الدرس‌ السابع‌ والعشرون‌

الدرس‌ السابع‌ والعشرون‌:

 يشترط‌ في‌ الفتوي‌ صفاء القلب‌ إضافة‌ إلی‌ الاجتهاد

 

 

أعُوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ

بِسْـمِ اللَهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِـيـمِ

وصلَّی اللَهُ عَلَی سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ

ولَعْنَةُ اللَهِ عَلَی أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَی‌ قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ

ولاَ حَولَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَهِ العلی‌ِّ العَظِيمِ

تقع‌ روايات‌ المعصومين‌ في‌ مراحل‌ متفاوتة‌ من‌ ناحية‌ عمق‌ الدلالة‌

الروايات‌ الواردة‌ عن‌ الائمّة‌ المعصومين‌ صلوات‌ الله‌ وسلامه‌ علیهم‌ أجمعين‌ ليست‌ علی‌ نسق‌ واحد، ولها من‌ ناحية‌ المضمون‌ والمحتوي‌ مراتب‌ مختلفة‌. فبعضها يحتوي‌ علی‌ معانٍ بسيطة‌ وقابلة‌ للفهم‌ من‌ قبل‌ عامّة‌ الناس‌، وبعضها تشتمل‌ علی‌ معانٍ دقيقة‌، وبعضها أكثر دقّة‌، إلی‌ أن‌ يصل‌ الامر في‌ بعضها المشتمل‌ علی‌ المسائل‌ الحكميّة‌ والإلهيّة‌ الغامضة‌ مستوي‌ لايتمكّن‌ من‌ إدراكها فيها إلاّ الاوحدي‌ّ من‌ الناس‌.

 إنَّ ما يميّز كلمات‌ الائمّة‌ علیهم‌ السلام‌ علی‌ سائر العبارات‌ ليست‌ من‌ ناحية‌ اللفظ‌ والعبارة‌، ولا من‌ جانب‌ الفصاحة‌ والبلاغة‌ فحسب‌، بل‌ تتميّز عن‌ سائر كلمات‌ الناس‌ بسموّ المعني‌، وعمق‌ الدلالة‌، وغني‌ المضمون‌.

 لقد التبس‌ الامر علی‌ كثير من‌ قصيري‌ النظر من‌ أهل‌ الظاهر وزمرة‌ من‌ الاخباريّين‌ في‌ هذه‌ المسألة‌ وتوهّموا أنَّ ميزة‌ كلمات‌ الائمّة‌ تنحصر في‌ حسن‌ العبارة‌ فقط‌، وعلیه‌ فهي‌ قابلة‌ للفهم‌ بالنسبة‌ إلی‌ الجميع‌، لذلك‌ يقولون‌: إنَّ الاخبار التي‌ في‌ أيدينا هي‌ كلّ شي‌ء، فلم‌ يعد ثمّة‌ حاجة‌ إلی‌ الحكمة‌ والعلوم‌ العقليّة‌، فكلّ ما هنالك‌ موجود في‌ بيت‌ أهل‌ البيت‌، ومن‌ الخطأ تجاوز هذا البيت‌.

 أجل‌؛ كلّ شي‌ء موجود في‌ بيت‌ أهل‌ البيت‌، وتجاوزهم‌ خطأ بدوره‌، لكنَّ الكلام‌ هو في‌ ماهيّة‌ ذلك‌ الشي‌ء الموجود في‌ بيت‌ أهل‌ البيت‌، فهل‌ هو ذلك‌ الشي‌ء الذي‌ يدركه‌ الجميع‌، ونجده‌ في‌ دكّان‌ كلّ بقّال‌ وعطّار؟ أم‌ أنَّ في‌ بيت‌ أهل‌ البيت‌ رموزاً وأسراراً لم‌ يتمكّن‌ حتّي‌ العلماء وكبار المحقّقين‌ والفلاسفة‌ ذوي‌ العزّ والإكرام‌ ممّن‌ صرف‌ عمراً من‌ الدراسة‌ والتحقيق‌، إلاّ إدراك‌ بعض‌ نكاتها، كما لم‌ يتمكّن‌ كبار العرفاء بعد صرف‌ عمر من‌ المشقّة‌ وحرقة‌ القلب‌ والسلوك‌ إلاّ من‌ استشمام‌ بعض‌ معانيها؟

 إنَّ كلّ شي‌ء موجود في‌ أخبار الائمّة‌ علیهم‌ السلام‌، هذا صحيح‌، ولكن‌ مَن‌ الذي‌ يفهم‌ الخبر ويدركه‌؟ فهل‌ يمكن‌ الوصول‌ إلی‌ تلك‌ الاسرار من‌ دون‌ العلوم‌ العقليّة‌؟ وهيهات‌؛ فإنَّ الائمّة‌ علیهم‌ السلام‌ كانوا يحتكّون‌ بجميع‌ طبقات‌ الناس‌، ويتكلّمون‌ معهم‌ جميعاً، وكانوا طبقاً لما قاله‌ رسول‌الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ وسلّم‌: إنَّا مَعَاشِرَ الاَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَن‌ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَیقَدْرِ عُقُولِهِمْ. [2] يتكلّمون‌ مع‌ كلّ شخص‌ بقدر فهمه‌. يقول‌ الشاعر:

 چون‌ كه‌ با كودك‌ سر و كارم‌ فتاد                  هم‌ زبان‌ كودكان‌ بايد گشاد [3]

 ولم‌ يتكلّم‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ أيضاً مع‌ جميع‌ الناس‌ كما تكلّم‌ مع‌ خواصّه‌. فمخاطبة‌ ذوي‌ المستوي‌ الفكري‌ّ السطحي‌ّ بحسب‌ مستواهم‌ يكون‌ مفيداً لهم‌، بينما مخاطبتهم‌ بمستوي‌ أعلی‌ يعرّضهم‌ للإنكسار والإفساد لافتقارهم‌ إلی‌ الإدراك‌.

 وقد ورد في‌ الرواية‌ أنَّ تعلیم‌ الحكمة‌ للجهّال‌ يُعتبر ظلماً للحكمة‌، كما أنَّ الامتناع‌ عن‌ تعلیمها لاهلها ظلم‌ لهم‌. وقال‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌: لا تعلّقوا الجواهر في‌ أعناق‌ الخنازير. [4]

 الرجوع الي الفهرس

في‌ أخبار الائمّة‌ علیهم‌ السلام‌ جواهر مثقلة‌ بالاسرار للخواصّ

 لقد كان‌ الائمّة‌ علیهم‌ السلام‌ يتعاملون‌ مع‌ جميع‌ الناس‌، وقد صدرت‌ منهم‌ محاورات‌ ومذاكرات‌ علی‌ جميع‌ المستويات‌، لذا كان‌ معني‌ بعض‌ الروايات‌ بسيطة‌ جدّاً بنحو يمكن‌ فهمه‌ من‌ عامّة‌ الناس‌، بينما كان‌ بعضها الآخر دقيقاً، وبعضها أكثر دقّة‌، كما يوجد في‌ بعض‌ الروايات‌ معانٍ غامضة‌ صعبة‌ الفهم‌ ومشكلة‌ جدّاً.

 والروايات‌ الموجودة‌ في‌ « التوحيد » للصدوق‌ رحمة‌ الله‌ علیه‌، وكلمات‌ الإمام الرضا علیه‌ السلام‌ فيما ورد الكثير منها في‌ كتاب‌ « عيون‌ أخبار الرضا » هي‌ بهذا النحو. وتوجد في‌ بعض‌ خطب‌ « نهج‌ البلاغة‌ » معانٍ دقيقة‌ لكلمات‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌، وهي‌ تتصاعد أحياناً إلی‌ حدٍّ لايستطيع‌ أحد إدراك‌ مطالبها، فكيف‌ نستطيع‌ القول‌ بأنَّ جميع‌ هذه‌ الروايات‌ قابلة‌ للفهم‌ من‌الجميع‌؟! وإنَّ كلّ ما نريده‌ يمكننا أن‌ نحصل‌ علیه‌ من‌ الروايات‌؟!

 نقل‌ عن‌ المرحوم‌ آية‌ الله‌ الحاجّ الميرزا أحمد الكفائي‌ّ الخراساني‌ّ، ابن‌ المرحوم‌ آية‌ الله‌ الحاجّ الشيخ‌ محمّد كاظم‌ الخراساني‌ّ صاحب‌ «كفاية‌ الاُصول‌» أ نَّه‌ قال‌: لقد درست‌ «شرح‌ أُصول‌ الكافي‌» للملاّ القزويني‌ّ، وقال‌ لي‌ أبي‌ يوماً: تعال‌ لكي‌ أقول‌ لك‌ شيئاً، إنَّك‌ إن‌ لم‌ تدرس‌ مقدّمات‌ الفلسفة‌ لن‌تفهم‌ شيئاً من‌ هذه‌ الروايات‌. [5]

 وذلك‌ لانَّ الاسرار الإلهيّة‌ ومقام‌ التوحيد الذي‌ يصل‌ إلیه‌ المؤمنون‌ بعد السنين‌ المتمادية‌ من‌ العلم‌ والعمل‌ لا يحصل‌ للوهلة‌ الاُولي‌، وذلك‌ المؤمن‌ الذي‌ استوعب‌ تلك‌ المعاني‌ لا يستطيع‌ نقلها وإلقاءها علی‌ من‌ لم‌يستوعبها، ولربّما كان‌ ذلك‌ سبباًلإضلالهم‌.

 ولهذا السبب‌ لم‌ يبح‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ وسلّم‌ بأسراره‌ إلاّ لاميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌ فقط‌، فلدينا روايات‌ متواترة‌ عن‌ الفريقين‌ أنَّ رسول‌الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ قد أباح‌ بأسراره‌ للإمام وحده‌، وكذلك‌ لبعض‌ من‌ أصحابه‌ الخاصّين‌ مثل‌ سلمان‌ الذي‌ كان‌ صاحب‌ سرّ أيضاً.

