قسمة10

و قد تعرّض العلّامة قدّس سرّه لهذه المسألة في كثير من كتبه:

                       

ألف: فقال في كتاب الجهاد من القواعد- في ذكر المطلب الخامس في أحكام البغاة-: كلّ من خرج علی إمام عادل فهو باغ ... و لا تملك أموالهم الغائبة و إن كانت ممّا تنقل و تحوّل، و في قسمة ما حواه العسكر بين الغانمين قولان أقربهما المنع «1».

ب: و قال في كتاب الجهاد من الإرشاد- في ذكر المطلب الثاني في أحكام أهل البغي-: كلّ من خرج علی إمام عادل وجب قتاله علی من يستنهضه الإمام أو نائبه علی الكفاية و يتعيّن بتعيين الإمام ... و لا يملك أموالهم الغائبة، و فيما حواه العسكر ممّا ينقل و يحوّل قولان «2».

ج- و قال في جهاد التذكرة- في فصل قتال أهل البغي-: أموال أهل البغي الّتي لم يحوها العسكر لا تخرج من ملكهم و لا تجوز قسمته بحال، أمّا ما حواه العسكر من السلاح و الكراع و الدوابّ و الأثاث و غير ذلك فللشيخ قولان ... «3».

د- و قال في جهاد المنتهی- في المقصد الثامن الّذي هو في قتال أهل البغي-:

قد وقع الإجماع علی أنّ مال أهل البغي الّذي لم يحوه العسكر لا يخرج عن ملكهم و لا يجوز قسمته بحال، و اختلف علماؤنا في أموالهم الّتي حواها العسكر من سلاح و كراع و خيل و أثاث و غير ذلك من الأموال ... «4».

و عباراته في كتبه الأربعة دالّة علی المطلوب، فإنّ الأموال الّتي لم يحوها العسكر أو أموالهم الغائبة تعمّ ما لا ينقل أيضا، بل إنّ قوله في القواعد: «و إن كانت ممّا تنقل و تحوّل» يجعله صريح الشمول لما لا ينقل، كما أنّ قوله في الإرشاد: «و فيما حواه العسكر ممّا ينقل و يحوّل قولان» مفهومه أنّ الأرض الّتي يقع الحرب فيها إن كانت ملك البغاة فلا تؤخذ منهم. و الحاصل: أنّ دلالة عباراته علی المطلوب واضحة.

14- و قال الشهيد في الدروس- في قتال البغاة-: و لا تقسّم أموالهم الّتي لم يحوها العسكر إجماعا ... و ما حواه العسكر- إذا رجعوا إلی طاعة الإمام- حرام أيضا ... «5».

                       

فهو قدّس سرّه و إن صرّح بعد تقسيم أموالهم و لعلّه يجتمع مع كون ما لا ينقل منها ملكا لجميع المسلمين كسائر الأراضي المفتوحة عنوة إلّا أنّ قوله في تلوه: «و ما حواه العسكر ... حرام أيضا» دليل علی أنّ مراده بعدم قسمة أموالهم الغائبة أنّ هذه الأموال حرام كحرمة ما حواه العسكر و إلّا لم يكن للإتيان بلفظة «أيضا» مجال، و عليه فدلالة عبارته أيضا علی المطلوب تامّة.

فتحصّل من ملاحظة كلماتهم: أنّه لم يفت أحد منهم بجواز أخذ أراضي البغاة، بل ادّعی الشيخ في الخلاف علی انعقاد إجماع الفرقة علی أنّه لا يتعرّض لأموالهم الّتي لم يحوها العسكر، و ادّعی العلّامة في المنتهی الإجماع علی أنّه لا يخرج عن ملكهم و لا يجوز قسمته بحال، و قريب منهما عبارة الدروس.

و لعلّه لمثل هذا قال في الرياض: و لا يؤخذ أموالهم- أي البغاة- مطلقا كانت لهم فئة أم لا، بل خلاف في الأموال الّتي ليست في العسكر، بل عليه الإجماع في التحرير و المنتهی و المسالك و الروضة و غيرها، و هو الحجّة «1».

و أيضا قال في الجواهر- ذيل قول المحقّق في المسألة الثانية و الّذي تقدّم تحت رقم 11 بعدم لجواز-: بلا خلاف أجده في شي‏ء من ذلك، بل في المسالك:

هو موضع وفاق بل في صريح المنتهی و الدروس و محكيّ الغنية و التحرير الإجماع عليه، بل يمكن دعوی القطع به «2».

هو وضع الأقوال في المسألة، و بعد ذلك فاللازم مراجعة الأدلّة فنقول:

قد يستدلّ لعدم جواز أخذ أراضيهم بالإجماع كما هو ظاهر الشيخ في الخلاف و ظاهر الرياض بل و الجواهر، إلّا أنّه محلّ نقاش لأنّه محتمل المدرك جدّا، كما عطف عليه في الخلاف: «أخبارهم» و ذكر الرياض و الجواهر أخبار يستدلّ بها، و بعد احتمال استناد الأقوال إلی الروايات لا يمكن كشف الحكم الواقعي به.

و أمّا الأخبار فالكلام عن مدلولها ينبغي أن يكون بعد التنبّه لنكتة أنّ القاعدة

                       

الأولية تقتضي بقاء ملك الأشخاص و لا سيّما المسلمين علی ملكهم و أن لا يجوز تملّكها و لا التصرّف فيها إلّا بطيبة أنفسهم، فإنّ مدلول قولهم عليهم السّلام: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيبة نفسه» و إن كان موضوعه المسلم إلّا أنّه قاعدة عقلائية في مال كلّ مالك، فإذا اقتضت القاعدة بحكم الاستصحاب بقاء أموالهم علی ملكهم فيترتب عليه أنّ التصرّف فيها من دون طيب أنفس مالكها غير جائز سيّما إذا كان مالكها مسلما كما هو المفروض في البغاة، فمقتضی القاعدة الأولية أن لا يجوز اغتنام أموالهم منقولة أو غير منقولة.

و بعد ذكر هذه النكتة نقول: إنّ النظر في الأخبار تارة يكون إلی الروايات الواردة في الأراضي المفتوحة عنوة من حيث إنّه هل لها عموم يشمل أراضي البغاة؟ و اخری إلی الأخبار الواردة في خصوص أموال البغاة.

أمّا الروايات الواردة علی مثل عنوان الأراضي المفتوحة عنوة فليس لها إطلاق يبيّن حكم أراضي البغاة، و ذلك أنّ موضوع عدّة منها أرض السواد أو أرض أهل العراق كما في صحيح محمّد الحلبي و خبر أبي الربيع و صحيح محمّد ابن مسلم الماضيات «1»، و واضح أنّها أرض العراق الّتي اخذت من الكفّار، كما أنّ موضوع صحيحة يعقوب بن شعيب الماضية «2» في أرض خيبر و هي مأخوذة من اليهود، و كما أنّ الموضوع في مرسل حمّاد بن عيسی الأرضون الّتي اخذت عنوة فقد فرض أخذها عنوة و لا يدلّ علی أنّ أيّ الأرضين كذلك، فلا إطلاق و لا عموم نافع له. و كما أنّ الموضوع في عدّة من الأخبار كمصحح أبي بردة بن رجا و خبر محمّد بن شريح الماضيين «3» أرض الخراج و هو إنّما يدلّ علی أنّها أرض يؤخذ منها الخراج من غير دلالة علی أنّها أيّ الأرضين.

بل إنّ ظاهر صحيح البزنطي و خبر البزنطي و صفوان بن يحيی الماضيين «4» اختصاص أرض الخراج بما تؤخذ من الكفّار، و ذلك أنّ موضوع الكلام فيهما

                       

الخراج و ما سار به أهل بيته عليهم السّلام ففصّله عليه السّلام بين أرض من أسلم طوعا و أرض اخذت بالسيف و قال: إنّ الاولی تترك في يد مالكه و الثانية تؤخذ و أمرها إلی الإمام كما اخذت أرض خيبر و كان أمرها إلی رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله، فالمستفاد من التقسيم أنّ مورد الخراج و موضوعه أرض من كان كافرا و لم يسلم طوعا بل اخذت أرضه بالسيف، فلا يبعد استظهار أنّ موضوع الخراج هو خصوص أراضي الكفّار كأرض خيبر.

فهذه الروايات لا عموم فيها يقتضي جواز أخذ أراضي البغاة بل أنّ فيها ما يدلّ علی أرض الخراج هي خصوص ما يؤخذ بالسيف من الكفّار.

و أمّا الأخبار الخاصّة فهي علی طوائف عديدة:

1- فطائفة منها تدلّ علی أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام في حرب الجمل قد آمن من ألقی سلاحه أو أغلق بابه من البغاة. ففي معتبر أبي حمزة الثمالي: قلت لعليّ بن الحسين عليهما السّلام: إنّ عليّا عليه السّلام سار في أهل القبلة بخلاف سيرة رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله في أهل الشرك، قال: فغضب ثمّ جلس ثمّ قال: سار و اللّه فيهم بسيرة رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله يوم الفتح، إنّ عليّا عليه السّلام كتب إلی مالك و هو علی مقدّمته في يوم البصرة بأن لا يطعن في غير مقبل و لا يقتل مدبرا و لا يجيز علی جريح، و من أغلق بابه فهو آمن، فأخذ الكتاب فوضعه بين يديه علی القربوس من قبل أن يقرأه ثمّ قال: اقتلوهم، فقتلهم حتّی أدخلهم سكك البصرة، ثمّ فتح الكتاب فقرأه، ثمّ أمر مناديا فنادی بما في الكتاب «1».

