكثير من‌ أجل‌ بناء نفسه‌، فصار حكيماً وفيلسوفاً وصاحب‌ دراية‌، ومن‌ أهل‌ الكفاية‌، وعارفاً ذا ضمير حي‌ّ مطّلع‌ علی‌ الحقائق‌، وعارف‌ بمصالح‌ ومفاسد الناس‌، وله‌ قدرة‌ في‌ معرفة‌ البشر وتشخيص‌ الاعقل‌ والاعلم‌ والاورع‌ والاشجع‌ والاقوي‌ والابصر في‌ الاُمور والمصالح‌ من‌ أبناء الاُمّة‌؛ فينتخب‌ مَن‌ هو أهلاً للقيادة‌ والرئاسة‌. وما أقلّ هكذا أشخاص‌ في‌ كافّة‌ المجتمعات‌ البشريّة‌، وما أصعب‌ الوصول‌ إلیهم‌.

 وهناك‌ طبقة‌ أُخري‌ ممّن‌ لم‌ يصلوا إلی‌ هذه‌ الدرجة‌ من‌ الكمال‌، لكنّهم‌ ساروا في‌ مجال‌ تقوية‌ القوي‌ العلميّة‌ والعمليّة‌ وعملوا علی‌ تكميلها، وسعوا في‌ سبيل‌ ارتقاء الدرجات‌ العلميّة‌ والعمليّة‌ والتربويّة‌ ليوصلوا أنفسهم‌ إلی‌ الكمال‌. وعدد مثل‌ هؤلاء ليس‌ بقليل‌ في‌ المجتمعات‌ البشريّة‌؛ لكنّهم‌ يمثّلون‌ نسبة‌ ضئيلة‌ جدّاً قياساً إلی‌ عامّة‌ أبناء الشعب‌.

 وهؤلاء وإن‌ لم‌ يصلوا إلی‌ درجة‌ الطبقة‌ الاُولي‌ في‌ تشخيصهم‌ للحقّ من‌ الباطل‌، لكنّهم‌ علی‌ معرفة‌ إلی‌ حدّ ما.

 والطبقة‌ الثالثة‌ هي‌ عامّة‌ الناس‌، وهؤلاء ليسوا ممّن‌ لم‌يرتق‌ إلی‌ المستوي‌ العإلی‌ من‌ العلم‌ والعمل‌ فحسب‌، بل‌ ولم‌ يسيروا في‌ هذا الصراط‌ خطوة‌ واحدة‌ أيضاً، وهم‌ يتّبعون‌ المظاهر والالوان‌ والروائح‌، وينجذبون‌ لكلّ ما تراه‌ عيونهم‌، حتّي‌ لو كان‌ فارغاً من‌ المعنويّات‌ والواقعيّة‌. وهؤلاء ينتخبون‌ صاحب‌ المظهر المناسب‌، ومن‌ كانت‌ صوره‌ المعلّقة‌ علی‌ الابواب‌ والجدران‌ أكثر، ومن‌ كانت‌ دعايته‌ أفضل‌.

 بناء علی‌ هذا، فلو فرضنا إعطاء حقّ انتخاب‌ القائد لجميع‌ الناس‌، فيجب‌ أن‌ يكون‌ إعطاء هذا الحقّ متناسباً مع‌ ميزان‌ عقولهم‌ وعلومهم‌ وبصائرهم‌ ودرايتهم‌، فيعطي‌ للشخص‌ العامّي‌ّ صوت‌ واحد، بينما يعطي‌ لطالب‌ العلوم‌ العصريّة‌ الحقّ عشرة‌ أصوات‌، ولطالب‌ العلم‌ الديني‌ّ مائة‌ صوت‌، وللعالم‌ الحقّ ألف‌ صوت‌، وللحكيم‌ الإلهي‌ّ عشرة‌ آلاف‌ صوت‌، وللعالم‌ الربّاني‌ّ والعارف‌ المتجاوز لذاته‌ وهوي‌ نفسه‌ والواصل‌ إلی‌ الحقّ والحقيقة‌ مائة‌ ألف‌ صوت‌.

 وعلی‌ هذا، فينبغي‌ القول‌: يا أدعياء الحرّيّة‌ وعشّاق‌ الجاهليّة‌! هل‌ تعطون‌ الناس‌ حقّ انتخاب‌ القائد والرئيس‌ والحاكم‌ علی‌ أساس‌ هذا الميزان‌؟ وهل‌ تقسّمون‌ الناس‌ إلی‌ مجموعات‌ وطبقات‌ مختلفة‌، فتعطون‌ الناس‌ الاصوات‌ كلٌّ حسب‌ طبقته‌؟!