 وفي‌ الرواية‌: أنَّ مدركات‌ سلمان‌ كانت‌ أكثر من‌ مدركات‌ أبي‌ ذرّ، وأنَّ مقامه‌ في‌ التوحيد كان‌ أدقّ. فذاك‌ التوحيد الذي‌ كان‌ قد أدركه‌ سلمان‌ لم‌يكن‌ قد أدركه‌ أبو ذرّ مع‌ جميع‌ تلك‌ المقامات‌ والدرجات‌ والصدق‌ الذي‌ كان‌ يمتلكه‌، لا أنَّ أبا ذرّ كان‌ رجلاً خائناً، أو معدوداً من‌ الكاذبين‌، بل‌ كان‌ من‌ خواصّ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ بكلّ ما للكلمة‌ من‌ معني‌، لكنَّ وعاءه‌ الفكري‌ّ وسعته‌ ليس‌ في‌ مستوي‌ سلمان‌، وذلك‌ بمعني‌ أنَّ ذلك‌ المقدار من‌ المعرفة‌ التي‌ كان‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ يتمكّن‌ من‌ إلقائها في‌ قرارة‌ ذهنه‌ ونفسيّته‌ كان‌ محدوداً بحدّ معيّن‌، بينما كان‌ استعداد سلمان‌ أكثر سعة‌، وكان‌ قد وصل‌ إلی‌ مطالب‌ أرقي‌ من‌ العرفان‌ بينما كان‌ إدراك‌ ذلك‌ الحال‌ غير ممكن‌ بالنسبة‌ إلی‌ أبي‌ ذرّ، أي‌ لو ألقي‌ سلمان‌ مطالبه‌ لابي‌ ذرّ لردّها واتّهمه‌ بالشرك‌ والكفر، وحمل‌ كلامه‌ علی‌ الكفر! لَوْ عَلِمَ أَبُو ذَرٍّ مَا فِي‌ قَلْبِ سَلْمَانَ لَقَتَلَهُ أَوْ كَفَّرَهُ. [6]

 لاحظوا دقّة‌ المطلب‌، ففي‌ الوقت‌ الذي‌ كان‌ فيه‌ أبو ذرّ يجلس‌ مع‌ سلمان‌ ويتناولان‌ الطعام‌ معاً، وعلی‌ الرغم‌ من‌ رفاقتهما وإقامة‌ عقد الاُخوَّة‌ بينهما، لكن‌ كان‌ هناك‌ تفاوت‌ في‌ الإدراك‌ بينهما إلی‌ درجة‌ أنَّ أبا ذرّ لو اطّلع‌ علی‌ مدركات‌ سلمان‌ لقتله‌ أو لرآه‌ مهدور الدم‌، حيث‌ سيري‌ الشرك‌ أو الكفر في‌ عقيدته‌! لانَّ سلمان‌ وصل‌ إلی‌ مرحلة‌ من‌ مراحل‌ التوحيد لم‌يدركها أبو ذرّ بعد، لانَّ ذلك‌ التوحيد في‌ نظر أبي‌ ذرّ عين‌ عبادة‌ الاصنام‌.

 وهذا يشبه‌ المطالب‌ الرائجة‌ في‌ أيّامنا هذه‌ علی‌ الالسن‌ من‌ أنَّ فلاناً ممّن‌ يقول‌ بوحدة‌ الوجود، وأ نَّه‌ لا ينبغي‌ لاحد أن‌ يذكر وحدة‌ الوجود، وأنَّ العقيدة‌ في‌ وحدة‌ الوجود كفر وشرك‌!

 الرجوع الي الفهرس

وحدة‌ الوجود من‌ أرقي‌ أسرار آل‌ محمّد علیهم‌ السلام‌

 وحدة‌ الوجود من‌ أعظم‌ وأعلی‌ وأصعب‌ وأدقّ مسائل‌ الحكمة‌ المتعإلیة‌، وفهمها ليس‌ يسيراً هيّناً، فعلی‌ الإنسان‌ أن‌ يجدّ ويكدّ طوال‌ عمره‌ علماً وعملاً. وهل‌ سيفهمه‌ الله‌ أصل‌ وحقيقة‌ وحدة‌ الوجود أو لا؟! فهذا من‌ الاسرار التي‌ لا يمكن‌ البوح‌ بها لاي‌ٍّ كان‌.

 لو قال‌ إنسان‌ آخر: الوجود واحد. فماذا يفهم‌ من‌ هذا الكلام‌؟ يقولون‌ إنَّ معني‌ هذا الكلام‌ هو وجود واحد متحقّق‌ لا غير، وهو وجود الذات‌ الإلهيّة‌ المقدّسة‌، أي‌ أنَّ جميع‌ الاشياء هي‌ الله‌، ولذا يتوهّمون‌ بأنَّ الإنسان‌ هو الله‌ والخنزير هو الله‌ والكلب‌ هو الله‌ والقاذورات‌ هي‌ الله‌ والزاني‌ هو الله‌ والمزني‌ به‌ هو الله‌!

 هذا كفر وشرك‌؛ والقائل‌ بوحدة‌ الوجود لا يقول‌ إنَّ الزاني‌ والمزني‌ يه‌ هو الله‌، وإنَّ الكلب‌ والخنزير هو الله‌؛ وهو لا يقول‌ إنَّ الإنسان‌ هو الله‌، ولايقول‌ إنَّ من‌ هو أرقي‌ من‌ الإنسان‌ ( الملائكة‌ ) هو الله‌، ولا يقول‌ إنَّ الملائكة‌ المقرّبين‌ والروح‌ هم‌ الله‌، ولا يقول‌ إنَّ جبرئيل‌ والروح‌ الامين‌ وروح‌ القدس‌ هم‌ الله‌.

 إنَّه‌ يقول‌: إنَّ هؤلاء جميعاً موجودات‌ متعيّنة‌ ومتقيّدة‌ ومحدودة‌ ومشخّصة‌، والله‌ تعإلی‌ لا حدّ له‌، وحتّي‌ النبي‌ّ مع‌ جميع‌ تلك‌ اللامحدوديّة‌ التي‌ يمتلكها بالنسبة‌ لجميع‌ الموجودات‌، لكنّه‌ بالنسبة‌ إلی‌ الله‌ محدود وممكن‌. فهو لا يقول‌ إنَّه‌ الله‌؛ فالقائل‌ بوحدة‌ الوجود يقول‌ بأ نَّه‌ ليس‌ هناك‌ شي‌ء غيرالله‌.

 هناك‌ فرق‌ بين‌ أن‌ نقول‌ إنَّ جميع‌ الاشياء هي‌ الله‌ (كُلُّ شَي‌ْءٍ هُوَ اللَه‌) أو نقول‌ لا شي‌ء موجود غير الله‌. فالقائل‌ بوحدة‌ الوجود يقول‌: لاوجود في‌ العالم‌ لغير الذات‌ المقدّسة‌ لواجب‌ الوجود علی‌ الإطلاق‌، فالوجود الاستقلإلی‌ّ واحد فقط‌، وهو قد غمر جميع‌ الموجودات‌ وَلاَ تَشُذُّ عَنْ حيطَةِ وُجودِهِ ذَرَّة‌! وكلّ وجود تحسبونه‌ وجوداً مستقلاّ فاستقلاله‌ هذا ناشي‌ عن‌ عدم‌إبصاركم‌ وعدم‌ إدراككم‌. الوجود المستقلّ هو وجوده‌ وحده‌ فقط‌، ووجود جميع‌ الموجودات‌ ظلّي‌ّ وتبعي‌ّ واندكاكي‌ّ وإلی‌ّ لاصل‌ الوجود، ووجود الجميع‌ قائم‌ بتلك‌ الذات‌ المقدّسة‌ للحي‌ّ القيّوم‌.

 القائل‌ بوحدة‌ الوجود يقول‌: ليس‌ هناك‌ ذات‌ مستقلّة‌ يمكن‌ إطلاق‌ الوجود علیها غير الذات‌ الإلهيّة‌، وجميع‌ عالم‌ الإمكان‌ مِنَ الذَّرَّةِ إلَی‌ الدُّرَّة‌، فانٍ ومندكّ في‌ وجوده‌، وليس‌ هناك‌ وجود يمتلك‌ الاستقلال‌، أو يستطيع‌ أن‌ يظهر نفسه‌ في‌ مقابل‌ وجوده‌، فالجميع‌ ظلال‌ لوجوده‌.

 لا أن‌ يقول‌: كُلُّ شَي‌ءٍ هُوَ اللَه‌، فبلفظ‌ « الشي‌ء » يُشار إلی‌ الحدود الماهويّة‌.

 والحدود كلّها نواقص‌ وعدم‌ وفقر واحتياج‌، فأي‌ّ مناسبة‌ لها مع‌ الله‌؟ وهذا من‌ المسلّم‌ كونه‌ شركاً.

 لكنَّ هذا المطلب‌ الذي‌ يجب‌ أن‌ يثبت‌ بعد السنين‌ المتمادية‌ بالبرهان‌ القاطع‌، أو يدرك‌ بالقلب‌ بواسطة‌ السير والسلوك‌ إلی‌ الله‌، إذ وضعه‌ الإنسان‌ بين‌ يدي‌ الناس‌ حتّي‌ أُولئك‌ الذين‌ هم‌ من‌ أهل‌ العلم‌ ـلكن‌ ممّن‌ لايمتلكون‌ قدماً ثابتة‌ في‌ المعارف‌ الإلهيّة‌ـ فماذا يفهمون‌ منه‌؟ يقولون‌ إنَّ فلاناً من‌ أهل‌ وحدة‌ الوجود، ووحدة‌ الوجود شرك‌ وكفر وما شابه‌.

 إنَّك‌ لا تفهم‌ معني‌ وحدة‌ الوجود أصلاً! ولا تستوعبه‌! إنَّ وحدة‌ الوجود سرّ آل‌ محمّد، وحدة‌ الوجود حقيقة‌ الولاية‌، وحدة‌ الوجود حقيقة‌ النبوّة‌، وحدة‌ الوجود حقيقة‌ كلّ شي‌ء من‌ جهة‌ ربط‌ الخاصّ بالذات‌ الإلهيّة‌ المقدّسة‌، وحدة‌ الوجود هي‌ ذلك‌ المقام‌ التوحيدي‌ّ الذي‌ جاء النبي‌ّ وسُفكت‌ كلّ هذه‌ الدماء لكي‌ يقولوا لاَ إلَهَ إلاَّ اللَهُ.

 لا فرق‌ بين‌ وحدة‌ الوجود وتوحيد الوجود، فالتوحيد يعني‌ جعله‌ واحداً، والوحدة‌ تعني‌ كونه‌ واحداً، فما الفرق‌ بين‌ هذا وذاك‌؟! فذاك‌ من‌ باب‌ التفعيل‌، ثلاثي‌ّ مزيد، وهذا من‌ باب‌ المجرّد، فاحذفوا لفظ‌ التوحيد في‌ الوجود الذي‌ يقوم‌ الإسلام علیه‌ وضعوا مكانه‌ لفظ‌ الوحدة‌. فيكون‌ لفظ‌ الوحدة‌ مكان‌ التوحيد.

 أنتم‌ لا تستوحشون‌ من‌ التوحيد، فَلِمَ تخافون‌ من‌ الوحدة‌؟! هذه‌ أسرار غامضة‌، لو أراد سلمان‌ أن‌ يبرزها لمن‌ هو دونه‌ لما تحمّلوها ولقالوا هذا شرك‌.

 هذه‌ أسرار حقيقة‌ القرآن‌ ونهاية‌ سير البشر، وعلی‌ الجميع‌ أن‌ يطووا هذا الطريق‌ إلی‌ أن‌ يصلوا إلی‌ هناك‌، وقد جاء النبي‌ّ لاجل‌ إيصال‌ هذا المعني‌، فلايمكن‌ تربية‌ الإنسان‌ دون‌ أن‌ يصل‌ إلی‌ ذلك‌ المعني‌، وإلاّ كان‌ العالم‌ عبثاً. كما أ نَّه‌ ومن‌ جهة‌ أُخري‌، لا يستطيع‌ بيان‌ هذا المعني‌ للجميع‌، لا نَّه‌ غير قابل‌ للإدراك‌ للجميع‌.

 ولذا، فهو يذكره‌ لبعض‌ خواصّه‌ فقط‌ الذين‌ يمتلكون‌ قابليّة‌ ذلك‌ ويستوعبونه‌، فيكون‌ بهذا جزءاً من‌ الاسرار.