فهو عليه السّلام قد نقل ما فعله الأمير عليه السّلام بهؤلاء البغاة بعد أن غلب عليهم و أنّه عليه السّلام كتب فيهم: «من أغلق بابه فهو آمن» فحكم بأنّه علی أمن. و لا يبعد دعوی أنّ إطلاق الأمن أن لا يتعرّض لنفسه و لا لأهله و ذراريه و لا لمثل داره و أرضه و أمواله، فهذه الرواية المعتبرة تدلّ علی عدم أخذ أرض البغاة اذا كفّوا عن الحرب.

و في خبر حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه عن أبيه الباقر عليهما السّلام في حديث طويل يذكر فيه الأسياف الخمسة الّتي بعث اللّه بها محمّدا صلّی اللّه عليه و آله- عند ذكر السيف‏

                       

المكفوف الّذي علی أهل البغي- قال عليه السّلام: و كانت السيرة فيهم من أمير المؤمنين عليه السّلام ما كان من رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله في أهل مكّة يوم فتح مكّة، فإنّه لم يسب لهم ذرّية و قال:

من أغلق بابه فهو آمن، و من أغلق بابه و من ألقی سلاحه (أو دخل دار أبي سفيان- الخصال) فهو آمن، و كذلك قال أمير المؤمنين عليه السّلام يوم البصرة نادی: لا تسبّوا لهم ذرّيّة و لا تجهزوا [و لا تتمّوا- خ ل‏] علی جريح و لا تتبعوا مدبرا، و من أغلق بابه و ألقی سلاحه فهو آمن ... الحديث «1».

و مضمون هذا الخبر أيضا مضمون معتبر أبي حمزة الماضي، و يؤيّد دلالة إطلاقهما علی أنّه لا يغنم أراضيهم أنّه عليه السّلام صرّح بأنّ سيرته يوم الجمل هي نفس سيرة النبيّ صلّی اللّه عليه و آله في أهل مكّة يوم فتحها، و ذلك أنّ من المعلوم أنّ أهل مكّة لم يؤخذ منهم أرضهم و لا أموالهم، فلا محالة يقتضي وحدة السيرتين أن لا يؤخذ من بغاة حرب الجمل أيضا شي‏ء.

و حكمه عليه السّلام بأنّ من ألقی سلاحه أو أغلق بابه في حرب الجمل مذكور في روايات عديدة:

ففي خبر شريك قال: لمّا هزم الناس يوم الجمل قال أمير المؤمنين عليه السّلام:

لا تتبعوا مولّيا و لا تجيزوا علی جريح، و من أغلق بابه فهو آمن «2».

و في مرسل تحف العقول عن أبي الحسن الثالث عليه السّلام- في توضيح ما أورده يحيی بن أكثم من أنّ عليّا عليه السّلام يوم الجمل لم يتبع مولّيا و لم يجز علی جريح، و من ألقی سلاحه آمنه، و من دخل داره آمنه.- قال: «فان اهل الجمل قتل إمامهم و لم تكن لهم فئة يرجعون إليها، و إنّما رجع القوم إلی منازلهم غير محاربين و لا مخالفين و لا منابذين، رضوا بالكف و عنهم، فكان الحكم فيهم رفع السيف عنهم و الكفّ عن أذاهم إذ لم يطلبوا عليه أعوانا «3». فالكفّ عن الأذی أيضا بإطلاقه‏

                       

يقتضي عدم اغتنام أموالهم و إلّا فأخذ مالهم مصداق لا يراد الأذی عليهم، فإطلاقه كإطلاق الأمن يقتضي عدم اغتنام المال.

و في خبر الدعائم: روينا عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سار في أهل الجمل- لمّا قتل طلحة و الزبير و قبض علی عائشة و انهزم أصحاب الجمل- نادی مناديه: لا تجهزوا علی جريح و لا تتبعوا مدبرا، و من ألقی سلاحه فهو آمن «1».

و في خبر محمّد بن بشير الهمداني المروي في كتاب الكافئة في إبطال توبة الخاطئة الّذي ألّفه الشيخ المفيد أنّ في كتاب أمير المؤمنين عليه السّلام إلی أهل الكوفة:

أمّا بعد، فإنّا لقينا القوم الناكثين ... فلمّا هزمهم اللّه أمرت أن لا يتبع مدبر ... و لا يدخل دار إلّا بإذن و آمنت الناس 2. فتوصيفه القوم المحاربين بالناكثين دليل علی أنّ المراد بهم أهل الجمل الّذين بايعوه ثمّ نكثوا البيعة فآمنهم و النهي عن دخول دارهم إلّا بإذن شاهد علی عدم التعرّض لأموالهم الّتي لم يحوها العسكر.

و في حديث حبّة العرني المروي عن أمالي المفيد: فلمّا كان يوم الجمل ...

فولّی الناس منهزمين، فنادی منادي أمير المؤمنين عليه السّلام: لا تجيزوا علی جريح و لا تتبعوا مدبرا، و من أغلق بابه فهو آمن، و من ألقی سلاحه فهو آمن «3».

و في خبر محمّد بن الفضيل بن عطا- المروي أيضا عن أمالي المفيد- عن الصادق عن أبيه عليهما السّلام عن محمّد ابن الحنفية قال: كان اللواء معي يوم الجمل ... ثمّ أمر مناديه فنادی: لا يدفف علی جريح و لا يتبع مدبر، و من أغلق بابه فهو آمن 4.

و في خبر أبي بصير- المروي عن غيبة النعماني- قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

لمّا التقی أمير المؤمنين عليه السّلام و أهل البصرة نشر الراية- راية رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله- فتزلزلت أقدامهم، فما اصفرّت الشمس حتّی قالوا: آمنّا يا ابن أبي طالب، فعند ذلك قال: «لا تقتلوا الاسراء و لا تجهزوا علی جريح و لا تتبعوا مولّيا و من ألقی‏

                       

سلاحه فهو آمن و من أغلق بابه فهو آمن» «1».

و في خبر الأصبغ بن نباتة- المروي عن تفسير فرات بن إبراهيم الكوفي- ... إنّا لمّا هزمنا القوم (أهل البصرة) نادی منادية (منادي أمير المؤمنين عليه السّلام): لا يدفف علی جريح و لا يتبع مدبر، و من ألقی سلاحه فهو آمن، سنّة يستنّ بها بعد يومكم هذا ... 2.

و في خبر أبي بصير- المروي عن كتاب الهداية للحسين بن حمدان الحضيني- عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- في حكاية ما أنكر علی أمير المؤمنين عليه السّلام أهل النهروان، قالوا-: إنّك حكمت يوم الجمل فيهم بحكم خالفته بصفّين: قلت لنا يوم الجمل:

لا تقتلوهم مولّين و لا مدبرين و لا نياما و لا ايقاظا، و لا تجهزوا علی جريح، و من ألقی سلاحه فهو آمن، و من أغلق بابه فلا سبيل عليه ... إلی أن حكی تصديق أمير المؤمنين عليه السّلام لهم بقوله عليه السّلام: فقلت لكم لمّا أظهرنا اللّه عليهم ما قلته ... فذكر سرّ قوله هذا «3».

فهذه الأخبار العديدة تحكي أنّه عليه السّلام لمّا غلبه اللّه علی أهل الجمل آمن من ألقی سلاحه أو دخل و أغلق بابه، و قد عرفت أنّ إطلاق الأمن يقتضي أن لا يتعرّض لأخذ أموالهم الّتي لم تكن معهم في العسكر، فيدلّ علی أنّ دورهم و أراضيهم بل و سائر أموالهم لا تغنم منهم. هذه هي الطائفة الاولی من الأخبار.

2- و هنا طائفة اخری تدلّ علی أنّه عليه السّلام في حرب الجمل بعد غلبته ردّ إلی البغاة أموالهم، ففي معتبر مسعدة بن زياد- المروية عن علل الشرائع- عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام قال: قال مروان بن الحكم: لمّا هزمنا عليّ عليه السّلام بالبصرة ردّ علی الناس أموالهم؛ من أقام بيّنة أعطاه و من لم يقم بيّنة حلّفه. قال:

فقال له قائل: يا أمير المؤمنين أقسم الفي‏ء بيننا و السبي. قال: فلمّا أكثروا عليه قال: أيّكم يأخذ أمّ المؤمنين في سهمه؟! فكفّوا «4». و قد رواه صاحب الوسائل‏

                        

عن التهذيب و قرب الاسناد بسند غير معتبر أيضا.

فسند الحديث إلی الإمام عليه السّلام معتبر، و مروان بن الحكم و إن كان غير ثقة إلّا أنّ ظاهر نقل الإمام عنه أنّه بصدد الاعتماد عليه فيكون معتبرا، و ما ذكره من فعله عليه السّلام كالصريح في أنّه لم يأخذ أموالهم الّتي لم يحوها العسكر بل لعلّ ظاهره أنّه ردّ عليهم ما أخذوه و هو شامل لما حواه العسكر، إلّا أنّه ليس كلامنا الآن فيه.

3- و هنا طائفة تدلّ علی أنّه لم يتعرّض يوم الجمل لغير ما حواه العسكر: ففي حديث رواه صاحب الدعائم في كتاب شرح الأخبار عن موسی بن طلحة بن عبيد اللّه الّذي كان من اسر يوم الجمل قال: و كان عليّ عليه السّلام قد أغنم أصحابه ما أجلب به أهل البصرة إلی قتاله، و لم يعرض لشي‏ء غير ذلك، و خمّس ما أغنمه ممّا أجلبوا به عليه، و جرت بذلك السنّة «1».

فقوله: «و لم يعرض لشي‏ء غير ذلك» دالّ علی عدم اغتنام غير ما حواه العسكر، و لعلّ قول «و جرت بذلك السنّة» من مؤلّف الكتاب، فدلالته علی المطلوب تامّة و إن كان الناقل غير ثقة.