 من‌ البديهي‌ّ أنَّ الامر ليس‌ كذلك‌؛ وإنَّما علی‌ حساب‌ سواد المجتمع‌ وعدد الافراد. ( فتارة‌ يكون‌ أحد الافراد من‌ العلماء الافاضل‌، وتارة‌ من‌ الجهّال‌؛ وتارة‌ يكون‌ المنتخِب‌ هو العقل‌ المفكِّر للدولة‌، وتارة‌ خاوي‌ الفكرر ) وهذا أمر خاطي‌ في‌ منطق‌ العقل‌ والدراية‌.

 فهذه‌ الطريقة‌ وهذا المنهج‌ يسقطان‌ قيمة‌ العقل‌ والعقلاء والعلم‌ والعلماء، ويجعلان‌ رأي‌ ونظر العالم‌ والعلماء والخبراء بالمجتمع‌ في‌ مستوي‌ واحد مع‌ رأي‌ الجهلة‌، ويساوي‌ بين‌ أصحاب‌ الدراية‌ والمعرفة‌ وبين‌ الناس‌ الاعتياديّين‌! فكيف‌ يجيبون‌ علی‌ هذا السؤال‌؟ وكيف‌ يدافعون‌ عن‌ ذلك‌ أمام‌ العدل‌ والشرف‌ الإنسانيّين‌؟ وكيف‌ يواجهون‌ محكمة‌ العدل‌ الإلهيّة‌ بعد أن‌ أضاعوا حقوق‌ عامّة‌ الناس‌ بترك‌ انتخاب‌ القائد الذي‌ يقتنع‌ به‌ عقلاء المجتمع‌ ومفكّروه‌؟ إنَّهم‌ ـوكنتيجة‌ حتميّة‌ـ سيجرّون‌ المجتمع‌ إلی‌ هاوية‌ الفساد والضلال‌.

 هذا الإشكال‌ وارد علی‌ حملة‌ لواء الديمقراطيّة‌ الجاهليّة‌. ولمّا كانت‌ أجواء الانتخابات‌ في‌ جميع‌ أنحاء العالم‌ علی‌ أساس‌ الاكثريّة‌، فالإشكال‌ يشمل‌ الجميع‌.

 إنَّ الله‌ تبارك‌ وتعإلی‌ قد ألهم‌ بذلك‌، فهيّا وأجيبوا علیه‌، وهيهات‌! وأ نّي‌ لكم‌ من‌ أن‌ تُجيبوا علیه‌، فهو غير قابل‌ للإجابة‌.

 عندما يتقرّر أن‌ نختار لمنصب‌ الولي‌ّ الفقيه‌ أفضل‌ الاشخاص‌ وأكثرهم‌ حرصاً، وأن‌ يجعل‌ الولي‌ّ في‌ كلّ بلد أعقلهم‌ وأكثرهم‌ إدراكاً لمصالح‌ البلد الواقعيّة‌، فلا يمكن‌ أن‌ نجعل‌ انتخاب‌ الولي‌ّ الفقيه‌ ـذلك‌ الاعقل‌ـ بيد العوامّ أو نجعلهم‌ ( العوامّ ) في‌ مستوي‌ واحد مع‌ أصحاب‌ النضج‌ الفكري‌ّ في‌ المجتمع‌ من‌ حيث‌ الدرجة‌ والكفاية‌ والدراية‌، وأن‌ نحسب‌ قيمة‌ آرائهم‌ بشكل‌ مساوٍ لقيمة‌ آراء أُولئك‌، مع‌ احتمال‌ وجود قيمة‌ فكر عالم‌ واحد في‌ مجتمع‌ تعادل‌ قيمة‌ فكر جميع‌ أفراد المجتمع‌، فيجعل‌ ذلك‌ الشخص‌ مع‌ شخص‌ عامّي‌ّ في‌ مستوي‌ واحد، مع‌ كون‌ عدم‌ معرفة‌ الثاني‌ يمينه‌ من‌ شماله‌، ويُعطي‌ لكلّ منهما الحقّ بصوت‌ واحد في‌ الانتخابات‌!

 فهذا العمل‌ إسقاطٌ للجانب‌ العقلي‌ّ في‌ المجتمع‌ وابتعاد عن‌ الاصالة‌ والواقعيّة‌، ويجرّه‌ للتكيّف‌ علی‌ الافكار الهابطة‌ والاوهام‌.