 الرجوع الي الفهرس

تتمة النص

      

ارجاعات

[1] ـ «مصباح‌ الشريعة‌» طبعة‌ طهران‌، مركز نشر الكتاب‌، سنة‌ 1379 هجريّة‌، مع‌ تحقيق‌ ومقدّمة‌ وتصحيح‌ الصديق‌ الجليل‌ والعالم‌ الموقّر الحاجّ الشيخ‌ حسن‌ المصطفوي‌ّ دامت‌ معالیه‌.

[2] ـ «أُصول‌ الكافي‌» ج‌ 1، ص‌ 23، حديث‌ 15، كتاب‌ العقل‌ والجهل‌ـ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَي‌، عَنِ الحَسَنِ بْنِ علی‌ِّبْنِ فَضَّال‌، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَبِي‌ عَبْدِ اللَهِ علیهِ السَّلاَمُ، قَالَ: مَا كَلَّمَ رَسُولُ اللَهِ صلَّی اللَهُ علیهِ وَآلِهِ العِبَادَ بِكُنْهِ عَقْلِهِ قَطُّ؛ وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَهِ صلَّی اللَهُ علیهِ وَآلِهِ: إنَّا مَعَاشِرَ الاَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَن‌ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَی قَدْرِ عُقُولِهِمْ.

 وقد وردت‌ الرواية‌ في‌ «تحف‌ العقول‌» ص‌ 36؛ وفي‌ «بحار الانوار» ج‌ 17، ص‌ 41، كتاب‌ الروضة‌، طبعة‌ الكمباني‌ّ، وفي‌ الطبعة‌ الحروفيّة‌، مطبعة‌ الحيدري‌ّ، ج‌ 77، ص‌ 140 عن‌ «تحف‌ العقول‌» القسم‌ الثاني‌.

 وفي‌ «المحاسن‌» للبرقي‌ّ،، 1، ص‌ 195، يروي‌ بالإسناد عن‌ سليمان‌ بن‌ جعفربن‌ إبراهيم‌ الجعفري‌ّ مرفوعاً أ نَّه‌؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَهِ صلَّی اللَهُ علیهِ وَآلِهِ: إنَّا مَعَاشِرَ الاَنْبِيَاءِ نُكَلِّمُ النَّاسَ عَلَی قَدْرِ عُقُولِهِمْ.

 وأورد في‌ «المحجّة‌ البيضاء» ج‌ 1، ص‌ 66، عن‌ الإمام الصادق‌ علیه‌ السلام‌ أ نَّه‌ قال‌: خَالِطُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، وَدَعُوهُمْ مِمَّا يُنْكِرُونَ، وَلاَتُحَمِّلُوا عَلَیأَنْفُسِكُمْ وَعلینَا، إنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لاَ يَحْتَمِلُهُ إلاَّ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أَو نَبِي‌ٌّ مُرْسَلٌ أَو مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللَهُ قَلْبَهُ لِلإيمَانِ (الصفّار في‌ «بصائر الدرجات‌» ص‌ 9 ).

[3] ـ يقول‌: «وحيث‌ قد صار اختلاطي‌ وانشغإلی‌ مع‌ الاطفال‌ فيجب‌ أن‌ أتكلّم‌ بلغتهم‌».

[4] ـ قال‌ المحدّث‌ القمّي‌ّ رحمة‌ الله‌ علیه‌ في‌ «سفينة‌ البحار» ج‌ 1، ص‌ 292، في‌ مادّة‌ (حَكَمَ): وفي‌ «منية‌ المريد»: رُوِي‌ عَنِ الصَّادقِ علیهِ السَّلاَّمُ، قَالَ: قَامَ عِيسَي‌ ابْنُ مَرْيَمَ عَلَی نَبِيِّنَا وَآلِهِ وَعلیهِ السَّلاَمُ خَطِيبَاً فِي‌ بَنِي‌ إسْرَائِيلَ فَقَالَ: يَابَنِي‌ إسْرَائِلَ! لاَتُحَدِّثُوا الجُهَّالَ بِالحِكْمَةِ فَتَظْلِمُوهَا؛ وَلاَتَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ! فَأَقُولُ عَلَی طِبْقِ مَا قَالَ علیهِ السَّلاَمُ: إيَّاكَ وَأَن‌ تَعْرُجَ مَعَ الجَاهِلِ عَلَیبَثِّ الحِكْمَةِ وَأَن‌ تَذْكُرَ لَهُ شَيئَاً مِنَ الحَقَائِقِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّ لَهُ قَلْبَاً طَاهِرَاً لاَتَعَافُهُ الحِكْمَةُ؛ فَقَدْ قَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ علیهِ السَّلاَمُ: لاَتُعَلِّقُوا الجَوَاهِرَ فِي‌ أَعْنَاقِ الخَنَازِيرِ! وفي‌ «المحجّة‌ البيضاء» ج‌ 1، ص‌ 91: وَقَالَ النَّبِي‌ُّ صلَّی اللَهُ علیهِ وَآلِهِ: كَلِّمُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ! أَتُرِيدُونَ أَن‌ يُكَذَّبَ اللَهُ وَرَسُولُهُ؟ «صحيح‌ البخاري‌ّ» ج‌ 1، ص‌ 43؛ وقد أوردها في‌ «كنوز الحقائق‌» باب‌ الكفاف‌ بلفظ‌: حَدِّثُوا النَّاسَ؛ كما أوردها النعماني‌ّ في‌ «الغيبة‌» بناءً علی‌ نقل‌ «البحار» من‌ طبعة‌ الكمباني‌ّ ج‌ 2، ص‌ 77.

 وَقَالَ عِيسَي‌ علیهِ السَّلاَمُ: لاَ تَضَعُوا الحِكْمَةَ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهَا فَتَظْلِمُوهَا؛ وَلاَتَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ! كُونُوا كَالطَّبِيبِ الرَّفِيقِ يَضَعُ الدَّوَاءَ فِي‌ مَوضِعِ الدَّاءِ (ابن‌ عبدالبرّ في‌ «كتاب‌ العلم‌» كما ورد في‌ مختصره‌ ص‌ 55؛ وأيضاً الدارمي‌ّ في‌ «السنن‌» ج‌ 1، ص‌ 106 باختلاف‌ يسير في‌ اللفظ‌). وفي‌ لفظ‌ آخر: مَن‌ وَضَعَ الحِكْمَةَ فِي‌ غَيْرِ أَهْلِهَا جَهِلَ وَمَن‌ مَنَعَهَا أَهْلَهَا ظَلَمَ، إنَّ للحِكْمَةِ حَقَّاً، وَإنَّ لَهَا أَهْلاً فَأَعْطِ كُلَّ ذِي‌ حَقٍّ حَقَّهُ.

[5] ـ مجلة‌ «كيهان‌ انديشه‌» عدد 1، مرداد وشهريور 1364 ه.ش‌، ص‌ 19 في‌ ضمن‌ كلام‌ العالم‌ الجليل‌ السيّد جلال‌ الدين‌ الآشتياني‌ّ.

[6] ـ يقول‌ في‌ «الوافي‌» ج‌ 1، ص‌ 8، الطبعة‌ الحجريّة‌، سنة‌ 1324، وفي‌ ج‌ 1، ص‌ 11 من‌ الطبعة‌ الحروفيّة‌ في‌ إصفهان‌: وَقَالَ سَيِّدُ العَابِدِينَ وَزَيْنُهُمْ صَلَوَاتُ اللَهِ علیهِ: لَوْ عَلِمَ أَبْوذَرٍّ مَا فِي‌ قَلْبَ سَلْمَانَ لَقَتَلَهُ. وفي‌ رواية‌: لَكَفَّرَهُ.

 يروي‌ في‌ «بحار الانوار» ج‌ 6، ص‌ 754، طبعة‌ الكمباني‌ّ، و ج‌ 22، ص‌ 343، حديث‌ 53، الطبعة‌ الحروفيّة‌ الحيدريّة‌، عن‌ «الكافي‌» عن‌ أحمد بن‌ إدريس‌، عن‌ عمران‌بن‌ موسي‌، عن‌ هارون‌بن‌ مسلم‌، عن‌ مسعدة‌ بن‌ صدقة‌، عن‌ الإمام الصادق‌ علیه‌ السلام‌ أ نَّه‌ قال‌: جري‌ حديث‌ عند الإمام علی‌ّ بن‌ الحسين‌ علیهما السلام‌ عن‌ التقيّة‌ فَقَالَ: لَوْ عَلِمَ أَبُوذَرٍّ مَا فِي‌ قَلْبِ سَلْمَانَ لَقَتَلَهُ، وَلَقَدْ آخَي‌ رَسُولُ اللَهِ بَيْنَهُمَا، فَمَا ظَنُّكُمْ بِسَائِرِ الخَلْقِ؟! إنَّ عِلْمَ العُلَمَاءِ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ، لاَيَحْتَمِلُهُ إلاَّ نَبِي‌ٌّ مُرْسَلٌ أَوْ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أَوْ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللَهُ قَلْبَهُ لِلإيمَانِ. فَقَالَ: وَإنَّمَا صَارَ سَلْمَانُ مِنَ العُلَمَاءِ لاِ نَّه‌ امْرُؤٌ مِنَّا أَهْلَ البَيْتِ، فَلِذَلِكَ نَسَبْتُهُ إلی‌ العُلَمَاءِ. «أُصول‌ الكافي‌» ج‌ 1، ص‌ 401. وقد أورد عين‌ هذا المتن‌ بتفاوت‌ «فَلِذَلِكَ نَسَبَهُ إلینَا» في‌«بصائرالدرجات‌»ص‌8.

 يقول‌ المجلسي‌ّ رضوان‌ الله‌ علیه‌ في‌ بيانه‌ في‌ ذيل‌ هذه‌ الرواية‌: مَا فِي‌ قَلْبِ سَلْمَانَ أَي‌ مِن‌ مَرَاتِبِ مَعْرِفَةِ اللَهِ وَمَعْرِفَةِ النَّبِي‌ِّ والاَئِمَّةِ صَلَوَاتُ اللَهِ علیهِمْ. فَلَو كَانَ أَظْهَرَ سَلْمَانُ لَهُ شَيْئَاً مِن‌ ذَلِكَ لَكَانَ لاَ يَحْتَمِلُهُ وَيَحْمِلُهُ عَلَیالكِذْبِ، وَيَنْسِبُهُ إلی‌ الارْتِدَادِ أَوِ العُلُومِ الغَرِيبَةِ وَالآثَارِ العَجِيبَةِ الَّتِي‌ لَو أَظْهَرَهَا لَهُ لَحَمَلَهَا عَلَیالسِّحْرِ فَقَتَلَهُ؛ وَكَانَ يُفْشِيهِ وَيُظْهِرُهُ لِلنَّاسِ فَيَصِيرُ سَبَبَاً لِقَتْلِ سَلْمَانَ عَلَیالوَجْهَيْنِ... إلی‌ آخره‌.