و في حديث رواه صاحب دعائم الإسلام بقوله:- روينا عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه لما هزم أهل الجمل جمع كلّ ما أصابه في عسكرهم ممّا أجلبوا به عليه فخمّسه و قسّم أربعة أخماسه علی أصحابه و مضی، فلمّا صار إلی البصرة قال أصحابه: يا أمير المؤمنين اقسم بيننا ذراريهم و أموالهم قال: ليس لكم ذلك ... و ما أجلبوا به و استعانوا به علی حربكم و ضمّه عسكرهم و حواه فهو لكم، و ما كان في دورهم فهو ميراث علی فرائض اللّه لذراريهم ... الحديث 2.

و ظاهره كما تری أنّه إنّما يغنم و يؤخذ خصوص ما في عسكرهم و أمّا غيره فلا يتعرّض و لم يتعرّض له، فهو أيضا دالّ علی المطلوب.

فهذه الطوائف الثلاث من الروايات- و فيها أخبار معتبرة مضافا إلی استفاضتها الموجبة للاطمئنان بصدق مضمونها المشترك فيه- تدلّ علی أنّه عليه السّلام لم يأخذ

                       

الأموال الّتي لم يحوها عسكر بغاة حرب الجمل و يدخل في هذه الأموال الأراضي و الدور و مثل دكّتهم و محلّ كسبهم و تجارتهم، فتدلّ علی ما هو المطلوب من استثناء البغاة و عدم اشتراكهم مع الكفّار.

و لعلّ إلی مثل هذه الروايات يشير إلی ما مرّ من كلام السيّد المرتضی في الناصريّات من قوله: «مرجع الناس كلّهم في هذا الموضع إلی ما قضی به أمير المؤمنين عليه السّلام في محاربي البصرة، فإنّه منع من غنيمة أموالهم، فلمّا روجع عليه في ذلك قال: أيّكم يأخذ عائشة في سهمه».

بل إليها تشير و تؤيّدها أيضا صحيحة حريز عن أبي جعفر عليه السّلام قال: لو لا أنّ عليّا عليه السّلام سار في أهل حربه بالكفّ عن السبي و الغنيمة للقيت شيعته من الناس بلاء عظيما. ثمّ قال: و اللّه لسيرته كانت خيرا لكم ممّا طلعت عليه الشمس «1».

فإنّ الظاهر أنّها إشارة إلی مثل حرب الجمل بل لعلّها مختصّة به فإنّها حرب وقعت بينه و بين البغاة و غلبه اللّه تعالی عليهم و بقي منهم جمع يكون مظنة و موردا لسبيهم و أموال يمكن اغتنامها فكفّ عليه السّلام عن السبي و الاغتنام و صارت سيرته مرجعا لأهل الجور من الخلفاء و الطغاة، فكانت سيرته خيرا لشيعته ممّا طلعت عليه الشمس.

و بالجملة: فكلّ حروب الأمير عليه السّلام كانت مع البغاة إلّا أنّ في حرب صفّين لم يحصل مورد للسبي و الاغتنام و في حرب نهروان لم يبق منهم أحد و لا مال، فحرب الجمل هو المصداق المنحصر لهذه الصحيحة أو المتيقّن منها، ففيها أيضا دلالة علی المراد و تأييد لتلك الأخبار الماضية.

و هنا رواية اخری رويت عن كتاب الكافئة للشيخ المفيد عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث: أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال لعبد اللّه بن وهب الراسبي- لمّا قال في شأن أصحاب الجمل: إنّهم الباغون الظالمون الكافرون المشركون- قال عليه السّلام: أبطلت يا ابن السوداء، ليس القوم كما تقول، لو كانوا

                       

مشركين سبينا أو غنمنا أموالهم و ما ناكحناهم و لا وارثناهم «1».

دلّت بمفهوم «لو» الشرطية أنّه عليه السّلام لم يغنم أموال أهل البصرة لأنّهم لم يكونوا مشركين، فهي أيضا متّحدة المضمون لما سبقها من أخبار الباب. نعم الرواية بنفسها ضعيفة السند بعدم علمنا بسند المفيد إلی عمرو بن شمر و بضعف عمرو.

فهذه الأخبار الكثيرة دلّت علی أنّ الأمير عليه السّلام لم يغتنم ما عدا ما حواه العسكر من أموال البغاة في حرب الجمل.

إلّا أنّ هنا طائفتين اخريين من الروايات:

إحداهما: ما ربما يدلّ علی أنّ ما وقع من أمير المؤمنين عليه السّلام كان منّا منه عليه السّلام علی أهل البصرة، و إلّا كان اغتنام أموالهم له عليه السّلام جائزا، و لذلك تحمل جميع الروايات الماضية علی أنّها متعرّضة لأمر يجوز اختياره لوليّ الأمر إذا كان هنا مقتض للمنّ، و مع عدمه فالحكم هو الاغتنام.

1- فمن هذه الروايات صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام الماضية الذكر آنفا، فإنّ قوله عليه السّلام في فقرتها الأخيرة: «و اللّه لسيرته كانت خيرا لكم ممّا طلعت عليه الشمس» لا سيّما إذا جعل جنب الروايات الآتية الاخر يستفاد منه أنّ الاغتنام كان جائزا له لكنّه لم يغتنم لما كان يعلمه من أحوال شيعته فيما يأتي.

2- و منها موثّقة أبي حمزة الثمالي [بناء علی أنّ الحكم الواقع في السند هو الحكم بن الأيمن الخيّاط، كما في بعض نسخ التهذيب و كما في جامع الرواة، و الحكم الخيّاط ثقة بقرينة رواية ابن أبي عمير بلا واسطة عنه‏] قال: قلت لعليّ بن الحسين عليهما السّلام: بما سار عليّ بن أبي طالب عليه السّلام؟ فقال: إنّ أبا اليقظان كان رجلا حادّا رحمه اللّه فقال: يا أمير المؤمنين بما تسير في هؤلاء غدا؟ فقال عليه السّلام: بالمنّ، كما سار رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله في أهل مكّة «2».

فالحديث وارد في حرب الجمل كما يشهد لفظ «سار» الواقع في سؤال أبي‏

                       

حمزة فإنّ الظاهر أنّ سيرة المسؤول عنها هي سيرته في حرب الجمل الّتي كانت مبدأ لعمل الطغاة بعده، مضافا إلی أنّ أبا اليقظان و هو عمّار بن ياسر رحمه اللّه صار شهيدا في حرب صفّين و لم يقع من الأمير عليه السّلام في غد اليوم من صفّين منّ علی بغاته فلا محالة هو حرب الجمل، و قد عبّر عن فعله عليه السّلام بهم بالمنّ، و المنّ دليل علی أنّه كان يجوز له تركه كما عرفت، فيدلّ علی جواز الاغتنام إذا لم يكن هنا موجب المنّ.

3- و مثلها ما عن دعائم الإسلام عن عليّ عليه السّلام أنّه سأله عمّار حين دخل البصرة فقال: يا أمير المؤمنين بأيّ شي‏ء تسير في هؤلاء؟ قال عليه السّلام: بالمنّ و العفو كما سار النبيّ صلّی اللّه عليه و آله في أهل مكّة «1».

و لعلّ هذا الخبر هو نفس رواية أبي حمزة و دلالته واضحة كما مرّ.

4- و منها رواية أبي بكر الحضرمي قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لسيرة عليّ عليه السّلام في أهل البصرة كانت خيرا لشيعته ممّا طلعت عليه الشمس، إنّه علم أنّ للقوم دولة فلو سباهم لسبيت شيعته، قلت: فأخبرني عن القائم عليه السّلام يسير بسيرته؟

قال عليه السّلام: لا؛ إنّ عليّا عليه السّلام سار فيهم بالمنّ لما علم من دولتهم، و إنّ القائم عليه السّلام يسير بخلاف ذلك السير لأنّه لا دولة لهم «2».

و المذكور منه عليه السّلام في صدر الرواية و إن كان تعليل خيرية السيرة بعدم ابتلاء شيعته بالسبي فلعلّه يحتمل انحصار نظره إلی خصوص ترك السبي إلّا تبديله في الذيل بقوله: «سار فيهم بالمنّ» شاهد علی أنّ النظر إلی مطلق ما فعل بهم، فيشمل ترك اغتنام أموالهم أيضا و يكون دالّا علی المطلوب.

5- و مثلها رواية الحسن بن هارون بيّاع الأنماط قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام جالسا فسأله معلّی بن خنيس أ يسير الإمام [القائم- خ ل‏] بخلاف سيرة عليّ عليه السّلام؟ قال عليه السّلام: نعم، و ذلك أنّ عليّا عليه السّلام سار بالمنّ و الكفّ لأنّه علم أنّ شيعته سيظهر عليهم، و أنّ القائم عليه السّلام إذا قام سار فيهم بالسيف و السبي، لأنّه يعلم‏

                       

أنّ شيعته لن يظهر عليهم من بعده أبدا «1».

و دلالتها علی المطلوب واضحة كما مرّ بيانها آنفا.

6- و مثلهما- بل لعلّها نفس ما رواه الحسن بن هارون- رواية الوليد بن صبيح المنقولة عن كتاب درست بن أبي منصور قال: سأل المعلّی بن خنيس أبا عبد اللّه عليه السّلام فقال: جعلت فداك حدّثني عن القائم عليه السّلام إذا قام يسير بخلاف سيرة عليّ عليه السّلام؟ قال: فقال له: نعم. قال: فأعظم ذلك معلّی و قال: جعلت فداك ممّ ذاك؟

قال: فقال عليه السّلام: لأنّ عليّا عليه السّلام سار بالناس سيرة و هو يعلم أنّ عدوّه سيظهر علی وليّه من بعده، و أنّ القائم عليه السّلام إذا قام ليس إلّا السيف، فعودوا مرضاهم و اشهدوا جنائزهم و افعلوا، و لا فعلوا فإنّه إذا كان ذلك لم تحلّ مناكحتهم و لا موارثتهم «2».