 الرجوع الي الفهرس

الشوري‌ في‌ الإسلام لاهل‌ الحلّ والعقد، وليس‌ لاكثريّة‌ العامّة‌

 الإسلام‌ دينٌ أُسّس‌ علی‌ الاصالة‌ والحقيقة‌ والواقعيّة‌ ولاغير. لذا، فهو يجعل‌ طريق‌ تعيين‌ الولي‌ّ الفقيه‌ ( مع‌ تلك‌ الخصوصيّات‌ والمقامات‌ في‌ عالم‌ الثبوت‌ التي‌ تكلّمنا حولها ) بيد أهل‌ الخبرة‌ والالتزام‌ والحلّ والعقد، ممّن‌ يمتلك‌ كلّ منهم‌ من‌ القيمة‌ الفكريّة‌ والتخصّص‌ والتقوي‌ ما يساوي‌ قيمة‌ ألف‌ أو عشرة‌ آلاف‌ شخص‌ من‌ أبناء الاُمّة‌؛ فمسألة‌ تشخيص‌ الولي‌ّ الفقيه‌ في‌ عهدة‌ أهل‌ الحلّ والعقد والخبرة‌.

 بناء علی‌ هذا، فلا جدوي‌ من‌ اللهاث‌ وراء الاكثريّة‌.

 فمثلاً، أخذ الآراء للمرشّحين‌ لعضويّة‌ مجلس‌ الشوري‌ ـفي‌ هذه‌ الظروف‌ـ والانتخابات‌ الحإلیة‌ ـووفقاً لرأي‌ الاكثريّة‌ـ ليس‌ له‌ أي‌ّ أساس‌ من‌ القرآن‌ والروايات‌.

 فقد رأينا في‌ قضيّة‌ بني‌ صدر كيف‌ قد انْتُخِبَ لرئاسة‌ الجمهوريّة‌ بنسبة‌ كبيرة‌ جدّاً من‌ آراء الشعب‌؛ فكيف‌ انتخبوه‌؟ وكيف‌ ظهر للعيان‌، وإلی‌ أين‌ وصلت‌ عاقبة‌ الامر؟ ولو لم‌ تُكشف‌ حقيقته‌ في‌ تلك‌ الظروف‌ لاستمرّ نهجه‌ في‌ البلاد إلی‌ مئات‌ السنين‌، ومن‌ رحمة‌ الله‌ علی‌ الشعب‌ وعنايته‌ الغيبيّة‌ أن‌ فضحه‌ وأفهم‌ الشعب‌ واقع‌ حاله‌. وما كانت‌ تلك‌ السقطة‌ إلاّ بسبب‌ تحكيم‌ الاهواء وتسليم‌ الامر بيد أكثريّة‌ الناس‌.

 إن‌ شاء الله‌، سنقوم‌ بتبيان‌ ـ فيما لو سنحت‌ لنا الفرصة‌ـ: أنَّ الإسلام‌ لايعبأ بمسألة‌ الدعاية‌ في‌ الانتخابات‌، ولا ينبغي‌ الاهتمام‌ بهذا الموضوع‌. ولاينبغي‌ انتخاب‌ من‌ يريد تعريف‌ نفسه‌ للناس‌ من‌ أجل‌ التقدّم‌ والفوز علی‌ الآخرين‌ عن‌ طريق‌ الدعاية‌ وإلصاق‌ الصور علی‌ الجدران‌؛ فلااعتبار لهكذا أشخاص‌ لابتعادهم‌ عن‌ التقوي‌ المعنويّة‌، ونفس‌ العمل‌ الدعائي‌ّ يدلّل‌ علی‌ الانحطاط‌ الروحي‌ّ وفساد النفوس‌؛ فمن‌ يقوم‌ بذلك‌ ساقط‌ عن‌ درجة‌ الاعتبار في‌ شرع‌ العقل‌ وعقل‌ الشرع‌.

فالذي‌ يستطيع‌ تسلّم‌ زمام‌ أُمور الناس‌ هو مَن‌ لا يحمل‌ في‌ قلبه‌ حبّ التغلّب‌ علی‌ الآخرين‌ ( سواء كان‌ بصفة‌ نائب‌ في‌ المجلس‌ أم‌ عضو في‌ مجلس‌ الخبراء) بل‌ علیه‌ أن‌ يري‌ نفسه‌ خادماً من‌ الخدم‌، وأن‌ يعدّ الاشتغال‌ في‌ هذا المركز أمراً لا قيمة‌ له‌ من‌ الناحية‌ الدنيويّة‌، ويدخل‌ في‌ الاُمور من‌ أجل‌ القيام‌ بتكليفه‌، ومعالجة‌ أُمور المسلمين‌، والتكفّل‌ بأيتام‌ آل‌ محمّد فحسب‌، لاأن‌ يشغل‌ هذه‌ المراكز عن‌ طريق‌ إبعاد الآخرين‌ عنها من‌ خلال‌ صرف‌ الاموال‌ الطائلة‌ في‌ نصب‌ الملصقات‌ والصور والدعايات‌، فهذه‌ دعايات‌ كفر؛ وهذه‌ الدعايات‌ دعايات‌ شيطانيّة‌، ونهجها وطريقتها ليسا علی‌ أساس‌ الحقّ.