 ويروي‌ في‌ «بحار الانوار» ج‌ 6، طبعة‌ الكمباني‌ّ، في‌ نفس‌ الصفحة‌، وفي‌ ص‌ 346 من‌ الطبعة‌ الحروفيّة‌، الحيدريّة‌، عن‌ «الاختصاص‌» للشيخ‌ المفيد، بسنده‌ المتّصل‌ عن‌ عيسي‌بن‌ حمزة‌، قال‌: قُلْتُ لاِبِي‌ عَبْدِ اللَهِ علیهِ السَّلاَمُ الحَدِيثَ الَّذِي‌ جَاءَ فِي‌ الاَرْبَعَةِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟! قُلْتُ: الاَرْبَعَةُ الَّتِي‌ اشْتَاقَتْ إلیهِمُ الجَنَّةُ. قَالَ: نَعَمْ، مِنْهُمْ سَلْمَانُ وَأَبُوذَرٍّ وَالمِقْدَادُ وَعَمَّارُ. قُلْنَا: فَأَيُّهُمْ أَفْضَلُ؟! قَالَ: سَلْمَانُ. ثُمَّ أَطْرَقَ، ثُمَّ قَالَ: عَلِمَ سَلْمَانُ عِلْمَاً لَوْ عَلِمَهُ أَبُو ذَرٍّ كَفَرَ. «الاختصاص‌» ص‌ 11. وروي‌ في‌ «بحار الانوار» ج‌ 6، ص‌ 762، طبعة‌ الكمباني‌ّ، و ج‌ 22، ص‌ 373 و 374، حديث‌ 12، الطبعة‌ الحروفيّة‌، الحيدريّة‌؛ و«رجال‌ الكشّي‌ّ» بسنده‌ عن‌ الإمام أبي‌ جعفر محمّد الباقر علیه‌ السلام‌ قال‌: دَخَلَ أَبُو ذَرٍّ عَلَیسَلْمَانَ وَهُوَ يَطْبَخُ قِدْراً لَهُ فَبَيْنَا هُمَا يَتَحَادَثَانِ إذَا انْكَبَّتِ القِدْرُ عَلَی وَجْهِهَا عَلَی الاَرْضِ فَلَمْ يَسْقُطْ مِنْ مَرَقِهَا وَلاَ مِنْ وَدَكِهَا شَي‌ءٌ. فَعَجِبَ مِنْ ذَلِكَ أَبُو ذَرٍّ عَجَباً شَدِيداً؛ وَأَخَذَ سَلْمَانُ القِدْرَ فَوَضَعَهَا عَلَی حَالِهَا الاَوَّلِ عَلَی النَّارِ ثَانِيَةً وَأَقْبَلا يَتَحَدَّثَانِ، فَبَيْنَمَا هُمَا يَتَحَدَّثَانِ إذَا انْكَبَّتِ القِدْرُ عَلَی وَجْهِهَا فَلَم ْيَسْقُطْ مِنْهَا شَي‌ءٌ مِنْ مَرَقِهَا وَلاَ مِنْ وَدَكِهَا! قَالَ: فَخَرَجَ أَبُوذَرٍّ وَهُوَ مَذْعُورٌ مِنْ عِنْدِ سَلْمَانَ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ مُتَفَكِّرٌ إذْ لَقِي‌َ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ علیهِ السَّلامُ عَلَیالبَابِ. فَلَمَّا أَنْ بَصَّرَ بِهِ أَمِيرُالمُؤْمِنِينَ علیهِ السَّلاَمُ قَالَ لَهُ: يَا أَبَا ذَرٍّ! مَا الَّذِي‌ أَخَرَجَكَ وَمَا الَّذِي‌ ذَعَرَكَ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُوذَرٍّ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ! رَأَيْتُ سَلْمَانَ صَنَعَ كَذَا وكَذَا فَعَجِبْتُ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ أَمِيرُالمُؤْمِنِينَ علیهِ السَّلامُ: يَا أَبَا ذَرٍّ! إنَّ سَلْمَانَ لَوْ حَدَّثَكَ بِمَا يَعْلَمُ، لَقُلْتَ: رَحِمَ اللَهُ قَاتِلَ سَلْمَانَ. يَاأَبَاذَرٍّ! إنَّ سَلْمَانَ بَابُ اللَهِ فِي‌ الاَرْضِ؛ مَنْ عَرَفَهُ كَانَ مُؤْمِناً، وَمَنْ أَنْكَرَهُ كَانَ كَافِراً؛ وَإنَّ سَلْمَانَ مِنَّا أَهْلَ البَيْتِ. «رجال‌ الكشّي‌ّ» ص‌ 10.

 وبالطبع‌ فإنَّ هذه‌ الدرجات‌ والمقامات‌ قد كانت‌ له‌ بسبب‌ عظمة‌ نفسه‌ وصبره‌ وتحمّله‌ في‌ سبيل‌ الله‌ وفي‌ ذات‌ الله‌، كما يتّضح‌ ذلك‌ من‌ قياسه‌ بأبي‌ ذرّ في‌ الرواية‌ السابقة‌.

 يروي‌ المجلسي‌ّ في‌ «بحار الانوار» ج‌ 6، ص‌ 748، طبعة‌ الكمباني‌ّ، و ج‌ 22، ص‌ 320، حديث‌ 8، الطبعة‌ الحروفيّة‌، الحيدريّة‌، عن‌ «عيون‌ أخبار الرضا»، عن‌ الدقّاق‌، عن‌ الصوفي‌ّ، عن‌ الروياني‌ّ، عن‌ عبد العظيم‌ الحسني‌ّ، عن‌ أبي‌ جعفر الثاني‌ (الإمام محمّد التقي‌ّ)، عن‌ آبائه‌ علیهم‌ السلام‌ أ نَّه‌:

 قَالَ: دَعَا سَلْمَانُ أَبَا ذَرٍّ رَحْمَةُ اللَهِ علیهِمَا إلی‌ مَنْزِلِهِ فَقَدَّمَ إلیهِ رَغِيفَيْنِ، فَأَخَذَ أَبُوذَرٍّ الرَّغِيفَيْنِ يُقَلِّبُهُمَا؛ فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: يَا أَبَا ذَرٍّ لاِي‌ِّ شَي‌ءٍ تُقَلِّبُ هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ؟! قَالَ: خِفْتُ أَنْ لاَيَكُونَا نَضِيجَيْنِ. فَغَضِبَ سَلْمَانُ مِنْ ذَلِكَ غَضَباً شَدِيداً، ثُمَّ قَالَ: مَا أَجْرَأَكَ حَيْثُ تُقَلِّبُ هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ؟! فَوَ اللَهِ لَقَدْ عَمِلَ فِي‌ هَذَا الخُبْزِ المَاءُ الَّذِي‌ تَحْتَ العَرْشِ، وَعَمِلَتْ فِيهِ المَلاَئِكَةُ حَتَّي‌ أَلقَوْهُ إلی‌ الرِّيحِ، وَعَمِلَتْ فِيهِ الرِّيحُ حَتَّي‌ أَلْقَتْهُ إلی‌ السَّحَابِ، وَعَمِلَ فِيهِ السَّحَابُ حَتَّي‌ أَمْطَرَهُ إلی‌ الاَرْضِ، وَعَمِلَ فِيهِ الرَّعْدُ وَالمَلاَئِكَةُ حَتَّي‌ وَضَعُوهُ مَوَاضِعَهُ، وَعَمِلَتْ فِيهِ الاَرْضُ وَالخَشَبُ وَالحَدِيدُ وَالبَهَائِمُ وَالنَّارُ وَالحَطَبُ وَالمِلْحُ، وَمَا لاَأُحْصِيهِ أَكْثَرُ، فَكَيْفَ لَكَ أَنْ تَقُومَ بِهَذَا الشُّكْرِ؟! فَقَالَ أَبُوذَرٍّ: إلی‌ اللَهِ أَتُوبُ وَأَسْتَغْفِرُ اللَهَ مِمَّا أَحْدَثْتُ وَإلیكَ أَعْتَذِرُ مِمَّا كَرِهْتَ.

 قَالَ: وَدَعَا سَلْمَانُ أَبَاذَرٍّ رَحْمَةُ اللَهِ علیهِمَا ذَاتَ يَوْمٍ إلی‌ ضِيَافَةٍ فَقَدَّمَ إلیهِ مِنْ جِرَابِهِ كِسَراً يَابِسَةً وَبَلَّهَا مِنْ رَكْوَتِهِ؛ فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: مَا أَطْيَبَ هَذَا الخُبْزَ لَوْ كَانَ مَعَهُ مِلْحٌ! فَقَامَ سَلْمَانُ وَخَرَجَ فَرَهَنَ رَكْوَتَهُ بِمِلْحٍ وَحَمَلَهُ إلیهِ. فَجَعَلَ أَبُو ذَرٍّ يَأْكُلُ ذَلِكَ الخُبْزَ وَيَذُرُّ علیهِ ذَلِكَ المِلْحَ وَيَقُولُ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي‌ رَزَقَنَا هَذِهِ القَنَاعَةَ. فَقَالَ سَلْمَانُ: لَوْ كَانَتْ قَنَاعَةً لَمْتَكُنْ رَكْوَتِي‌ مَرْهُونَةً! «عيون‌ أخبار الرضا» ص‌ 215 و 216.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

کتاب ولایة الفقیه فی حکومة الاسلام / المجلد الثالث / القسم الثالث: فضیل بن عیاض، ولایة المؤمنین

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

      

الصفحة السابقة

خطبة‌ «نهج‌ البلاغة‌»: وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْفُرُوا فِي‌َّ بِرَسُولِ اللَهِ...

 يوجد في‌ بعض‌ الروايات‌ رموز من‌ هذا القبيل‌ ممّا قد بيّنه‌ الائمّة‌ الاطهار لبعض‌ خواصّهم‌ علی‌ أساس‌ ذلك‌ السير الذي‌ استلمه‌ كلّ واحد من‌ الائمّة‌ عن‌ الآخر وصولاً إلی‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌ ورسول‌ الله‌ صلّي‌الله‌ علیه‌ وآله‌.

 ورد في‌ « نهج‌ البلاغة‌ »:

 وَاللَهِ لَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْبِرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَخْرَجِهِ وَمَوْلِجِهِ وَجَمِيعِ شَأْنِهِ لَفَعَلْتُ! وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْفُرُوا فِي‌َّ بِرَسُولِاللَهِ صلَّی اللَهُ علیهِ وَآلِهِ. أَلاَ وَإنِّي‌ مُفْضِيهِ إلَی‌ الخَاصَّةِ مِمَّنْ يُؤْمَنُ ذَلِكَ مِنْهُ. وَالَّذِي‌ بَعَثَهُ بِالحَقِّ وَاصْطَفَاهُ عَلَیالخَلْقِ مَا أَنْطِقُ إلاَّ صَادِقاً. وَقَدْ عَهِدَ إلَی‌َّ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَبِمَهْلِكِ مَنْ يَهْلِكُ وَمَنْجَي‌ مَنْ يَنْجُو، وَمَآلِ هَذَا الاَمْرِ. وَمَا أَبْقَي‌ شَيْئاً يَمُرُّ عَلَیرَأْسِي‌ إلاَّ أَفْرَغَهُ فِي‌ أُذُنَي‌َّ وَأَفْضَي‌ بِهِ إلَی‌َّ ـ الخطبة‌. [1]

 أي‌ أ نِّي‌ لو شئت‌ لاخبرت‌ كلّ واحد منكم‌ بالطريق‌ الذي‌ جاء به‌ وبالطريق‌ الذي‌ يذهب‌ منه‌، وعن‌ مبدئه‌ ومنتهاه‌، وعن‌ جميع‌ شؤونه‌ وحالاته‌ وكيفيّاته‌ وموقعه‌ وظاهره‌ وباطنه‌.