فهذه الرواية أيضا كما مرّ البيان فيما سبق دالّة علی أنّ فعله عليه السّلام بالبصرة كان ناشئا عن المنّ فتدلّ علی جواز الاغتنام إذا لم يكن موجب للمنّ كما في زمن القائم عليه السّلام.

7- و منها رواية عبد اللّه بن سليمان قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ الناس يروون أنّ عليّا عليه السّلام قتل أهل البصرة و ترك أموالهم، فقال: إنّ دار الشرك يحلّ ما فيها و انّ دار الإسلام لا يحلّ ما فيها، فقال عليه السّلام: إنّ عليّا عليه السّلام إنّما منّ عليهم كما منّ رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله علی أهل مكّة، و إنّما ترك عليّ عليه السّلام لأنّه كان يعلم أنّه سيكون له شيعة و أنّ دولة الباطل ستظهر عليهم، فأراد أن يقتدی به في شيعته، و قد رأيتم آثار ذلك هو ذا يسار في الناس بسيرة عليّ عليه السّلام، و لو قتل عليّ عليه السّلام أهل البصرة جميعا و اتخذ أموالهم لكان ذلك له حلالا، لكنّه منّ عليهم ليمنّ علی شيعته من بعده «3».

و دلالتها علی المطلوب واضحة، و هي قرينة أيضا علی صحّة ما استفدناه من الروايات السابقة.

8- و منها ما عن دعائم الإسلام عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: سار عليّ عليه السّلام‏

                       

بالمنّ و العفو في عدوّه من أجل شيعته، كان يعلم أنّه سيظهر عليهم عدوّهم من بعده فأحبّ أن يقتدي به من جاء من بعده به فيسير في شيعته بسيرته و لا يجاوز فعله فيری الناس أنّه تعدّی و ظلم «1».

و مدلوله سيّما بملاحظة أشباهه واضحة، و فيه دلالة علی المطلوب كما بيّنّاه.

9- و منها ما رواه الكليني في روضة الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قلت: وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ- إلی قوله:- فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ فقال عليه السّلام: الفئتان إنّما جاء تأويل هذه الآية يوم البصرة و هم أهل هذه الآية و هم الّذين بغوا علی أمير المؤمنين عليه السّلام فكان الواجب عليه قتالهم و قتلهم حتّی يفيئوا إلی أمر اللّه، و لو لم يفيئوا لكان الواجب عليه فيما أنزل اللّه أن لا يرفع السيف عنهم حتّی يفيئوا و يرجعوا عن رأيهم؛ لأنّهم بايعوا طائعين غير كارهين، و هي الفئة الباغية كما قال اللّه تعالی، فكان الواجب علی أمير المؤمنين عليه السّلام أن يعدل فيهم حيث كان ظفر بهم كما عدل رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله في أهل مكّة، إنّما منّ عليهم و عبا،؟؟؟ و كذلك صنع أمير المؤمنين عليه السّلام بأهل البصرة حيث ظفر بهم مثل ما صنع النبيّ صلّی اللّه عليه و آله بأهل مكّة حذو النعل بالنعل»

.

فقد جعل فعل الأمير عليه السّلام بأهل البصرة منّا عليهم و عفوا عنهم فيدلّ علی أنّه كان له أن لا يمنّ فيأخذ أموالهم و يسبيهم لكنّه ترك و منّ عليه لمّا ذكر في الأخبار الأخر الماضية من السرّ.

فبالجملة: أنّ هذه الطائفة المستفيضة من الأخبار الّتي بعضها بنفسه أيضا معتبر السند تدلّ علی جواز اغتنام أموال البغاة إذا ظفر بهم، و إنّما تركه عليّ عليه السّلام لموجب المنّ فإذا عدم موجبه أخذ أموالهم أيضا بالاغتنام.

و هذه الأخبار كشرح و بيان للطوائف الماضية الدالّة علی أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام‏

                       

لم يغتنم من أموالهم غير ما حواه العسكر، فيجمع بين جميع الأخبار بما ذكرناه و لا معارضة في النهاية بينها أصلا.

و الظاهر أنّه لا بأس بالأخذ بهذا المعنی الّذي هو مقتضی الجمع بين الأخبار، و لعلّ الأصحاب الّذين قالوا بعدم جواز اغتنام مثل أراضيهم فهموا من الطائفة الأخيرة من الروايات اختصاص الجواز بالإمام القائم عليه السّلام لعدم تصوّرهم لحدوث دولة عادلة قبل ظهوره الشريف، و إلّا يقولوا هم أيضا بجوازه، و العلم عند اللّه العليم.

هذه هي الطائفة الاولی من الأخبار، و قد عرفت أنّ مفادها جواز اغتنام أموال البغاة بالعنوان الأوّلي، إلّا أنّه إذا علم أنّ لهم في الزمن الآتي دولة يظهرون بها علی جيش الإسلام و كان الكفّ عن اغتنام أموالهم موجبا لأنّ يكفّوا هم أيضا عن اغتنام أموال جيش الإسلام في الزمن الآتي فيكون هذا العلم عنوانا ثانيا ربما يوجب الكفّ عن اغتنام أموالهم، إلّا أنّه مع ذلك فإن اغتنم أموالهم لكان جائزا كما وقع في بعض النصوص الماضية. نعم إذا علم أنّه لا يكون لهم في الآتي دولة كما في زمن القائم عليه السّلام فلا مجال لهذا الكفّ بل لا يبعد أنّه إذا علم بعدم التأثير في كفّهم فلا وجه للكفّ أيضا.

بل لا يبعد أن يقال بأنّه يستفاد من هذه الأخبار حكم اغتنام أموال البغاة الّذين لهم بعد قائد يدعوهم إلی البغي و الطغيان، فإنّ حرمة أموالهم ليست أزيد ممّن ليس لهم قائد لقتله كما قتل طلحة و الزبير، إلّا أنّه مع ذلك إذا كان فيه احتمال أن يغلب دولتهم و كانوا بحيث يكفّون عن اغتنام أموال جيش الإسلام الأصيل إن كفّ عن اغتنام مالهم فهذا الاحتمال أو العلم يكون عنوانا ثانيا يوجب الكفّ عن اغتنام أموالهم.

و هنا طائفة ثالثة من الأخبار متعرّضة لحكم خصوص هذا القسم الآخر من البغاة، و من و هذه الطائفة خبر أبي بصير المروی عن كتاب الهداية للحسين بن حمدان الحضيني و هو حديث طويل في قصّة أهل النهروان، و في ذيله أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال لهم: و أمّا قولي بصفّين: اقتلوهم مولّين و مدبرين و نياما و ايقاظا و أجهزوا علی كلّ جريح، و من ألقی سلاحه فاقتلوه، و من أغلق بابه‏

                       

فاقتلوه، و أحللت لكم سبي الكراع و السلاح و سبي الذراري، و ذاك حكم اللّه عزّ و جلّ، لأنّ لهم دار حرب قائمة و إماما منتصبا يداوي جريحهم و يعالج مريضهم و يهب [يعفر] لهم الكراع و السلاح و يعيدهم إلی قتالكم كرّة بعد كرّة، و لم يكونوا بايعوا فيدخلون في ذمّة البيعة و الإسلام، و من خرج من بيعتنا فقد خرج من الدين و صار ماله و ذراريه بعد دمه حلال «1».

فقد حكم في الفقرات الأخيرة بالصراحة بأنّ أموال هؤلاء البغاة- الّذين هم مسلمون إلّا أنّهم لم يبايعوا الإمام الحقّ- حلال فتغنم إذا ظهر المسلمون عليهم، و قد قال قبل هذه الفقرات: «و ذاك حكم اللّه عزّ و جلّ» فهذه الحلّيّة هي الحكم الأولي الإسلامي لأموالهم اللّهمّ إلّا أن يطرأ عنوان ثان مثل ما مرّت في الأخبار السالفة يوجب رفع اليد عن اغتنام أموالهم إلّا أنّ سند هذه الرواية غير معتبر.

و قد روی عن العلّامة في المختلف أنّ ابن أبي عقيل أرسل عن أمير المؤمنين عليه السّلام رواية في حرب الجمل قال فيها: «إنّ دار الهجرة حرّمت ما فيها و إنّ دار الشرك أحلّت ما فيها» 2 و قد يتوهّم أنّ إطلاق دار الهجرة شاملة لجميع ديار المسلمين حتّی مثل الشام فتدلّ الرواية علی حرمة أخذ أموال بغاة صفّين.

لكنّك تعلم أنّ مثل خبر أبي بصير الماضي يكون كالمفسّر لهذه المرسلة و يكون قرينة علی أنّ دار الهجرة هي دار قبل أهلها بيعة الإمام كأهل البصرة فيعامل معهم معاملة غير الناكثين و لا يؤخذ أموالهم بالشرح الماضي ذكره، و أمّا من لم يبايع الإمام فلا يدخل في ذمّة البيعة و الإسلام. مضافا إلی أنّه مرسل لا اعتبار به.

فالمتحصّل من جميع الأخبار: أنّ اغتنام أراضي البغاة إذا غلب أهل الحق عليهم جائز سواء بقي لهم قائد أم لا، إلّا أنّه لو كانت هنا مصلحة أقوی فوليّ الأمر ربما كفّ عن الاغتنام كما فعله أمير المؤمنين عليه السّلام.