 علی‌ الذين‌ يسيرون‌ علی‌ نهج‌ الحقّ ويهدفون‌ خدمة‌ الإسلام‌ والبلاد أن‌ يقدّموا أنفسهم‌ من‌ دون‌ أي‌ّ عمل‌ دعائي‌ّ فيه‌ تنافس‌. وعلی‌ جميع‌ أبناء الشعب‌ أيضاً أن‌ يفكّروا ويشاوروا كبارهم‌ من‌ دون‌ دعاية‌ ظاهريّة‌ وخارجيّة‌، وعلی‌ أهل‌ الحلّ والعقد أيضاً تشخيص‌ من‌ يمتلك‌ أهليّة‌ هذا المقام‌ وإيصاله‌ إلیه‌.

 هذا الطريق‌ هو المتحصّل‌ من‌ الروايات‌ والآيات‌.

 الرجوع الي الفهرس

دلالة‌ آية‌: وَشَاوِرْهُمْ فِي‌ الاْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَیاللَهِ

 وأمّا كون‌ النبي‌ّ الاكرم‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ وسلّم‌ قد عمل‌ في‌ معركة‌ أُحد برأي‌ الاكثريّة‌، واتّبع‌ الاكثريّة‌، وأوكل‌ مسألة‌ الحرب‌ للشوري‌، وعمل‌ علی‌ أساس‌ الآية‌ القرآنيّة‌: وَشَاوِرْهُمْ فِي‌ الاْمْرِ[1]؛ فقد كان‌ ذلك‌ لانَّ شيوخ‌ المدينة‌ وكبار السنّ فيها قالوا لرسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ وسلّم‌: يارسول‌الله‌! لانري‌ مصلحة‌ في‌ الخروج‌ من‌ المدينة‌ للحرب‌، وإنَّهم‌ سوف‌ يُقاتلون‌ في‌ المدينة‌، ولم‌ يحدث‌ أن‌ قاتلوا من‌ داخل‌ المدينة‌ وانتصر علیهم‌ عدوّهم‌، وإنَّ العدوّ سيحطّ الرحال‌ خارج‌ المدينة‌، ومن‌ ثمّ يرجع‌ بعد أن‌ تنفد مؤنته‌، ونكون‌ أثناء الحصار في‌ بلدنا، وتقوم‌ نساؤنا وأطفالنا برمي‌ الحجارة‌ والسهام‌ علیهم‌ لتفريقهم‌.

 وأمّا الشباب‌ الذين‌ لم‌ يكونوا قد شاركوا في‌ المعركة‌ السابقة‌ ( في‌ ميدان‌ بدر )، وسمعوا بقصص‌ وتضحيات‌ البدريّين‌، فقد قالوا بأ نَّهم‌ يريدون‌ الخروج‌ والقتال‌ خارج‌ المدينة‌، وتلقين‌ العدوّ درساً يُبقي‌ ذكر شجاعتهم‌ مدي‌ التأريخ‌!

 ولم‌ يكن‌ النبي‌ّ الاكرم‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ وسلّم‌ يميل‌ إلی‌ القتال‌ خارج‌ المدينة‌، وكان‌ يرجّح‌ أن‌ يبقوا داخلها. فقام‌ كلّ واحد من‌ هؤلاء الشباب‌ وأخذ يذكر فصلاً مشبعاً من‌ مزايا القتال‌ خارج‌ المدينة‌، ومن‌ أ نَّه‌ سوف‌ يكون‌ ميدان‌ جهاد وحرب‌ وتضحية‌ وفداء، وسواء قُتل‌ الإنسان‌ أم‌ قَتل‌ فمصيره‌ إلی‌ الجنّة‌، وأنَّ البقاء في‌ المدينة‌ عار علینا، وسوف‌ يقال‌ بأنَّ الكفّار قد جاؤوا لحربنا فخاف‌ النبي‌ّ والمسلمون‌ منهم‌ ولم‌يخرجوا من‌ بيوتهم‌. فهذا أمر مشين‌ بالنسبة‌ لنا، فعلی‌ الرجل‌ أن‌ يحمل‌ سيفه‌ ويخرج‌، وأمثال‌ هذه‌ العبارات‌.