 وخلاصة‌ الامر، عن‌ جميع‌ أفكاره‌ ونيّاته‌ وأُموره‌ المتغيّرة‌، لكنّي‌ أخاف‌ إن‌ أخبرتكم‌ بذلك‌ أن‌ تكفروا في‌ّ برسول‌ الله‌، أي‌ تدعوا رسول‌الله‌ جانباً وتقولوا إنَّ كلّ ما هنالك‌ فهو عند علی‌ّ، فإنَّ هذه‌ الاُمور التي‌ يُخبر بها علی‌ّ لم‌يخبر بها النبي‌ّ؛ وعلیه‌، فالاصل‌ هو علی‌ّ، والنبي‌ّ شخصيّة‌ لاحساب‌ لها!

 مع‌ أنَّ الامر ليس‌ كذلك‌، فكلّ ما لدي‌ّ هو من‌ رسول‌ الله‌، وأ نِّي‌ شعاع‌ من‌ النبي‌ّ وتلميذه‌، وقد كان‌ النبي‌ّ أُستاذي‌، لكنّه‌ لم‌ يكن‌ ليظهر أسراره‌، وأنا أيضاً لن‌ أُظهرها وإنَّما أقول‌: لو شئت‌ لاخبرت‌، لكن‌ هل‌ أُخبر بذلك‌؟ كلاَّ؛ فكذا النبي‌ّ لم‌ يخبر به‌ أيضاً؛ لا نَّكم‌ لا تمتلكون‌ القابليّة‌، فلو بيّنتُ لكم‌ شيئاً لاتّخذتموني‌ إلهاً ولانكرتم‌ رسول‌ الله‌ أيضاً.

 ألاَ وَإنِّي‌ مُفْضِيهِ إلَی‌ الخَاصَّةِ مِمَّنْ يُؤْمَنُ ذَلِكَ مِنْهُ. فاعلموا؛ أ نِّـي‌ إن‌ كنت‌ لاأُخبركم‌ فهذا لا يعني‌ أ نِّي‌ لا أُخبر أحداً علی‌ الإطلاق‌، بل‌ إنِّي‌ أُبيِّن‌ هذه‌ الاسرار والمطالب‌ للخواصّ المأمونين‌ الذين‌ لا يكفرون‌ في‌َّ برسول‌الله‌.

 هناك‌ أشخاص‌ معيّنون‌ من‌ الخواصّ ممّن‌ أطمئنُّ إلی‌ إعطائهم‌ هذه‌ المطالب‌ وإيصالها إلی‌ قلوبهم‌ وبيانها لهم‌ وإلقائها علیهم‌، لكنّي‌ لاأطمئنُّ إلیكم‌، عموماً.

 ماذا تريد أن‌ تُبيِّن‌ هذه‌ الرواية‌؟ إنَّها توضّح‌ أنَّ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌ كان‌ يمتلك‌ أسراراً لا يمتلك‌ الجميع‌ قابليّة‌ تحمّلها، وهو نفسه‌ يقول‌: إنَّي‌ لاأستطيع‌ أن‌ أبوح‌ لكم‌ بذلك‌، إذ إنِّي‌ بهذا أهدم‌ الشريعة‌، كما أ نِّي‌ في‌ نفس‌ الوقت‌ لا أستطيع‌ أن‌ أتجاهل‌ ذلك‌، لانَّ الهدف‌ من‌ أصل‌ بناء عالم‌ الخلقة‌ هو تربية‌ الإنسان‌ الكامل‌، وكمال‌ الإنسان‌ إنَّما يكون‌ بالعرفان‌ وإدراك‌ الاسرار، بل‌ يجب‌ أن‌ أُوصلها إلی‌ الخواصّ الذين‌ يؤمن‌ ذلك‌ منهم‌.

 الرجوع الي الفهرس

أبيات‌ مشهورة‌ للإمام‌ زين‌ العابدين‌ في‌ لزوم‌ كتمان‌ السرّ

 ثمّة‌ أشعار للإمام زين‌ العابدين‌ علیه‌ السلام‌، من‌ المسلّم‌ نسبتها إلیه‌، ذكرت‌ عنه‌ في‌ كتب‌ مختلفة‌، منها كتاب‌ « الوافي‌ » للمرحوم‌ الفيض‌ [2]، في‌ المقدّمة‌، ومنها «الاُصول‌ الاصيلة‌» [3]، وهو كتاب‌ مختصر للمحقّق‌ الفيض‌ أيضاً [4]. كما ذكرها المحقّق‌ الفيض‌ في‌ كتب‌ أُخري‌ مثل‌ «المحجّة‌ البيضاء» [5] و«الكلمات‌ المكنونة‌»[6]؛ وذكرها الآلوسي‌ّ في‌ تفسير « روح‌ المعاني‌ »[7]، والغزّإلی‌ّ والعلاّمة‌ الاميني‌ّ [8] أيضاً عنه‌ علیه‌ السلام‌.

 إنَّ نسبة‌ هذه‌ الاشعار إلی‌ الإمام زين‌ العابدين‌ علیه‌ السلام‌ مسلّمة‌ من‌ طريق‌ الشيعة‌ والسنّة‌ [9]، وهي‌ من‌ الاشعار المعروفة‌ والمشهورة‌، يقول‌ علیه‌ السلام‌:

 إنِّي‌ لاَكْتُمُ مِنْ عِلْمِي‌ جَوَاهِرَهُ                كَي لاَ يَرَي‌ الحَقَّ ذُو جَهْلٍ فَيُفْتِنَنَا

 يقول‌: إنّي‌ لاخفـي‌ تلك‌ الجواهر والنفائس‌ من‌ علمي‌ ولاأُبيّنها لكي‌ لايطّلع‌ علیها الاشخاص‌ الذين‌ لا يتمكّنون‌ من‌ استيعابها، إنَّ أفكاري‌ وعلمي‌ وجواهري‌ تلك‌ هي‌ عين‌ الحقّ، لكنّي‌ أُخفي‌ هذا الحقّ لكي‌ لايطّلع‌ علیه‌ رجل‌ جاهل‌، إذ لو اطلّع‌ علیه‌ فإنَّه‌ يُفتتن‌، ويوقعنا في‌ الفتنة‌ ويثير الفساد والمشاكل‌ والقيل‌ والقال‌، ويخرج‌ نفسه‌ من‌ الإيمان‌، ويسبب‌ الاختلاط‌ في‌ العالم‌، ويجلب‌ لنا المشاكل‌ والصعاب‌ ومشاقّ الاُمور بسبب‌ دعوتي‌ له‌ إلی‌ الحقّ، والحقّ يعني‌ ذلك‌ العلم‌ الحقّ الحقيقي‌ّ، أو التوحيدي‌ّ الواقعي‌ّ الذي‌ لا يستطيع‌ تحمّله‌.

 إنَّ غالب‌ الناس‌ من‌ ذوي‌ الجهل‌ وهم‌ محرومون‌ من‌ هذه‌ المعاني‌ الحقّة‌، ولاطريق‌ لإيصال‌ ذلك‌ لهم‌، لا نَّهم‌ لا يستطيعون‌ إدراكها. ولذا، يكون‌ اطّلاعهم‌ علی‌ هذه‌ الاُمور سبباً للفساد والضياع‌.

 وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي‌ هَذَا أَبُو حَسَنٍ                   إلَی الحُسَيْنِ وَأَوْصَي قَبْلَهُ الحَسَنَا

 وإخفائي‌ لجواهر العلم‌ أمر لا يختصّ بي‌، إذ قد قام‌ بذلك‌ قبلي‌ أبو الحسن‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌، فهو أيضاً لم‌ يبيّن‌ ذلك‌ لاحد، وأعطي‌ ذلك‌ العلم‌ إلی‌ أبي‌ فقط‌، وكان‌ قد أوصي‌ به‌ قبل‌ ذلك‌ إلی‌ عمّي‌ الحسن‌ المجتبي‌ علیه‌ السلام‌، وأوصاه‌ أيضاً بإخفاء هذا العلم‌ وعدم‌ إيصاله‌ إلی‌ أحد.

 وَرُبَّ جَوْهَرِ عِلْمٍ لَوْ أَبُوحُ              بِهِ لَقِيلَ لِي‌ أَنْتَ مِمَّنْ يَعْبُدُ الوَثَنَا

 وَلاَسْتَحَلَّ رِجَالٌ مُسْلِمُونَ دَمِي‌              يَرَوْنَ أَقْبَحَ مَا يَأْتُونَهُ حَسَنَا

 المراد بجوهر العلم‌ هو العلوم‌ الاصيلة‌ والواقعيّة‌ وغير القابلة‌ للتشكيك‌ والتي‌ تعدّ جميع‌ العلوم‌ في‌ مقابلها اعتباريّة‌ وباطلة‌ ومجازاً، بينما يكون‌ ذلك‌ العلم‌ هو العلم‌ الجوهر، أي‌ العلم‌ الاصيل‌ بالواقع‌ والحقيقة‌. فكم‌ من‌ العلوم‌ التي‌ لو أظهرتها وبيّنتها لاتُّهمتُ بعبادة‌ الاوثان‌ والخروج‌ عن‌ الإسلام! حيث‌ يُتصوّر أن‌ ليس‌ للمسلم‌ مثل‌ هذه‌ العقيدة‌، وما هي‌ إلاّ عقيدة‌ عبدة‌ الاوثان‌! وعندها يستحلّ جماعة‌ من‌ المسلمين‌ دمي‌ ويقتلونني‌، إذ يرونني‌ كافراً بسبب‌ ما أقوله‌!

 وهؤلاء المسلمون‌ يرون‌ قتلي‌ ـالذي‌ هو أسوأ الاعمال‌ـ حسناً، ويقولون‌: إنَّ هذا الرجل‌ كافر ومشرك‌ وعابد للصنم‌؛ فيجب‌ قتله‌ وسفك‌ دمه‌، يجب‌ إزالة‌ هذا القائل‌ بوحدة‌ الوجود عن‌ وجه‌ الارض‌، وتطهير الارض‌ من‌ لوث‌ وجوده‌ لكي‌ لا يظهر بين‌ المسلمين‌ نظير له‌، فيفعلون‌ ذلك‌ العمل‌ مع‌ كونه‌: أَقْبَحَ مَا يَأْتُونَهُ.

 ثمة‌ رجل‌ في‌ عالم‌ الوجود، وهو أنا الإمام علی‌ّ بن‌ الحسين‌، وجميع‌ تلك‌ الحقائق‌ قد أُعطيت‌ لي‌، وقتلي‌ من‌ أسوأ الاعمال‌، مع‌ أنَّ الناس‌ يرونه‌ حسناً، وحتّي‌ أنَّ البعض‌ يأتون‌ بهذا العمل‌ قربة‌ إلی‌ الله‌ بتوهّم‌ أ نَّهم‌ يقومون‌ بإزالة‌ أساس‌ الشرك‌ من‌ الدنيا!