 [6- هل يتعلّق الخمس بالأراضي أو غير المنقولات ممّا أخذ عنوة]

المسألة السادسة: هل الأرض أو المال غير المنقول الآخر المأخوذة عنوة يتعلّق به الخمس؟

                        

بعد أن لم يكن ريب في تعلّق الخمس بالغنائم المنقولة الّتي تؤخذ من أهل الحرب فظاهر كلمات الأصحاب تعلّقه بغير المنقول المأخوذ منهم عنوة، و قد تعرّض لهذا الأمر في الكلمات الماضية الّتي حكيناها عنهم الشيخ في ما حكينا عن خلافه من كتاب الفي‏ء منه، و ابن إدريس في موضعين من سرائره قد حكيناهما عنه، و العلّامة في القواعد، فراجع.

كما أنّ المحقّق أيضا في جهاد الشرائع- بعد تقسيم غنيمة دار الحرب إلی ما ينقل و ما لا ينقل- قال: و أمّا ما لا ينقل فهو للمسلمين قاطبة و فيه الخمس.

و قد تعرّض الأصحاب لتعلّق الخمس بها في باب الخمس نذكر من كلماتهم انموذجا:

ففي نهاية الشيخ: الخمس واجب في كلّ ما يغنمه الإنسان، و الغنائم كلّ ما اخذ بالسيف من أهل الحرب و ... ممّا يحويه العسكر و ممّا لم يحوه «1».

و في الشرائع: فيما يجب فيه الخمس، و هو سبعة: الأوّل غنائم دار الحرب ممّا حواه العسكر و ما لم يحوه من أرض و غيرها.

و في الوسيلة لابن حمزة: ما يجب فيه الخمس ... ثلاثة و ثلاثون صنفا ...

و الغنائم الّتي تؤخذ من دار الحرب عنوة، قلّت أو كثرت، من المال و السلاح و الثياب و المماليك و الكراع و الأرضين و العقار «2».

و في قواعد العلّامة: إنّما يجب الخمس في سبعة أشياء: أ- غنائم دار الحرب و إن قلّت، سواء حواها العسكر أو لا، ممّا ينقل و يحوّل كالأمتعة أو لا كالأرض «3».

و قال في التذكر: فيما يجب [يعني الخمس‏] فيه، و هو أصناف: الأوّل؛ الغنائم المأخوذة من دار الحرب، ما حواه العسكر و ما لم يحوه، أمكن نقله كالثياب و الدوابّ و غيرها أو لا يمكن كالأراضي و العقارات «4».

و قريب منه عبارة المنتهی، الّتي حكاها المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة «5».

                       

و قال في الإرشاد: كتاب الخمس، و هو واجب في غنائم دار الحرب، حواها العسكر أو لا إذا لم يكن مغصوبا.

و قال المحقّق الأردبيلي- بعد توضيحه بأنّها شاملة للأراضي و العقارات-:

و أمّا دليل وجوبه فيه فهو النصّ من الكتاب و السنّة و الإجماع «1».

و قال صاحب الجواهر شرحا لما مضی من عبارة الشرائع: يتّجه تعميم المصنّف بل و غيره من الأصحاب كالشيخ و الحلّيّ و ابن حمزة و العلّامة و الشهيدين و المقداد و غيرهم بل لا أعرف فيه خلافا «لما حواه العسكر و ما لم يحوه من أرض و غيرها» بل هو من معقد إجماع المدارك «2».

و كيف كان فلم نجد فيه خلافا، و قد ادّعی الإجماع عليه الشيخ في الخلاف و المحقّق الأردبيلي في شرح الإرشاد، و هكذا صاحب المدارك علی ما نقله صاحب الجواهر.

هذا هو خلاصة أقوال العلماء في المسألة.

و أمّا الأدلّة فربما يستدلّ بالإجماع كما هو المستفاد من كلمات من تقدّم، إلّا أنّه لمّا كان استناد أقوالهم إلی الكتاب و السنّة محتملا فلا يتمّ الاستدلال به.

و يمكن أن يستدلّ له بآية ايجاب الخمس، فقد قال تعالی: أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبی‏ وَ الْيَتامی‏ وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ «3». فإنّ موضوع تعلّق الخمس هو عنوان «ما غنمتم» و ليس ما يغنم إلّا ما يحدث و يقع اليد عليه فهو شامل لكلّ مال تقع يد الإنسان عليه فيعمّ ما يقع في يده عقيب الحرب من أموال أهل الحرب فيشمل الغنائم المنقولة و غير المنقولة كالأراضي المفتوحة عنوة، فإطلاق الآية يقتضي تعلّق الخمس بها.

كما يمكن الاستدلال له بطوائف من الأخبار:

 (الطائفة الاولی) ما وردت ذيل الآية المباركة دالّة علی وجوب الخمس في ما تضمّنت الآية.

                       

1- ففي صحيح عليّ بن مهزيار عن أبي جعفر الجواد عليه السّلام أنّه كان في ما كتب إليه: فأمّا الغنائم و الفوائد فهي واجبة عليهم في كلّ عام، قال اللّه تعالی: وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبی‏ وَ الْيَتامی‏ وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلی‏ عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَی الْجَمْعانِ وَ اللَّهُ عَلی‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ فالغنائم و الفوائد يرحمك اللّه فهي الغنيمة يغنمها المرء و الفائدة يفيدها و الجائزة من الإنسان للإنسان الّتي لها خطر ... الحديث «1».

فقد صرّح بوجوب الخمس في الغنائم و الفوائد و استشهد له بالآية الشريفة و زاد بعد ذكرها تفسير الغنائم و الفوائد، لكلّ ما كانت غنيمة أو فائدة و ذكر لهما مصاديق، فهذه الصحيحة أيضا تدلّ بإطلاقها علی تعلّق الخمس بالمفتوحة عنوة كما عرفت.

2- و في الرواية المنقولة عن تفسير النعماني- بعد تقسيم وجوه معايش الخلق بخمسة وجوه-: فأمّا وجه الامارة فقوله: وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبی‏ وَ الْيَتامی‏ وَ الْمَساكِينِ فجعل للّه خمس الغنائم، و الخمس يخرج من أربعة وجوه: من الغنائم الّتي يصيبها المسلمون من المشركين و من المعادن و من الكنوز و من الغوص «2».

و الاستدلال فيها أيضا بعموم الغنائم كما مرّ بيانه ذيل الآية المباركة.

3- و في خبر حكيم مؤذّن بني عيس [ابن عيسی- خ ل‏] عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ قال: هي و اللّه الإفادة يوما بيوم، إلّا أنّ أبي عليه السّلام جعل شيعتنا من ذلك في حلّ ليزكوا «3».

فقد فسّر الغنيمة بالإفادة يوما بيوم فتعمّ المأخوذة عنوة، و الخبر منقول عن الكافي و التهذيبين إلّا أنّ سنده غير تامّ.

4- و في خبر أبي حمزة الثمالي المنقول عن روضة الكافي عن أبي جعفر

                       

الباقر عليه السّلام في حديث قال عليه السّلام: إنّ اللّه جعل لنا أهل البيت سهاما ثلاثة في جميع الفي‏ء ثمّ قال [فقال- ئل‏] تبارك و تعالی: وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبی‏ وَ الْيَتامی‏ وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فنحن أصحاب الخمس و الفي‏ء، و قد حرّمناه علی جميع الناس ما خلا شيعتنا، و اللّه يا أبا حمزة. ما من أرض تفتح و لا خمس يخمس فيضرب علی شي‏ء منه إلّا كان حراما علی من يصيبه فرجا كان أو مال ... الحديث «1».

و الاستدلال به بملاحظة استشهاده بالآية الشريفة علی ثبوت حقّ الخمس لهم، و قد عرفت دلالة الآية المباركة بإطلاقها علی المطلوب، و للخبر دلالة علی المطلب من وجه آخر و هو قوله عليه السّلام: «ما من أرض تفتح و لا خمس يخمس فيضرب علی شي‏ء منه إلّا كان حراما علی من يصيبه» فقد جعل كلّ أرض مفتوحة حراما علی من يصيبه و الأرض المفتوحة تعمّ المفتوحة عنوة أيضا و إن كان لا بأس بشمولها لما لا يوجف عليه بخيل و لا ركاب، و قد مرّ أنّه من الأنفال و لعلّه المراد بالفي‏ء المذكور صدر الخبر فيدلّ بعموم «ما من أرض» علی تعلّق حقّ لهم بالأرض المفتوحة عنوة و هذا الحقّ هو حقّ الخمس. هذا إلّا أنّ سند الخبر ضعيف بتضعيف علي بن العبّاس و جهالة الحسن بن عبد الرحمن.

5- و في خبر زرارة و محمّد بن مسلم و أبي بصير أنّهم قالوا له [الظاهر رجوع الضمير إلی أبي عبد اللّه عليه السّلام‏]: ما حقّ الإمام في أموال الناس؟ قال: الفي‏ء و الأنفال و الخمس، و كلّ ما دخل منه في‏ء أو أنفال أو خمس أو غنيمة فإنّ لهم خمسه فإنّ اللّه يقول: وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبی‏ وَ الْيَتامی‏ وَ الْمَساكِينِ «2».

فقد حكم بأنّ كلّ ما دخل فيه غنيمة فإنّ لهم خمسه و ذكر الآية المباركة

                       

شاهدا لإثبات حقّه، ففيه استشهاد بالآية، و قد مرّ بيان دلالتها، إلّا أنّ الخبر من مرسلات العيّاشي في تفسيره.

 (الطائفة الثانية) ما تدلّ من الروايات علی تعلّق الخمس بالغنائم فبعمومها تشمل الأراضي المفتوحة عنوة أيضا بما مرّ من البيان.