 والخلاصة‌، أنَّ النبي‌ّ لم‌ يكن‌ يميل‌ بشكل‌ من‌ الاشكال‌ إلی‌ القتال‌ خارج‌ المدينة‌، واختار رأي‌ القلّة‌ من‌ الاصحاب‌، وكانت‌ المصلحة‌ في‌ ذلك‌ أيضاً. لكنَّ الإنسان‌ سواء قُتل‌ أم‌ قَتل‌ يدخل‌ الجنّة‌، فنحن‌ نريد أن‌ نُقتل‌، وقد وعدنا الله‌ بقبض‌ سبعين‌ منّا، ونحن‌ نتمنّي‌ القتل‌. وما كانوا يعلمون‌ أ نَّهم‌ سيفرّون‌ من‌ هذه‌ الحرب‌ ويتركون‌ النبي‌ّ وأمير المؤمنين‌ صلوات‌الله‌ علیهما وحيدين‌ في‌ ساحة‌ القتال‌ بين‌ يدي‌ العدوّ.

 وعلی‌ كلّ تقدير، فقد ماشي‌ النبي‌ّ في‌ تلك‌ المرحلة‌ آراءهم‌ مكرهاً فخرج‌ من‌ المدينة‌، وإن‌ كان‌ البعض‌ من‌ الذين‌ كانوا يحثّون‌ ويحرّضون‌ علی‌ الخروج‌ من‌ المدينة‌ قد وقفوا علی‌ المسألة‌ واعتذروا من‌ النبي‌ّ وطلبوا منه‌ البقاء في‌ المدينة‌، لكنّ النبي‌ّ رفض‌ ذلك‌ قائلاً: إنَّ الله‌ عندما يلبس‌ نبيّاً لامة‌ الحرب‌ لايرضي‌ له‌ أن‌ ينزعها دون‌ أن‌ يُقاتل‌.

 لم‌ يختر النبي‌ّ هنا رأي‌ الاكثريّة‌، وإنَّما سايرهم‌. وثمّة‌ فرق‌ بين‌ المماشاة‌ والمسايرة‌ وبين‌ اختيار رأي‌ الاكثريّة‌.

 فقد يحصل‌ للإنسان‌ أحياناً أن‌ يقرّ رأي‌ الاكثريّة‌ بعد المشورة‌ ويعتبره‌ أمارة‌ علی‌ الواقع‌، بما أنَّ الاكثريّة‌ قد اختارت‌ ذلك‌، فهو أقرب‌ وصولاً إلی‌ الواقع‌؛ فيكون‌ هذا الإقرار اتّباعاً لرأي‌ الاكثريّة‌.

 وقد يختار الإنسان‌ رأي‌ الاكثريّة‌ أحياناً أُخري‌ لا لا نَّها أكثريّة‌، وإنّما مماشاة‌ لها، ومثال‌ ذلك‌ لو أراد أحدكم‌ أن‌ يطبخ‌ طعاماً في‌ بيت‌، وفي‌ البيت‌ شخصان‌ من‌ كبار السنّ وعدّة‌ أطفال‌، فسألهم‌ عمّا يرغبون‌ من‌ الطعام‌. فاختار الكبيران‌ نوعاً معيّناً، بينما رغب‌ الاطفال‌ جميعاً في‌ نوع‌ آخر، ففي‌ هذه‌ الحالة‌ ستنفّذ طلبات‌ الاطفال‌ مراعاة‌ لهم‌، لا لانَّ ما اختاروه‌ هو الافضل‌.

 فمماشاة‌ ومسايرة‌ الاطفال‌ أو الشباب‌ أو الاكثريّة‌ من‌ الطبقات‌ المختلفة‌ أمر يختلف‌ عن‌ اختيار رأي‌ الاكثريّة‌. وجميع‌ الصدمات‌ التي‌ تعرّض‌ لها النبي‌ّ إنّما كانت‌ من‌ هذه‌ الجهة‌، وهذا غير اختيار رأي‌ الاكثريّة‌.

 الرجوع الي الفهرس

مفاد ومعني‌ الاخذ بالمجمع‌ علیه‌ وترك‌ الشاذّ النادر

 نعم‌؛ توجد هنا مسألة‌، وهي‌ إذا كان‌ كلا الطرفين‌ متساويين‌ في‌ إصابة‌ الواقع‌، وكان‌ أحدهما أكثر عدداً، فالكثرة‌ هنا أمارة‌ علی‌ الحقّ.

 كأن‌ يكون‌ للاكثريّة‌ والاقلّيّة‌ رأيان‌ مختلفان‌ في‌ مسألة‌ ما، ويكونان‌ ـ أي‌ الاقلّيّة‌ والاكثريّة‌ـ متساويين‌ من‌ جميع‌ الجهات‌ من‌ حيث‌ الإحكام‌ والمتانة‌ والقيمة‌، وكان‌ اختيار أحد الطرفين‌ بالنسبة‌ لنا أمراً مشكلاً، ففي‌ هذه‌ الصورة‌ ومع‌ وجود التساوي‌ من‌ جميع‌ الجهات‌، فإنَّ أمارة‌ المجموعة‌ الاكثر عدداً أكثر للواقع‌.