 وعلی‌ هذا فما الذي‌ يجب‌ فعله‌؟ إنِّي‌ لاَكْتُمُ مِنْ عِلْمِي‌ جَوَاهِرَهُ؛ عَلَیأن‌ أكتم‌ جواهر علمي‌ ( العلوم‌ ذات‌ الجوهر، لا كلّ علم‌ ) فإنّي‌ أُبيّن‌ جميع‌ المطالب‌ للناس‌. أُبيّن‌ في‌ هذه‌ الادعية‌ مطالب‌ كثيرة‌ وأتلو الصحيفة‌ السجّاديّة‌ وأُجيب‌ علی‌ أسئلة‌ الناس‌، لكنّي‌ لا أُبيّن‌ تلك‌ الاسرار والدقائق‌ واللطائف‌ إلاّ لاُولئك‌ الخواصّ من‌ الذين‌: يُؤْمَنُ ذَلِكَ مِنْهُ.

 الرجوع الي الفهرس

كان‌ الائمّة‌ علیهم‌ السلام‌ يبيّنون‌ الاسرار لخواصّ أصحابهم‌

 وهكذا كان‌ الامر بالنسبة‌ للإمام الباقر علیه‌ السلام‌ مع‌ بعض‌ خواصّ أصحابه‌، وبالنسبة‌ للإمام السجّاد علیه‌ السلام‌ مع‌ الإمام الباقر علیه‌ السلام‌، وعُمل‌ بذلك‌ من‌ بعده‌ بالنسبة‌ للإمام الصادق‌ علیه‌ السلام‌، فقد كان‌ لهم‌ أيضاً أصحاب‌ خاصّة‌ يبيّنون‌ لهم‌ من‌ تلك‌ الاسرار ويؤكّدون‌ علیهم‌ بعدم‌ إبرازها، فإنَّ هذه‌ الاسرار تختصّ بهم‌. نعم‌؛ يسمح‌ لهم‌ ببيان‌ ذلك‌ في‌ المورد الذي‌ يرون‌ في‌ شخص‌ ما قابليّة‌ لها، وإلاّ فلا.

 وقد كان‌ هؤلاء الاشخاص‌ أُناساً اعتياديّين‌ جدّاً، وكثيراً ما لم‌يكونوا من‌ أهل‌ الكتب‌ والتصنيف‌ أو مشايخ‌ الإجازة‌، وإنَّما كانوا سقّاء في‌ البيت‌ أو حاجباً له‌، لكنّهم‌ كانوا طاهرين‌، ومن‌ أهل‌ العشق‌ وإحياء الليل‌، وخإلین‌ من‌ الاهواء، وكانوا يسمعون‌ أُموراً من‌ الائمّة‌ علیهم‌ السلام‌ فيستوعبونها ويعملون‌ بها؛ لذا، فقد ارتفعت‌ الحجب‌ عن‌ أعينهم‌ واتّصلوا بحقيقة‌ التوحيد، مع‌ أ نَّهم‌ كانوا ـمثلاًـ يأتون‌ الإمام بالماء ويمارسون‌ عمل‌ السقاية‌، ولم‌يكن‌ يطّلع‌ علی‌ الامر أحد.

 يأتي‌ كبار المشائخ‌ وصغارهم‌ ويملؤون‌ بيت‌ الإمام، آلاف‌ من‌ الطلاّب‌ يأتون‌ من‌ البلدان‌ المترامية‌ ويكتبون‌ الحديث‌ دون‌ أن‌ يعرفوا مَن‌ هو ذلك‌ السقّاء في‌ بيت‌ الإمام، ذلك‌ الشخص‌ الذي‌ يأمرونه‌ وينهونه‌، وقد يؤنّبونه‌ فيما لو تأخّر قليلاً في‌ جلب‌ الماء! فلم‌ يعرفوا أ نَّه‌ ممّن‌ قد تجاوز المجرّات‌ وبات‌ يعيش‌ في‌ أعلی‌ علیين‌، وأنَّ علی‌ العديد من‌ أمثالهم‌ أن‌ يستفيدوا من‌ علومه‌.

 لكنّ ما يؤسف‌ له‌ كثيراً هو تكبّر الإنسان‌ الذي‌ لا يستطيع‌ التنازل‌ ولاالتصديق‌ بأنَّ ذلك‌ السقّاء في‌ بيت‌ الإمام علیه‌ السلام‌ الذي‌ يذهب‌ ويملا جرّة‌ الماء يمتلك‌ مقاماً كهذا.

 وكم‌ من‌ هؤلاء السقّائين‌ أيضاً ممّن‌ يأتوننا بالماء أو يكنسون‌ بيوتنا مع‌ أنَّ حالاتهم‌ النفسانيّة‌ والروحيّة‌ وملكاتهم‌ ومعتقداتهم‌ مشابهة‌ ل بايزيد البسطامي‌ّ و معروف‌ الكرخي‌ّ.

 كان‌ بايزيد البسطامي‌ّ ومعروف‌ الكرخي‌ّ من‌ هؤلاء الاشخاص‌، من‌ الذين‌ عدّهم‌ المحدِّث‌ العظيم‌ والخرّيت‌ الجليل‌ الحاجّ الميرزا حسين‌ النوري‌ّ رحمة‌الله‌ علیه‌ من‌ الصوفيّين‌ واعتبرهم‌ من‌ زمرة‌ أهل‌ البيت‌، ويقول‌: « كانت‌ لهم‌ تلفيقات‌ وتمويهات‌، وإنَّهم‌ جاؤوا إلی‌ الائمّة‌ علیهم‌ السلام‌ واستفادوا منهم‌ ثمّ خلطوا ذلك‌ بمزخرفاتهم‌ وتمويهاتهم‌ وخدعوا الناس‌ بألفاظ‌ مثل‌: الصَّحْو، والسُّكْر، والعشق‌، والوصل‌، والفراق‌، والمشاهدة‌، والإنّيّة‌، والجذبة‌. » [10]

 وتكون‌ النتيجة‌ أن‌ تمرّ القرون‌ بعد القرون‌، ويمضي‌ أكثر من‌ ألف‌ سنة‌ دون‌ أن‌ تصل‌ يد الإنسان‌ إلی‌ ذرّة‌ من‌ مدارج‌ بايزيد أو معروف‌ تلك‌.

 لماذا نقوم‌ بذلك‌؟ لماذا نعزل‌ أمر هؤلاء بهذا النحو؟ لِمَ لا نُقنِع‌ أنفسنا بأ نَّه‌ من‌ الممكن‌ لشابّ أن‌ يأتي‌ فيخدم‌ في‌ بيت‌ الإمام الصادق‌ أو الرضا علیهما السلام‌ فينال‌ مقامات‌ عإلیة‌ ويصير من‌ خواصّهم‌؟

 يقول‌ العلاّمة‌ الحلّي‌ّ رضوان‌ الله‌ علیه‌ في‌ « شرح‌ التجريد » في‌ باب‌ الإمامة‌، في‌ شرح‌ كلام‌ الخواجة‌ نصير الدين‌ الطوسي‌ّ رحمه‌ الله‌ «وَتَمَيُّزُهُ بِالكَمالاتِ النَّفْسانيَّةِ وَالبَدَنِيَّةِ وَالخارِجِيَّة‌»، ويتوسّع‌ في‌ الشرح‌ حتّي‌ يصل‌ حيث‌ يقول‌: وَقَدْ نَشَرُوا مِنَ العِلْمِ وَالفَضْلِ وَالزُّهْدِ وَالتَّرْكِ لِلدُّنْيا شَيْئاً عَظيماً، حَتَّي‌ أَنَّ الفُضَلاَءَ مِنَ المَشايخِ كَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِخِدْمَتِهمْ علیهِمُ السَّلاَمُ. فَأَبُويَزِيدَ البَسْطَامِي‌ُّ كَانَ يَفْتَخِرُ بِأَ نَّهُ يَسْقِي‌ المَاءَ لِدَارِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ علیهِ السَّلاَمُ؛ وَمَعْرُوفٌ الكَرْخِي‌ُّ أسْلَمَ عَلَیيَدَي‌ِ الرِّضَا علیهِ السَّلاَمُ، وَكَانَ بَوَّابَ دَارِهِ إلَی‌ أَنْ مَاتَ؛ وَكَانَ أَكْثَرُ الفُضَلاَءِ يَفْتَخِرُونَ بِالاِنْتِسَابِ إلَیهِمْ فِي‌ العِلْمِ...إلی‌ آخره‌. [11]

 ولقد رأيت‌ نفس‌ هذه‌ المطلب‌ في‌ عبارات‌ الملاّ محمّد تقي‌ ( المجلسي‌ّالاوّل‌) في‌ « رسالة‌ تشويق‌ السالكين‌ » التي‌ كتبها حول‌ لزوم‌ التصوّف‌ والسلوك‌، وأثبت‌ أنَّ حقيقة‌ التصوّف‌ والتشيّع‌ شي‌ء واحد؛ فقد نقل‌ عين‌ هذا المطلب‌ عن‌ العلاّمة‌ الحلّي‌ّ في‌ « شرح‌ التجريد ». [12]

 الرجوع الي الفهرس

إمكان‌ كون‌ كتاب‌ «مصباح‌ الشريعة‌» من‌ تإلیف‌ فضيل‌ بن‌ عياض‌

كان‌ فُضيل‌ من‌ أعاظم‌ الصوفيّين‌ الحقيقيّين‌ ووثّقه‌ النجاشي‌ّ والشيخ‌

 كان‌ فُضَيل‌ بن‌ عياض‌ من‌ خواصّ أصحاب‌ الإمام جعفر الصادق‌ علیه‌ السلام‌. فقد كان‌ في‌ أوّل‌ أمره‌ من‌ اللصوص‌ وقطّاع‌ الطرق‌، وكان‌ يقطع‌ الطريق‌ في‌ نواحي‌ خراسان‌ بين‌ أبيوَرْد وسرخس‌، وقصّته‌ طويلة‌، فلقد وقعت‌ آية‌ من‌ القرآن‌ في‌ قلبه‌ وأحدثت‌ فيه‌ انقلاباً، فسار نحو المدينة‌ إلی‌ الإمام الصادق‌ علیه‌ السلام‌ وصار من‌ خواصّ أصحابه‌، ومن‌ الزهّاد والصوفيّين‌ بالمعني‌ الحقيقي‌ّ، وذا سيرة‌ طاهرة‌ ومُعرِضاً عن‌ الدنيا، من‌ ذوي‌ المقامات‌ والدرجات‌، بحيث‌ يذكره‌ الجميع‌ شيعة‌ وسنّة‌ بالوثاقة‌ والجلالة‌.

 وعدّة‌ النجاشي‌ّ في‌ « الرجال‌ » من‌ الموثّقين‌ ومدحه‌، كما وثّقه‌ المرحوم‌ المحدّث‌ القمّي‌ّ في‌ « سفينة‌ البحار »، وقال‌ بعد شرح‌ حاله‌: ارتحل‌ عن‌ الدنيا في‌ يوم‌ عاشوراء سنة‌ مائة‌ وسبع‌ وثمانين‌ في‌ مكّة‌.

 جاء فضيل‌ إلی‌ الإمام الصادق‌ علیه‌ السلام‌ وصار من‌ خاصّة‌ أصحابه‌ وأصحاب‌ سرّه‌، ويذكره‌ الجميع‌ بالعدالة‌ والوثاقة‌، إلی‌ أن‌ استقرّ أخيراً في‌ حرم‌ الامن‌ والامان‌ الإلهي‌ّ بعد أن‌ أفني‌ عمره‌ بالعرفان‌ الإلهي‌ّ والعبور من‌ المهالك‌ النفسيّة‌ والمهلكات‌.