1- ففي صحيح عبد اللّه بن سنان قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: ليس الخمس إلّا في الغنائم خاصّة «1».

2- و مثله ما أرسله العيّاشي عن سماعة عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن عليهما السّلام قال: سألت أحدهما عن الخمس فقال: ليس الخمس إلّا في الغنائم 2.

و محلّ الاستدلال فيهما هو المستثنی و دلالته بالإطلاق واضحة كما عرفت.

3- و في مرسل حمّاد بن عيسی- المروي في الكافي و التهذيبين- عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح عليه السّلام قال: الخمس من خمسة أشياء: من الغنائم و الغوص و من الكنوز و من المعادن و الملاحة ... الحديث «3».

و الاستدلال به بعموم لفظ الغنائم كما فيما سبقه و فيه كلام لعلّه يأتي إن شاء اللّه تعالی.

4- و عن الصدوق في المقنع قال: روی محمّد بن أبي عمير أنّ الخمس علی خمسة أشياء: الكنوز و المعادن و الغوص و الغنيمة و نسی ابن أبي عمير الخامسة «4».

و دلالته مثل ما سبق إلّا أنّه مرسل.

5- و مثله ما رواه الشيخ بإسناده الصحيح عن الصفّار عن أحمد بن محمّد قال: حدّثنا بعض أصحابنا رفع الحديث، قال: الخمس من خمسة أشياء: من الكنوز و المعادن و الغوص و المغنم الّذي يقاتل عليه و لم يحفظ الخامس 5.

و هو مرسل مرفوع إلّا أنّ دلالته مثل سابقه، و تقييد المغنم بوصف «الّذي يقاتل‏

                       

عليه» لا يوجب تخصيصه بالمنقولات، بداهة أنّ القتال في الشريعة ليس لأجل اغتنام غنيمة بل هي مترتبة عليه، و لا فرق حينئذ بين المنقولات و غير المنقولات.

6- و في رواية عبد اللّه بن سنان المروية عن التهذيبين قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: علی كلّ امرئ غنم أو اكتسب الخمس ممّا أصاب لفاطمة عليها السّلام و لمن يلي أمرها من بعدها من ذرّيّتها الحجج علی الناس فذاك لهم خاصّة يضعونه حيث شاءوا ... الحديث «1».

و دلالتها كما سبقها، و جعل لفظة «غنم» و صفا للمرء لا يوجب اختصاصه بما يقع في أيدي الأشخاص ليكون منصرفا عن الأرض المفتوحة عنوة الّتي لا تكون لشخص بخصوصه بل لجميع المسلمين كافّة، و ذلك أنّها و إن كانت للجميع إلّا أنّ لكلّ شخص أيضا منها سهما و هو كاف في صدق «غنم» عليه. هذا إلّا أنّ الرواية ضعيفة بعبد اللّه بن القاسم الّذي قيل فيه: إنّه كذّاب لا يعتمد بروايته.

 (الطائفة الثالثة) الروايات الّتي بإطلاقها تقتضي تعلّق الخمس بالمفتوحة عنوة إلّا أنّها بغير عنوان الغنيمة.

1- ففي موثّقة سماعة المروية في اصول الكافي قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الخمس فقال: في كلّ ما أفاد الناس من قليل أو كثير 2.

فموضوع تعلّق الخمس هو كلّ ما أفاد الناس، و معناه كلّ فائدة تتحصّل بيد الناس، و من المعلوم أنّ الأموال غير المنقولة المفتوحة عنوة من أعظم الفوائد الّتي تقع يد الناس عليها، و قد عرفت أنّ الحصول علی فائدة لا ينحصر بما كانت مختصّة بالشخص بل يعمّها و ما كان له فيها نصيب كما هو المفروض في المفتوحة عنوة الّتي هي ملك للمسلمين كافّة.

2- و مثله خبر محمّد بن الحسن الأشعري- المروي عن التهذيبين- قال:

كتب بعض أصحابنا إلی أبي جعفر الثاني عليه السّلام: أخبرني عن الخمس أعلی جميع ما

                       

يستفيد الرجل من قليل و كثير من جميع الضروب و علی الصنّاع؟ و كيف ذلك؟

فكتب بخطّه: الخمس بعد المئونة «1».

فسؤال الراوي أنّه هل الخمس يجب في كلّ ما تصدق عليه الفائدة من أيّ سبب كان، و ظاهر الجواب المكتوب بأنّ الخمس بعد المئونة تصديق ذلك و التفضّل ببيان شرط في تعلّق الخمس هو أنّ الخمس إنّما يتعلّق بعد المئونة، فهذا الخبر أيضا بعمومه يدلّ علی تعلّق الخمس بالمفتوحة عنوة، إلّا أنّ سنده غير معتبر فإنّ محمّد ابن الحسن الأشعري لم يرد فيه توثيق.

 (الطائفة الرابعة) الأخبار الواردة علی عنوان ما يحصل اليد عليه عقيب الحرب و الجهاد، و هي روايتان:

إحداهما: ما رواه الكليني في اصول الكافي باسناده المعتبر عن عليّ بن أبي حمزة عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: كلّ شي‏ء قوتل عليه علی شهادة أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا صلّی اللّه عليه و آله رسول اللّه فإنّ لنا خمسه، و لا يحلّ لأحد أن يشتري من الخمس شيئا حتّی يصل إلينا حقّنا «2». و روی أيضا عن مقنعة الشيخ المفيد عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام «3».

و الظاهر أنّ العموم المذكور فيه شامل لما يؤخذ عنوة أيضا، فإنّ المراد بهذه الجملة ليس أنّ القتال كان بهدف العثور علی الأشياء المذكورة بداهة أنّ الداعي الأصيل من القتال بسط الإسلام العزيز و دعوی الناس إلی الاهتداء بالهداية الإسلامية، فالمراد من هذا العموم أنّ كلّ شي‏ء وقعت يد المسلمين عليه عقيب الجهاد الإسلامي فخمسه لهم عليهم السّلام و واضح أنّ هذا العامّ يشمل الغنائم الحربية سواء كانت منقولة أو غير منقولة فيدلّ علی المطلوب.

إلّا أنّ سند الرواية ضعيف بعليّ بن أبي حمزة الّذي هو أحد عمد الواقفة، و قال‏

                       

عليّ بن الحسن بن فضّال: إنّه كذّاب متّهم ملعون و رويت في ذمّه روايات كثيرة. هذا بالنسبة لسند الكافي، و أمّا المقنعة فسندها مرسل.

و ثانيتهما: أيضا رواية اخری رواها عليّ بن أبي حمزة عن أبي بصير- و هي مروية عن روضة الكافي- عن أبي جعفر عليه السّلام فإنّ فيها أنّه عليه السّلام قال: «ما من أرض تفتح و لا خمس يخمس فيضرب علی شي‏ء منه إلّا كان حراما علی من يصيبه» «1» و قد مرّ نقل هذه الرواية و بيان دلالة هذه الفقرة منها، إلّا أنّها أيضا ضعيفة السند بعليّ بن أبي حمزة و عليّ بن العبّاس و الحسن بن عبد الرحمن، فتذكّر.

فالحاصل: أنّ أخبار هذه الطائفة و إن كانت تامّة الدلالة إلّا أنّ سندها ضعيف.

نعم الطوائف الاخر من الروايات كانت تامّة الدلالة بحسب الإطلاق أو العموم و كان فيها ما هو معتبر السند أيضا.

فهذه الأخبار تدلّ علی تعلّق الخمس بالأموال غير المنقولة المفتوحة في الحرب عنوة، و في قبالها أدلّة المفتوحة عنوة ظاهرها أنّ جميع الأرض المأخوذة عنوة للمسلمين؛ فإنّ هذه الأدلّة علی قسمين: قسم منها مدلوله أنّ نفس الأرض للمسلمين كصحيحة الحلبي «2» و مصحّح أبي بردة بن رجا «3» و خبر أبي الربيع الشامي و خبر محمّد بن جريح 4، و قسم آخر يدلّ علی أن خراج هذه الأرض و عوائدها للمسلمين كمرسل حمّاد بن عيسی الطويل «5». و ظاهر كلا القسمين أنّ جميع الأرض و كلّ الخراج يكونان للمسلمين و هو في معنی عدم تعلّق الخمس بها.

و لو كان لخبري أبي بصير سند معتبر لكان اللازم تقييد ظهور أدلّة الأرض المفتوحة عنوة بهما فإنّ ظهورهما في شمول الأراضي المغتنمة أقوی من ظهور تلك الأدلّة فيكونان دليل تقييد ظهورها كما هو الأمر كذلك في تقييد اقتضاء إطلاق أدلّة

                       

الملكية في سائر الموارد بأدلّة وجوب الخمس، إلّا أنّك عرفت ضعف سنديهما.

و حينئذ فهل يؤخذ بإطلاق أدلّة تعلّق الخمس و يقيّد به إطلاق أدلّة ملكية الأراضي أو خراجها؟ أو يؤخذ بإطلاق تلك الأدلّة و يقيّد به إطلاق أدلّة تعلّق الخمس؟ كلاهما محتمل.

بل ربما لا يبعد أقوائية ظهور أدلّة الملكية، و ذلك أنّ من هذه الأدلّة- كما عرفت- مرسل حمّاد بن عيسی الّذي ينجبر ضعف سنده بعمل الأصحاب به و فيه:

 «و الأرضون الّتي اخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوفة متروكة في يدي من يعمرها و يحييها و يقوم عليها علی ما يصالحهم الوالي علی قدر طاقتهم من الحقّ الخراج ...- ثمّ ذكر حكم ما يخرج من الأرض بأنّه يؤخذ منها الزكاة و سهم الْعامِلِينَ عَلَيْها ثمّ قال:- و يؤخذ الباقي فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه علی دين اللّه و في مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام و تقوية الدين في وجوه الجهاد و غير ذلك ممّا فيه مصلحة العامّة ليس لنفسه من ذلك قليل و لا كثير».