 وذلك‌ مثل‌ مقبولة‌ عمر بن‌ حنظلة‌ التي‌ يقول‌ فيها الإمام الصادق‌ علیه‌ السلام‌: انْظُرُوا إلَی‌ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ قَدْ رَوَي‌ حَدِيْثَنَا، وَنَظَرَ فِي‌ حَلاَلِنَا وَحَرَامِنَا وَعَرَفَ أَحْكَامَنَا، فَارْضَوْا بِهِ حَكَماً.

 فيسأل‌ الراوي‌: إن‌ اختار كلّ منهما قاضياً لنفسه‌، فما العمل‌ في‌ حال‌ اختلاف‌ القاضيان‌ في‌ الحكم‌؟

 فيقوم‌ الإمام علیه‌ السلام‌ هنا ببيان‌ الميزان‌ للاختيار، ويقول‌: الحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَفْقَهُهُمَا وَأَفْضَلُهُمَا وَأَصْدَقُهُمَا فِي‌ الحَدِيثِ وَأَوْرَعُهُمَا.

 ثمّ يقول‌ الراوي‌: كِلاَهُمَا عَدْلاَنِ مَرْضِيَّانِ؛ فهما من‌ هذه‌ الجهة‌ متساويان‌.

 فيقول‌ الإمام علیه‌ السلام‌: يُنْظَرُ إلَی‌ مَا كَانَ مِنْ رِوَايَتِهِمَا عَنَّا فِي‌ ذَلِكَ الَّذِي‌ حَكَمَا بِهِ المُجْمِعُ علیهِ أَصْحَابُكَ، فَيُؤْخَذُ بِهِ مِنْ حُكْمِهِمَا وَيُتْرَكُ الشَّاذُّ الَّذِي‌ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِكَ؛ فَإنَّ المُجْمَعَ علیهِ لاَرَيْبَ فِيهِ.

 فالإمام علیه‌ السلام‌ يقول‌ هنا: علیك‌ بملاحظة‌ الاكثريّة‌، فإذا كان‌ كلا الفقيهين‌ ناظرين‌ في‌ حكمنا وحلالنا وحرامنا، وكلاهما أفقه‌ وأبصر وأورع‌ وأصدق‌ في‌ الحديث‌ ( يعني‌ كانا كاملين‌ من‌ ناحية‌ المضمون‌ والاساس‌ العلمي‌ّ ) فيقدّم‌ هنا الرأي‌ المطابق‌ مع‌ المجمع‌ علیه‌ علی‌ ذلك‌ الرأي‌ الشاذّ النادر. فقد جُعل‌ هنا رأي‌ الاكثريّة‌ والإجماع‌ أمارة‌ وعلامة‌ وآية‌ علی‌ الحقّ. وهذا لاإشكال‌ فيه‌.

 وهذا لا يعني‌ ترجيح‌ رأي‌ الفقيه‌ ابتداءً علی‌ أساس‌ الاكثريّة‌ والشهرة‌. فالاكثريّة‌ هنا ليست‌ ميزاناً، بل‌ أصالة‌ وواقعيّة‌ ذلك‌ الفقيه‌ هي‌ المرجّح‌ والامارة‌ علی‌ الواقع‌، وتأتي‌ أصدقيّة‌ الفقيه‌ وأعدليّته‌ في‌ الدرجة‌ الثانية‌، بينما تأتي‌ موافقة‌ المشهور كأمارة‌ علی‌ الواقع‌ في‌ الدرجة‌ الثالثة‌.

 فلا نستطيع‌ إذَن‌ أن‌ نعطي‌ الرأي‌ في‌ الانتخابات‌ للاكثريّة‌ ابتداءً. وتدلّ مقبولة‌ عمربن‌ حنظلة‌ علی‌ هذا المعني‌؛ فعلینا أوّلاً الرجوع‌ إلی‌ الاشخاص‌ المؤمنين‌ الملتزمين‌ والاخصّائيّين‌ وأهل‌ الحلّ والعقد، وإذا اختلف‌ أهل‌ الحلّ والعقد مع‌ جميع‌ تلك‌ الشروط‌ واختارت‌ مجموعة‌ منهم‌ شخصاً للحكم‌ بينما اختارت‌ مجموعة‌ أُخري‌ آخراً فلا مانع‌ في‌ هذه‌ الحالة‌ من‌ مراعاة‌ جانب‌ الاكثريّة‌. ومقبولة‌ عمر بن‌ حنظلة‌ ناظرة‌ إلی‌ هذه‌ النقطة‌.