 والآن‌؛ بعد أن‌ وصلنا بالمطلب‌ إلی‌ هنا، نستنتج‌: أ نَّه‌ من‌ المحتمل‌ جدّاً أن‌ يكون‌ كتاب‌ « مصباح‌ الشريعة‌ » الذي‌ يشتمل‌ من‌ أوّله‌ إلی‌ آخره‌ علی‌ المطالب‌ العإلیة‌ والراقية‌ والدقيقة‌ ويدلّنا علی‌ طريق‌ النجاة‌، ويشير إلی‌ الرموز العرفانيّة‌ والنفسانيّة‌، والمبوّب‌ في‌ مائة‌ باب‌ من‌ الابواب‌ المختلفة‌ ( مثل‌ باب‌ الخشية‌، والخضوع‌، والصلاة‌، والتكبير، وغيرها ) أن‌ يكون‌ من‌ كلمات‌ الإمام الصادق‌ علیه‌ السلام‌ وقد علّمه‌ لمثل‌ فُضيل‌، وقام‌ فُضيل‌ بكتابته‌ باسم‌ « قَالَ الصَّادِقُ » من‌ غير أن‌ يذكر اسمه‌ هو.

 وقد أُ لِّفت‌ الكثير من‌ الكتب‌ في‌ ذلك‌ الزمان‌ من‌ غير أن‌ يذكر مؤلّفوها أسماءهم‌، وامتنع‌ بعض‌ الاجلاّء عن‌ ذكر اسمه‌ لمعالجة‌ حبّ الظهور، ولذا يبقي‌ الكتاب‌ من‌ دون‌ هويّة‌، وهذه‌ خسارة‌ أيضاً بالنسبة‌ للاجيال‌ القادمة‌، حيث‌ سيواجهون‌ المشاكل‌ في‌ سبيل‌ معرفة‌ هويّة‌ الكتاب‌.

 فلابدّ من‌ ذكر اسم‌ المؤلّف‌ علی‌ الكتاب‌، لا نَّه‌ قد تطغي‌ الشهرة‌ علی‌ كتاب‌ ما إلیوم‌ مع‌ معرفة‌ مؤلّفه‌ من‌ خلال‌ بعض‌ القرائن‌، ولكن‌ ما أن‌ يمضي‌ علی‌ الكتاب‌ قرن‌ من‌ الزمان‌، فسيصبح‌ من‌ الكتب‌ المجهولة‌ المؤلّف‌ ويسقط‌ عن‌ درجة‌ الاعتبار، لانَّ اسم‌ المؤلّف‌ لم‌ يكن‌ مكتوباً علیه‌.

 ولذا، نري‌: أنَّ بعض‌ الاجلّة‌ من‌ العلماء، مثل‌ السيّد ابن‌ طاووس‌ والعلاّمة‌ الحلّي‌ّ والصدوق‌ كانوا يكتبون‌ أسماءهم‌ علی‌ كتبهم‌ باستمرار؛ ومن‌ الاجزاء الثمانية‌ للعلوم‌: بيان‌ اسم‌ المؤلّف‌ والمصنّف‌؛ فيشخّص‌ وضعه‌ ومستواه‌ فيما لو كان‌ قد حُذف‌ اسمه‌ بواسطة‌ خصوصيّاته‌ وأحواله‌ التي‌ تتحصّل‌ من‌ كتب‌ الرجال‌، ويشخّص‌ وضع‌ كتابه‌ أيضاً ودرجة‌ اعتباره‌.

 لكنَّ البعض‌ فيما مضي‌ لم‌ يكونوا يقومون‌ بذلك‌، ومن‌ هنا صارت‌ هناك‌ كتب‌ مجهولة‌ المؤلّف‌ وبعد مضي‌ قرن‌ صار الناس‌ يبحثون‌ عن‌ مؤلّفيها دون‌ جدوي‌.

 وعلیه‌، فلا يبعد أبداً أن‌ يكون‌ « مصباح‌ الشريعة‌ » من‌ إملاء الإمام الصادق‌ علیه‌ السلام‌، وقام‌ الفُضيل‌ أو أمثاله‌ بكتابته‌، وخصوصاً فُضيل‌ الحائز علی‌ الخصوصيّات‌ والمقامات‌ والدرجات‌ التي‌ ذُكرت‌ عنه‌.

 يقول‌ المرحوم‌ النوري‌ّ: إنَّ لفضيل‌ نسخة‌ عن‌ الإمام الصادق‌ علیه‌ السلام‌، وهو من‌ ضمن‌ أُولئك‌ الاشخاص‌ الستّة‌ الذين‌ ذكر النجاشي‌ّ والشيخ‌ أن‌ لهم‌ نسخاً عن‌ الصادق‌ علیه‌ السلام‌، دون‌ أن‌ تصل‌ هذه‌ النسخ‌ إلی‌ أيدينا. فمن‌ الممكن‌ أن‌ يكون‌ كتاب‌ « مصباح‌ الشريعة‌ » هو تلك‌ النسخة‌ التي‌ كتبها فُضيل‌.

 وبالطبع‌، وكما بيّنا، فلا يمكن‌ أن‌ يكون‌ كتاب‌ « مصباح‌ الشريعة‌ » بقلم‌ نفس‌ الإمام، لما ذُكر في‌ صدر الكتاب‌، قوله‌: « الإمام الحاذق‌... جعفربن‌ محمّدالصادق‌» وفي‌ صدر أبوابه‌ أيضاً: « قال‌ الصادق‌ علیه‌ السلام‌ » ولكن‌، ما الإشكال‌ في‌ الالتزام‌ بـ: أنَّ إملاء وإنشاء الكتاب‌ من‌ الإمام الصادق‌ علیه‌ السلام‌ علی‌ شخص‌ آخر قد قام‌ بكتابته‌.

 وكما يقول‌ العلاّمة‌ النوري‌ّ رحمه‌ الله‌، فإنَّ فُضيل‌ كان‌ يشارك‌ في‌ المجالس‌ الخاصّة‌ للإمام علیه‌ السلام‌، وكان‌ يستفيد من‌ مواعظه‌ ونصائحه‌؛ فما الإشكال‌ فيما لو قام‌ بتبويب‌ تلك‌ المواعظ‌ والنصائح‌ بنفسه‌ ونسبها للإمام الصادق‌ علیه‌ السلام‌ باعتبار أنَّ الكلام‌ هو كلام‌ الإمام علیه‌ السلام‌.

 وكونه‌ قد أورد بعض‌ المطالب‌ بعنوان‌: « قالَ سُفيانُ بنُ عُيَيْنَة‌ أو قَالَ رَبِيعُبنُ خُثَيْم‌ » لا يُنافي‌ كونه‌ من‌ تإلیفه‌ ولم‌ يكن‌ من‌ الإمام الصادق‌ علیه‌ السلام‌، بل‌ نقل‌ المطالب‌ بشكل‌ عامّ عن‌ الإمام الصادق‌ علیه‌ السلام‌؛ غاية‌ الامر، أ نَّه‌ يذكر أحياناً مطلباً من‌ عنده‌ كتأييد بعنوان‌: « قال‌ فلان‌ »، وهذا ممّا لاإشكال‌ فيه‌.

 وعلی‌ كلّ تقدير، فحيث‌ إنَّ فُضيل‌ رجل‌ جليل‌ ومن‌ أهل‌ الوثوق‌ وجميع‌ العلماء قد عرفوه‌ بالوثاقة‌، فلا يُحتمل‌ في‌ حقّه‌ الكذب‌ والتزوير والتمويه‌ أبداً. فإذا كان‌ هذا الكتاب‌ من‌ فُضيل‌ فإنَّ تلك‌ المطالب‌ التي‌ نقلها من‌ سُفيان‌ وأمثاله‌ تكون‌ من‌ مطالبه‌ هو، لا حكاية‌ عن‌ الإمام الصادق‌ علیه‌ السلام‌. وهذا لا ينافي‌ مع‌ نسبة‌ الكتاب‌ للإمام، لانَّ موارد وعبارات‌ غير الإمام مشخّصة‌.

 بناءً علی‌ هذا، يمكننا القول‌: من‌ الممكن‌ أن‌ لا يكون‌ هذا الكتاب‌ قد كُتب‌ في‌ زمان‌ الإمام علیه‌ السلام‌، بل‌ كُتب‌ بعده‌، لانَّ فُضيل‌ قد عاش‌ حوإلی‌ أربعين‌ سنة‌ بعد الإمام الصادق‌ علیه‌ السلام‌. وتوجد بين‌ سنتي‌ 148 ـ حيث‌ توفّي‌ الإمام ـ و187، 39 سنة‌، فقام‌ خلال‌ هذه‌ المدّة‌ بتتميم‌ كلمات‌ الإمام الصادق‌ علیه‌ السلام‌ التي‌ كتبها سابقاً، مع‌ ضمّ بعض‌ الاُمور والعبارات‌ عن‌ الآخرين‌، وسلّمها بصورة‌ هذا الكتاب‌ إلی‌ أُولئك‌ الخواصّ من‌ الاصحاب‌، لكي‌ يأخذوها ويعملوا بها ويصلوا إلی‌ حقائقها.

 ويكون‌ محصّل‌ بحثنا علی‌ هذا النحو: لا يمكن‌ أن‌ ننسب‌ هذا الكتاب‌ تحقيقاً وبشكل‌ جازم‌ للإمام الصادق‌ علیه‌ السلام‌، لا نَّنا لانمتلك‌ علماً وجدانيّاً بذلك‌، ومن‌ جهة‌ أُخري‌ أيضاً لا نستطيع‌ أن‌ ننفيه‌ عن‌ الإمام الصادق‌ ولو بواسطة‌ فُضيل‌، لا نَّنا لا نمتلك‌ دليلاً علی‌ النفي‌، لكن‌ حيث‌ إنَّ مطالبه‌ عإلیة‌ جدّاً ونفيسة‌ وأخلاقيّة‌، وبشكل‌ عامّ فهذه‌ المطالب‌ العإلیة‌ لايمكن‌ بيانها بهذه‌ اللطافة‌ إلاّ من‌ قبل‌ معدن‌ النبوّة‌ ( لانَّ قائلها يجب‌ أن‌ يكون‌ شخصاً عارفاً وفقيهاً وشيعيّاً إماميّاً بشكل‌ قاطع‌ ) فعلی‌ هذا، يمكننا العمل‌ به‌؛ وهذا الكتاب‌ أيضاً له‌ حجّيّة‌ بهذه‌ الحدود. كما أنَّ السيّد ابن‌ طاووس‌ رحمة‌الله‌ علیه‌، وكذلك‌ الشهيد الثاني‌، والكفعمي‌ّ، والمجلسي‌ّ الاوّل‌، وابن‌ فهد، والسيّد القزويني‌ّ أُستاذ بحر العلوم‌، والحاجّ المولي‌ مهدي‌ النراقي‌ّ، والمحقّق‌ الفيض‌ الكاشاني‌ّ، وجمع‌ آخر من‌ الاجلّة‌ قد اعتبروا هذا الكتاب‌ عن‌ الإمام الصادق‌ علیه‌ السلام‌، ونقلوا من‌ رواياته‌ عنه‌ علیه‌ السلام‌. وعُدَّ من‌ أفضل‌ الكتب‌ في‌ السير والسلوك‌ والاخلاق‌.