فالفقرات الاولی كالصريحة في ترك الأرض المأخوذة عنوة و بقائها بجميعها بيد من كانت بيده سابقا، و الفقرات الأخيرة أيضا كالصريحة في أنّ جميع ما يؤخذ من هذه الأراضي بعنوان الخراج يصرف في مصلحة العامّة و ليس شي‏ء منه لنفس الوالي لا قليل و لا كثير، و من المعلوم أنّه إن كان الخمس واجبا فيها لكان خمس نفس الأرض و يتبعه خمس عوائد الأرض للوالي الأصلي الّذي هو وليّ الأمر عليه السّلام، فهذه المرسلة كالصريحة في عدم تعلّق الخمس بالمفتوحة عنوة و لا محالة تكون دليلا قويا علی تقييد إطلاقات وجوب الخمس. كما أنّها قرينة علی قوّة إطلاق غيرها من أدلّة الملكية.

لا يقال: إنّ الإجماع المدّعی علی تعلّق الخمس بها و الشهرة المحصّلة مخالف لهذا التقييد و معه لا مجال للمصير إليه.

فإنّه يقال: بعد أن نحتمل استناد أقوال المجمعين إلی روايات تعلّق الخمس الّتي كان مقتضی الأمر فيها ما عرفت فمثل هذا الاجماع المحتمل المدرك لا يقدر علی المنع عن هذا المسير. و اللّه العالم بحقائق أحكامه.

                       

الأمر الثاني من الأموال الّتي للمسلمين الجزية

و المراد بها ما يجعل من ناحية ولاية الأمر علی غير المسلمين الّذين يعيشون في ظلّ لواء الإسلام، و فيه مباحث كثيرة تذكر في كتاب الجهاد، و نحن نقتصر إن شاء اللّه تعالی علی البحث عن أصل جعلها و وجوبها و عمّن تجعل عليه الجزية و عن مصرفها.

 [نقل كلمات الأصحاب فيها]

و قبل الورود في ذكر أدلّة البحث لا بدّ من ذكر كلمات الأصحاب فنقول:

1- قال الشيخ المفيد قدّس سرّه في باب الجزية من المقنعة و الجزية واجبة علی جميع كفّار أهل الكتاب من الرجال البالغين ... عقوبة من اللّه تعالی لهم، لعنادهم الحقّ و كفرهم بما جاء به محمّد النبيّ صلّی اللّه عليه و آله خاتم النبيّين و جحدهم الحقّ الواضح باليقين، قال اللّه عزّ و جلّ: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّی يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ «1» ففرض سبحانه علی نبيّه صلّی اللّه عليه و آله أخذ الجزية من كفّار أهل الكتاب و فرض ذلك علی الأئمّة من بعده عليهم السّلام إذا كانوا هم القائمين بالحدود مقامه و المخاطبين في الأحكام بما خوطب به، و جعلها تعالی حقنا لدمائهم و منعا من استرقاقهم و وقاية لما عداها من أموالهم «2».

                        

ففي هذا الباب قد تعرّض لوجوب إعطاء الجزية علی الرجال البالغين من أهل الكتاب، و صرّح بأنّها لا تختصّ بزمن النبيّ الأكرم صلّی اللّه عليه و آله بل هي واجبة في زمن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام، و علّله بأنّهم عليهم السّلام قائمون بالحدود مقامه. و حاصل مدلول تعليله:

أنّ الجزية سارية في زمن الحكومة و الولاية الحقّة الإسلاميّة، و هو المطلوب.

ثمّ قال قدّس سرّه في باب أصناف أهل الجزية: و الواجب عليه الجزية من الكفّار ثلاثة أصناف: اليهود علی اختلافهم و النصاری علی اختلافهم و المجوس علی اختلافهم. و قد اختلف فقهاء العامّة في الصابئين و من ضارعهم في الكفر سوی من ذكرناه من الثلاثة الأصناف- فذكر أقوالهم بأنّهم مجوس، أو كالمجوس، أو بأنّ حكمهم حكم النصاری، ثمّ قال:- فأمّا نحن فلا نتجاوز بإيجاب الجزية إلی غير من عدّدناه، لسنّة رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله فيهم و التوقيف الوارد عنه في أحكامهم- ثمّ ذكر سبعة أصناف من الكفّار غير الصابئين ممّن تقرب المجوسية أو النصرانية أو الشرك ثمّ قال:- فأمّا الصابئون فمنفردون بمذاهبهم ممّن عدّدناه، لأنّ جمهورهم يوحّد الصانع في الأزل، و منهم من يجعل معه هيولی في القدم صنع منها العالم فكانت عندهم الأصل، و يعتقدون في الفلك و ما فيه الحياة و النطق و أنّه المدبّر لما في هذا العالم و الدالّ عليه، و عظّموا الكواكب و عبدوها من دون اللّه عزّ و جلّ و سمّاها بعضهم ملائكة و جعلها بعضهم آلهة و بنوا لها بيوتا للعبادات، و هؤلاء علی طريق القياس إلی مشركي العرب و عبّاد الأوثان أقرب من المجوس ... «1».

فظاهر هذه القسمة من كلامه أن لا خلاف بين الامّة في وجوب الجزية علی الأصناف الثلاثة، و أنّ مقتضی القاعدة أن يلحق الصابئون بالمشركين خلافا لفقهاء العامّة.

ثمّ قال: و كانت الجزية علی عهد رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله عطاء المهاجرين، و هي من بعده لمن قام مع الإمام مقام المهاجرين و فيما يراه الإمام من مصالح المسلمين «2».

فقد بيّن مصرف الجزية بعد الرسول الأعظم صلّی اللّه عليه و آله و في زمن الإمام عليه السّلام.

                       

ثمّ إنّا بعد الفحص في الانتصار و الناصريّات لم نجد فيهما كلّ ما للسيّد المرتضی قدّس سرّه في بحث الجزية.

2- و قد تعرّض شيخ الطائفة قدّس سرّه في كتبه أمر الجزية نذكر منها ما يلي:

ألف: قال قدّس سرّه في باب الجزية و أحكامها من زكاة النهاية: الجزية واجبة علی أهل الكتاب ممّن أبی منهم الإسلام و أذعن بها و هم اليهود و النصاری، و المجوس حكمهم حكم اليهود و النصاری، و هي واجبة علی جميع الأصناف المذكورة إذا كانوا بشرائط المكلّفين، و تسقط عن الصبيان و المجانين و البله و النساء منهم، فأمّا ما عدا الأصناف المذكورة من الكفّار فليس يجوز أن يقبل منهم إلّا الإسلام أو القتل ... و كان المستحقّ للجزية في عهد رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله المهاجرين دون غيرهم، و هي اليوم لمن قام مقامهم في نصرة الإسلام و الذبّ عنه من سائر المسلمين «1».

فقد أفتی بوجوب الجزية علی الرجال البالغين من الأصناف الثلاثة من أهل الكتاب دون غيرهم و بأن مصرفها في النبيّ المهاجرون و في أمثال زماننا من يقوم بنصرة. الإسلام و الذبّ عنه من سائر المسلمين.

ب: قال في كتاب الجزية من الخلاف: لا يجوز أخذ الجزية من عبّاد الأوثان سواء كانوا من العجم أو من العرب، و به قال الشافعي. و قال أبو حنيفة: تؤخذ من العجم و لا تؤخذ من العرب. و قال مالك: تؤخذ من جميع الكفّار إلّا مشركي قريش. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم ... و قال تعالی: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّی يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ فخصّ أهل الكتاب بالجزية دون غيرهم «2».

فموضوع كلامه و إن كان أخذ الجزية من عبّاد الأوثان و ادّعی علی عدم جواز أخذها إجماع الفرقة إلّا أنّ قوله بعد ذكر الآية: «فخصّ أهل الكتاب بالجزية ...»

فيه دلالة علی قوله بأنّ أهل الكتاب يؤخذ منهم الجزية.

و قال أيضا: يجوز أخذ الجزية من أهل الكتاب من العرب، و به قال جميع‏

                       

الفقهاء، و قال أبو يوسف: لا يجوز. دليلنا قوله تعالی: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّی يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ و لم يفرّق ...»

.

أقول: و في استدلاله بالآية و أنّها عامّة لجميع أهل الكتاب دلالة علی قوله بأخذ الجزية من جميعهم.

و قال أيضا: المجوس كان لهم كتاب، و به قال أبو حنيفة. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم. و رووا عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: «كان لهم كتاب أحرقوه و نبيّ قتلوه» فثبت أنّهم أهل الكتاب.

و قال أيضا: الصابئة لا يؤخذ منهم الجزية و لا يقرّون علی دينهم، و به قال أبو سعيد الاصطخري. و قال باقي الفقهاء: إنّه يؤخذ منهم الجزية. دليلنا اجماع الفرقة و أخبارهم ... و أيضا قوله تعالی: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ- إلی قوله:- مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّی يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ فشرط في أخذ الجزية أن يكونوا من أهل الكتاب، و هؤلاء ليسوا بأهل الكتاب «2».

فهو قدّس سرّه قد ادّعی إجماع الفرقة علی أنّ المجوس من أهل الكتاب و به اكتفی عن التصريح بأخذ الجزية منهم.