 وعلی‌ هذا، فيجب‌ أن‌ يكون‌ الاخذ برأي‌ الاكثريّة‌ علی‌ أساس‌ عنوان‌ الخبرويّة‌ والقوانين‌ الواردة‌ في‌ الإسلام‌ وميزان‌ الحقّ، لاعلی‌ عنوان‌ الاكثريّة‌ فحسب‌.

 ولا ينبغي‌ أن‌ يكون‌ الرأي‌ في‌ المجلس‌ علی‌ أساس‌ أكثريّة‌ الاصوات‌؛ إذ بإمكان‌ الفقيه‌ أن‌ يعمل‌ بما يري‌ فيه‌ مصلحة‌ بحسب‌ نظره‌ ( بعد مقام‌ الثبوت‌ لجميع‌ الشرائط‌ ) سواء كان‌ ذلك‌ مطابقاً للاكثريّة‌ أم‌ غيرمطابق‌.

 فإذا صوّت‌ أكثريّة‌ المجلس‌ علی‌ رأي‌ ما فيجوز له‌ ترجيح‌ رأي‌ الاقلّيّة‌، كما يمكنه‌ أن‌ يقرّ ما تبنّاه‌ من‌ رأي‌ وإن‌ خالف‌ إجماع‌ المجلس‌ علی‌ ذلك‌. وهذا هو معني‌ الولاية‌.

 لانَّ المجلس‌ مركّب‌ من‌ مشاورين‌ ومعاونين‌ خاضعين‌ لولاية‌ الفقيه‌، لافي‌ مرتبة‌ ومقام‌ الولاية‌.

 وكلام‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌ لعبد الله‌ بن‌ عبّاس‌ الوارد في‌ « نهج‌ البلاغة‌ » يشكّل‌ شاهداً علی‌ كلامه‌.

 وَقَالَ علیهِ السَّلاَمُ لِعَبْدِ اللَهِ بنِ العَبَّاسِ وَقَدْ أَشَارَ إلَیهِ فِي‌ شَي‌ءٍ لَمْيُوَافِقْ رَأْيَهُ علیهِ السَّلاَمُ: لَكَ أَنْ تُشِيرَ عَلَیوَأَرَي‌؛ فَإنْ عَصَيْتُكَ فَأَطِعْنِي‌! [2]

 بيّن‌ عبد الله‌ بن‌ عبّاس‌ رأيه‌ في‌ مسألة‌ من‌ المسائل‌ لاميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌، ولم‌يكن‌ ذلك‌ الرأي‌ موافقاً لرأي‌ الإمام ( وكأنَّ عبدالله‌بن‌ عبّاس‌ كان‌ يمتلك‌ ثقة‌ عإلیة‌ بعقله‌ ودرايته‌ ونظره‌، فأراد فرض‌ رأيه‌ علی‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌ ).

 فقال‌ له‌ الإمام علیه‌ السلام‌: عَلَیأن‌ أُشاورك‌، لكنَّ الرأي‌ لي‌ بعد المشاورة‌. وإذا استدعيتك‌ للمشورة‌ وطلبت‌ رأيك‌، فهذا لا يعني‌ أ نِّي‌ قد جعلت‌ رأيك‌ عدلاً لرأيي‌؛ أبداً.

 الرجوع الي الفهرس

مشورة‌ النبي‌ّ مقدّمة‌ لاخذه‌ الرأي‌ النهائي‌ّ

 ولو شاور النبي‌ّ الاكرم‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ وسلّم‌ مائة‌ ألف‌ شخص‌ فلاتكون‌ آراؤهم‌ عِدلاً لرأيه‌ أبداً، فالرأي‌ هو رأي‌ النبي‌ّ.

 فليس‌ من‌ حقّهم‌ أن‌ يقولوا: نحن‌ خمسة‌ أشخاص‌ والنبي‌ّ شخص‌ واحد، ونحن‌ خمسة‌ أصوات‌ مخالفة‌ في‌ قبال‌ صوت‌ واحد للنبي‌ّ وعلی‌ النبي‌ّ أن‌ يتبعنا لانَّ الاكثريّة‌ معنا!!

 وَشَاوِرْهُمْ فِي‌ الاْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَیاللَهِ. [3]

 يا أيّها النبي‌ّ! شاور الناس‌ وأصحابك‌ في‌ كلّ حادثة‌، لكنّ الرأي‌ رأيك‌ أنت‌، ولايحقّ لك‌ أن‌ تعمل‌ بآرائهم‌.

 فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَیاللَهِ. فبعد مشاورتهم‌ واتّضاح‌ الامر لك‌، فعلیك‌ البتّ في‌ الامر والعمل‌ بما ترجّحه‌؛ وتوكّل‌ علی‌ الله‌.