 الرجوع الي الفهرس

يشترط‌ في‌ الإفتاء إلیقين‌ ونور الباطن‌ إضافة‌ إلی‌ الاجتهاد الظاهري‌ّ

يجب‌ أن‌ تكون‌ الفتوي‌ معاينة‌

 وعلی‌ هذا الاساس‌ يتّضح‌ وزان‌ وموقع‌ الرواية‌ التي‌ كانت‌ شاهداً لنا ( التي‌ أوردنا البحث‌ في‌ سند « مصباح‌ الشريعة‌ » من‌ أجل‌ إثبات‌ سندها ) وهي‌:

 قَالَ الصَّادِقُ علیهِ السَّلاَمُ: لاَ تَحِلُّ الفُتْيَا لِمَنْ لاَيَسْتَفْتِي‌ مِنَ اللَهِ بِصَفَاءِ سِرِّهِ، وَإخْلاَصِ عَمَلِهِ وَعَلاَنِيَتِهِ، وَبُرهَانٍ مِنْ رِبِّهِ فِي‌ كُلِّ حَالٍ.

 إنَّ هذا المطلب‌ راقٍ جدّاً، وإن‌ كان‌ المرحوم‌ المجلسي‌ّ رحمه‌ الله‌ قد فسَّر جملة‌: وَمَنْ حَكَمَ بِخَبَرٍ بِلاَ مُعَايَنَةٍ فَهُوَ جَاهِلٌ مَأْخُوذٌ بِجَهْلِهِ وَمَأْثُومٌ بِحُكْمِهِ بهذا النحو:

 يحكم‌ المفتي‌ ويفتي‌ من‌ دون‌ أن‌ يفهم‌ معني‌ الخبر ويعلم‌ وجه‌ صدوره‌ ومن‌ دون‌ أن‌ يكون‌ عارفاً بوجه‌ جمع‌ هذا الخبر مع‌ الاخبار الاُخري‌ في‌ صورة‌ المخالفة‌ والتعارض‌ من‌ أي‌ّ جهة‌ كانت‌. [13]

 لكنَّ الرواية‌ في‌ مقام‌ بيان‌ مطلب‌ آخر، فهي‌ تريد أن‌ تقول‌: إذا كان‌ المُفْتِي‌ مطّلعاً علی‌ الاُمور الظاهريّة‌ فقط‌، وعارفاً بموارد التعادل‌ والتراجيح‌ بشكل‌ كامل‌، وقادراً علی‌ تشخيص‌ موارد التقيّة‌ من‌ غيرها بشكل‌ جيّد، إضافة‌ إلی‌ فهمه‌ كلمات‌ الائمّة‌ علیهم‌ السلام‌ بشكل‌ جيّد أيضاً، أي‌ أ نَّه‌ مسلّط‌ علی‌ العلوم‌ الاصطلاحيّة‌ الظاهريّة‌ بشكل‌ كامل‌؛ فهذا أيضاً لايكفي‌.

 فالمُفْتِي‌ يحتاج‌ إلی‌ شي‌ء آخر، وهو أن‌ يستفتي‌ من‌ قلبه‌، ويسأل‌ الله‌ تعإلی‌ عن‌ صحّة‌ هذا المطلب‌ وعدمه‌، ويجد في‌ قلبه‌ أنَّ الامر كذلك‌، فيطمئنّ ويخرج‌ من‌ الحيرة‌ والشكّ، وعندما يحصل‌ ذلك‌ المطلب‌ أيضاً يكون‌ عين‌ الشريعة‌ ولايتجاوزها.

 أي‌ إضافة‌ إلی‌ وجوب‌ كون‌ المصداق‌ الحقيقي‌ّ لـ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ قَدْ رَوَي‌ حَدِيثَنَا وَنَظَرَ فِي‌ حَلاَلِنَا وَحَرَامِنَا وَعَرَفَ أَحْكَامَنَا، ووجوب‌ كونه‌ مطّلعاً علی‌ العلوم‌ الاصطلاحيّة‌ الظاهريّة‌ والقرآن‌ أيضاً، لكي‌ يتمكّن‌ من‌ الإجابة‌ والدفاع‌ عن‌ فتواه‌ بأدلّة‌ القرآن‌ والسنّة‌ الصحيحة‌، بالإضافة‌ إلی‌ ذلك‌ يجب‌ أن‌ يستفتي‌ الله‌ في‌ قلبه‌، ويسأل‌ قلبه‌ وضميره‌ ويُلهم‌ في‌ قلبه‌، ويتّضح‌ له‌ من‌ عالم‌ الغيب‌ أنَّ الامر بهذا النحو، فهذا يسمّي‌: صَفَاءُ السِّرِّ.

 وهذا الامر مهمّ جدّاً، فيجب‌ علی‌ الإنسان‌ أن‌ يصل‌ إلی‌ الاطمئنان‌ وإلیقين‌ عند إقدامه‌ علی‌ أي‌ّ عمل‌. فالإفتاء وانطلاقاً من‌ الروايات‌ فقط‌، بأن‌ يضع‌ الإنسان‌ الروايات‌ المتعارضة‌ إلی‌ جانب‌ بعضها ثمّ يختار أحد المتعارضين‌ من‌ خلال‌ قاعدة‌ التعادل‌ والتراجيح‌ أو قاعدة‌ العامّ والخاصّ ومعرفة‌ الناسخ‌ والمنسوخ‌ وأمثال‌ ذلك‌، أو يتوصّل‌ إلی‌ فتوي‌ ونظريّة‌ ما بواسطة‌ ترجيح‌ بعض‌ الروايات‌ علی‌ بعضها الآخر بمرجّحات‌ من‌ باب‌ التزاحم‌، ويدّعي‌ قاطعاً بأنَّ المطلب‌ بهذا النحو ( مع‌ أ نَّه‌ لا يكون‌ قادراً علی‌ الخروج‌ من‌ عهدة‌ ذلك‌، ولا يستطيع‌ أن‌ يُقسم‌ علیه‌ أيضاً ) فالفتوي‌ بهذا الشكل‌ أمر غيرصحيح‌، وهو بمجرّده‌ لا يكفي‌، وإنَّما علی‌ المفتي‌ أن‌ يفتي‌ عن‌ اطمئنان‌، وأن‌ تكون‌ تلك‌ الفتوي‌ توأماً مع‌ مدركاته‌ القلبيّة‌ والسرّيّة‌ إضافة‌ إلی‌ مدركاته‌ الفكريّة‌. ولذا، لم‌ يكن‌ السيّد ابن‌ طاووس‌ يفتي‌، وكان‌ يقول‌: إنّي‌ عاجز عن‌ أمر نفسي‌ فكيف‌ أقوم‌ بأُمور الناس‌.

 ويقول‌ في‌ كتاب‌ « كشف‌ المحجّة‌ » لابنيه‌ ( محمّد وعلی‌ّ ) اللذين‌ كانا طفلين‌ صغيرين‌، وقد كتب‌ لهما هذا الكتاب‌ علی‌ نحو الوصيّة‌: لقد طُلب‌ منّي‌ الفتوي‌ لكنّي‌ لم‌ أقم‌ بذلك‌، وذلك‌ لا نّي‌ وصلت‌ إلی‌ هذه‌ الآية‌ من‌ القرآن‌ حيث‌ يقول‌ الله‌ لحبيبه‌ النبي‌ّ:

 وَلَوْ تَقَوَّلَ علینَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ * لاَخَذْنَا مِنْهُ بِإلیمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم‌ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَـ'جِزِينَ. [14]

 فعندما يهدّد الله‌ تعإلی‌ نبيّه‌ بآية‌ كهذه‌، فماذا بمقدوري‌ أن‌ أفعل‌؟! وكيف‌ سيعاملني‌ الله‌؟! الإفتاء هو نسبة‌ أمر إلی‌ الله‌، أي‌ ادّعاء أنَّ الله‌ يقول‌ كذا، والنبي‌ّ يقول‌ كذا، وما لم‌ يصل‌ الإنسان‌ إلی‌ مرحلة‌ إلیقين‌، فالامر مشكل‌ جدّاً.

 ولذا، فهناك‌ عبارة‌ في‌ « المصباح‌ » يقول‌ فيها: إنَّ الفتوي‌ يجب‌ أن‌ تكون‌ معاينة‌، أي‌ يري‌ أنَّ الله‌ تعإلی‌ يقول‌ ذلك‌. وعلی‌ هذا الاساس‌ كان‌ الائمّة‌ علیهم‌ السلام‌ يفتون‌، فقد كانوا بهذا النحو، والنبي‌ّ كان‌ كذلك‌ أيضاً، وأُولئك‌ الفقهاء الاصيلون‌ كالسيّد ابن‌ طاووس‌ كانوا بهذا النحو، أي‌ أ نَّهم‌ كانوا يفتون‌ بعد أن‌ يدركوا المطلب‌ بالمعاينة‌، وإلاّ امتنعوا عن‌ ذلك‌.

 وكان‌ هذا هو السبب‌ في‌ امتناع‌ السيّد ابن‌ طاووس‌ وبعض‌ الاجلّة‌ عن‌ الفتوي‌. ومعلوم‌ أنَّ أسباب‌ الامتناع‌ عن‌ الفتوي‌ كثيرة‌، وما ذُكِر واحد منها، فكان‌ هؤلاء يعملون‌ في‌ الكثير من‌ المسائل‌ التي‌ يمتلكون‌ إلیقين‌ اتّجاهها، بينما كانوا يمتنعون‌ عن‌ الإفتاء في‌ الكثير من‌ المسائل‌ التي‌ لم‌ تكن‌ يقينيّة‌ بالنسبة‌ لهم‌.

 اللَهُمَّ صَلِّ عَلَی مُحَمَّدٍ  وَآلِ مُحَمَّد

 الرجوع الي الفهرس

 

این مورد را ارزیابی کنید
(0 رای‌ها)

پیام هفته

تحمیل نظر خویش بر آگاهان
قرآن : ... ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ کُونُوا عِباداً لي‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... (سوره نحل، آیه 52)ترجمه: هیچ کس (حتی پیامبر) حق ندارد به مردم بگوید به جای خدا مرا عبادت کنید.حدیث: روی الحلبی قلتُ لاَبی عبدالله علیه السلام ما أدنى ما یکون به العبد کافراً ؟ قال: « أن یبتدع به شیئاً فیتولى علیه ویتبرأ ممّن خالفه (معانی الاخبار ، ص 393)ترجمه: ... حلبی روایت می کند که از امام صادق (ع) پرسیدم : کمترین سبب کافر شدن انسان چیست؟ فرمودند : این‌که بدعتی بگذارد و از آن بدعت جانبداری کند و از هر کس با او مخالفت کند روی برگرداند و آنان را متهم و منزوی سازد.

ادامه مطلب

موسسه صراط مبین

نشانی : ایران - قم
صندوق پستی: 1516-37195
تلفن: 5-32906404 25 98+
پست الکترونیکی: این آدرس ایمیل توسط spambots حفاظت می شود. برای دیدن شما نیاز به جاوا اسکریپت دارید