 ليست‌ المشورة‌ انتخاباً لرأي‌ الاكثريّة‌، بل‌ هي‌ استيضاح‌ المطلب‌ لنفس‌ الإنسان‌، ويكون‌ الرأي‌ النهائي‌ّ لصاحب‌ المشورة‌. وفي‌ مقام‌ الولاية‌، لايستطيع‌ أحد أن‌ يكون‌ في‌ درجة‌ نفس‌ الولي‌ّ من‌ حيث‌ الفكر والرتبة‌، وليس‌ بالضرورة‌ أن‌ يكون‌ المشار في‌ مستوي‌ المشير، ولاهي‌ معياراً لرفع‌ المشار إلی‌ درجة‌ الولي‌ّ.

 ظنّ عبد الله‌ بن‌ عبّاس‌ أنَّ موقعيّته‌ تؤهّله‌ لان‌ يفرض‌ رأياً علی‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌، باعتباره‌ من‌ القادة‌ المقرّبين‌ والمختصّين‌ بالإمام علیه‌ السلام‌، ومن‌ طلاّب‌ مدرسته‌ القرآنيّة‌، وقد ائتمنه‌ الإمام علی‌ بعض‌ المسائل‌ والمواقف‌، وكان‌ يجالس‌ الإمام ويتحدّث‌ معه‌ ويسايره‌! فعندما شاوره‌ الإمام علیه‌ السلام‌ في‌ مسألة‌ ما كان‌ يتوقّع‌ أن‌ يفرض‌ رأيه‌ علی‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌.

 فقال‌ له‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌: لَكَ أَنْ تُشِيرَ عَلَیوَأَرَي‌؛ فَإنْ عَصَيْتُكَ فَأَطِعْنِي‌!

 إذا جعلتك‌ مستشاراً لي‌، فليس‌ لك‌ إلاّ أن‌ تبدي‌ رأيك‌ لي‌ والاختيار لي‌؛ وإذا عملتُ بما يخالف‌ رأيك‌، فمن‌ الواجب‌ علیك‌ أن‌ تطيعني‌؛ وإيّاك‌ أن‌ تصرّ علی‌ رأيك‌ وتخالف‌ أمري‌ كأن‌ تقول‌: مادام‌ خالفني‌ أميرالمؤمنين‌ فمن‌ حقّي‌ أن‌ أعمل‌ بما أري‌!

 فاختيار الرأي‌ محفوظ‌ لي‌ وحدي‌؛ فَإنْ عَصَيْتُكَ فَأَطِعْنِي‌: فإذا عصيتك‌ بمخالفة‌ رأيك‌، فما يجب‌ علیك‌ هو الطاعة‌ لي‌، لا نَّه‌ أنا الولي‌ّ وأنت‌ المولّي‌ علیه‌، ولا يستوجب‌ حقّ المشاورة‌ أن‌ يكون‌ رأيك‌ عِدلاً وموازناً لرأيي‌. فالرأي‌ هو رأي‌ الولي‌ّ الفقيه‌ فقط‌؛ وفي‌ شرع‌ الإسلام‌، لايحقّ لغيرالفقيه‌ الاعلم‌ والاورع‌ والجامع‌ للشرائط‌، الإلهي‌ّ والعارف‌ بالله‌ بأمر الله‌ أن‌ يتّخذ قراراً في‌ أي‌ّ شأن‌ من‌ الشؤون‌ العامّة‌ للمسلمين‌.

 اللَهُمَّ صَلِّ عَلَی مُحَمَّدٍ  وَآلِ مُحَمَّد

 الرجوع الي الفهرس

 

این مورد را ارزیابی کنید
(0 رای‌ها)

پیام هفته

همکاری با نفوذیان خائن و اختلاس‌گران بی دین
قرآن : لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ کامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (سوره نحل، آیه 52)ترجمه: تا روز قیامت بار گناهان خود را تمام بردارند ، و [ نیز ] بخشی از بار گناهان کسانی را که ندانسته آنان را گمراه می کنند. آگاه باشید ، چه بد باری را می کشند.حدیث: و ایما داع دعی الی ضلالة فاتبع علیه، فان علیه مثل اوزار من اتبعه، من غیر ان ینقص من اوزارهم شیئا!: (مجمع‌البیان، ج6، ص 365)ترجمه: ... و هر کس دعوت به ضلالت کند و از او پیروی کنند همانند کیفر پیروانش را خواهد داشت، بی آنکه از کیفر آنها کاسته شود.

ادامه مطلب

موسسه صراط مبین

نشانی : ایران - قم
صندوق پستی: 1516-37195
تلفن: 5-32906404 25 98+
پست الکترونیکی: این آدرس ایمیل توسط spambots حفاظت می شود. برای دیدن شما نیاز به جاوا اسکریپت دارید