كما استند بعد الإجماع علی عدم أخذها من الصابئة بأنّ موضوعها في الآية أهل الكتاب و الصابئة ليسوا من أهل الكتاب، ففي كلاميه بعد توضيح حكم موضوعي المسألتين دلالة علی أنّ تمام الموضوع لجواز أخذ الجزية هو أن يكون المأخوذ منه من أهل الكتاب.

ثمّ قال: الشيوخ الهرمی و أصحاب الصوامع و الرهبان يؤخذ منهم الجزية، و للشافعي فيه قولان: بناء علی القولين إذا وقعوا في الأسر هل يجوز قتلهم أم لا؟

و في أصحابنا من قال: «لا تؤخذ منهم الجزية». دليلنا علی الأوّل قوله تعالی:

حَتَّی يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ و لم يفصّل «3». فتراه أفتی بأخذ الجزية

                       

من الطوائف الثلاث مستدلا بعموم الآية.

ثمّ قال: من لا كسب له و لا مال لا يجب عليه الجزية، و به قال أبو حنيفة.

و للشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، و الآخر- و هو أصحّهما- أنّهما تجب عليه. دليلنا إجماع الفرقة، و أيضا الأصل براءة الذمّة «1».

فقد أفتی باستثناء الفقير عن عموم أدلّة الجزية و استدلّ له بإجماع الشيعة، و يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالی.

ج: و قال في كتاب الجزايا و أحكامها من المبسوط: فصل فيمن تؤخذ منه الجزية و من لا تؤخذ من أصناف الكفّار، قال اللّه تعالی: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّی يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ.

... و أخذ رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله الجزية من مجوس هجر، و علی جواز أخذ الجزية إجماع الامّة. و الكفّار علی ضربين: ضرب يجوز أن تؤخذ منهم الجزية و الآخر لا يجوز ذلك. فالأوّل هم الثلاثة الأصناف: اليهود و النصاری و المجوس، و أمّا من عدا هؤلاء من سائر الأديان من عبّاد الأوثان و عبّاد الكواكب من الصابئة و غيرهم فلا تؤخذ منهم الجزية عربيا كان أو أعجميا ... و جملة ذلك أنّ من كان من أهل هذين الكتابين المشهورين- اليهود أهل التوراة و النصاری أهل الإنجيل- فإنّها تقبل منهم ... فأمّا المجوس فحكمهم حكم أهل الكتاب، و روی أصحابنا أنّه كان لهم كتاب فأحرقوه، و روي ذلك عن عليّ عليه السّلام «2».

و المذكور في كلامه جواز أخذ الجزية، فادّعی علی جواز أخذها إجمالا إجماع الامّة، ثمّ أفتی بأنّه إنّما يجوز أخذها من خصوص الثلاثة الأصناف من الكفّار و لا يجوز أخذها من غيرهم.

و قال قدّس سرّه فيه: و الفقير الّذي لا شي‏ء معه تجب عليه الجزية لأنّه لا دليل علی‏

                       

إسقاطها عنه، و عموم الآية يقتضيه، ثمّ ينظر فإن لم يقدر علی الأداء كانت في ذمّته، فإذا استغنی اخذت منه الجزية من يوم ضمنها و عقد العقد له بعد أن يحول عليه الحول، و أمّا النساء و الصبيان و البله و المجانين فلا جزية عليهم بحال «1».

فيستفاد منه أنّ الجزية لا توضع علی رءوس جميعهم بل علی خصوص الرجال البالغين كاملي العقل، و أنّها لا تسقط عن الفقير.

و قال قدّس سرّه أيضا فيه: و قد بيّنّا أنّ الجزية لا تؤخذ من المرأة و لا مجنون حتّی يفيق و لا مملوك حتّی يعتق «2».

أقول: و قد مرّت عبارته في المرأة و المجنون إلّا أنّه لم يذكر شيئا في المملوك، بل إنّ مقتضی ظاهر كلماته دخول المملوك أيضا في من يؤخذ منه الجزية، و كيف كان فقد صرّح باستثناء المملوك و عدم تعلّق الجزية به و هو كما يأتي إن شاء اللّه تعالی محلّ خلاف.

ثمّ قال في تفصيل ذلك الكلام: فأمّا المملوك فلا جزية عليه لقوله عليه السّلام: «لا جزية علی العبيد». و لا يكون الإمام فيه بالخيار إذا وقع في الأسر بل يملك، فإن اعتق قيل له: لا تقرّ في دار الإسلام حولا بلا جزية، فإمّا أن يسلم أو يعقد الذمّة 3.

فقد ذكر قدّس سرّه دليله علی هذا الاستثناء و أنّه هذا الحديث.

و قال قدّس سرّه أيضا فيه: إذا بلغ المولود سفيها من أهل الذمّة مفسدا لماله و دينه، أو أحدهما لم يقرّ في دار الإسلام بلا جزية، لعموم الآية 4.

فهو قدّس سرّه لا يری استثناء السفيه المفسد و المسألة محلّ خلاف يأتي الكلام فيها إن شاء اللّه تعالی.

و قال قدّس سرّه أيضا فيه: و الشيخ الفاني و الزمن و أهل الصوامع و الرهبان الّذين لا قتال فيهم و لا رأي لهم تؤخذ منهم الجزية، لعموم الآية. و كذلك إذا وقعوا في الأسر جاز للإمام قتلهم، و قد روي: أنّه لا جزية عليهم 5.

                       

فقد ذكر هذه الطوائف الأربع و حكم بأنّ عليهم الجزية و إن ورد في بعض الروايات أنّه لا جزية عليهم، و هو أيضا محلّ الخلاف، و يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالی.

و قال قدّس سرّه أيضا فيه: و مصرف الجزية مصرف الغنيمة سواء للمجاهدين» «1». فقد جعل مصرفها المجاهدين، و هو قريب لما في النهاية.

فهذا نبذ من كلماته في المبسوط. و قد تعرّض فيه لأحكام أهل الجزية عديدا يظفر عليها من راجعه.

3- و قال أبو الصلاح الحلبي (المتوفّی سنة 447 ه) في فصل سيرة الجهاد من الكافي- بعد ذكر وجوب دعوة المحاربين إلی الإسلام: ... و إن أقاموا علی الإباء و كانوا كتابيّين و هم اليهود و النصاری و المجوس عرض عليهم الجزية و الدخول تحت الذمّة، فإن أجابوا ضرب الجزية علی رءوسهم و أقرّهم في دارهم و جعل علی أراضيهم قسطا يؤدّونه مع جزية رءوسهم، و إن امتنعوا قاتلهم حتّی يؤمنوا أو يعطوا الجزية، و جزية الرؤوس مختصّة بأحرار رجالهم العقلاء البالغين السليمين، دون النساء و العبيد و الأطفال و المجانين و ذوي العاهات من فقرائهم ... و إن كانوا مشركين و هم من عدا الكتابيّين من الكفّار و أبوا الإجابة قاتلهم حتّی يؤمنوا و يلزم قتل الجميع مقبلين و مدبرين و يجهز علی جرحاهم «2».

ثمّ ذكر حكم المرتدّين فطريا أو ملّيا و حكم البغاة و حكم المحاربين الساعين للفساد في أرض الإسلام. و لم يذكر في شي‏ء منهم أنّه يجعل عليه الجزية.

فهو قدّس سرّه خصّ الجزية بالأصناف الثلاثة من أهل الكتاب و حكم بوجوب قتل المشركين كما عرفت، و صرّح بأنّ الجزية إنّما تجعل علی رءوس الرجال الأحرار العقلاء البالغين السليمين دون غيرهم.

و قال قدّس سرّه أيضا: و يجب صرف الجزية و ما صولح عليه الكتابيّون علی أراضيهم و أنعامهم في أنصار الإسلام خاصّة حسب ما جرت به السنّة من النبيّ صلّی اللّه عليه و آله «3».

                       

فجعل مصرف الجزية خصوص أنصار الإسلام مستدلّا بأنّه سنّة النبيّ الأكرم صلّی اللّه عليه و آله.

4- و قال سلّار (المتوفّی سنة 448 ه) في كتاب الخمس من المراسم عند ذكر الجزية: إنّما هي تجب علی بالغ الذكر من اليهود و النصاری و المجوس خاصّة فمن عداهم من الكفّار لا ذمّة له ... فأمّا مستحقّها فمن قام مقام المهاجرين لأنّها كانت في أيّام النبيّ صلّی اللّه عليه و آله للمهاجرين، و للإمام أن يصرفها أيضا في مصالح المسلمين «1».

و هو واضح الدلالة في اختصاص الجزية بخصوص الأصناف الثلاثة، و ظاهره أنّ سائر الكفّار يقتلون حيث نفی ثبوت الذمّة لهم، فإذا كانوا لا ذمّة لهم تحت لواء الإسلام فلا محالة ليس لهم حقّ الحياة و يقتلون. و اشترط في من عليه الجزية أن يكون ذكرا بالغا و لازمه أن لا توضع جزية علی الاناث و لا علی الصبيان و المجانين. و قد جعل مصرفها من قام مقام المهاجرين إلّا أنّ للإمام أن يصرفها في سائر مصالح المسلمين.

5- و قال القاضي ابن البرّاج (المتوفّی سنة 481 ه) في كتاب الخمس من المهذّب: الّذي يجوز أخذ الجزية منه هو كلّ مكلّف ذكر من اليهود و النصاری و المجوس امتنع عن الإسلام و أجاب إلی إعطائها، و أمّا الّذي لا يجوز أخذها من الكفّار فهو جميع النساء و الأطفال و البله و المجانين من اليهود و النصاری و المجوس، و أمّا جميع أصناف الكفّار المخالفين لليهود و النصاری و المجوس فلا يقبل منهم إلّا الإسلام أو القتل و لا يقبل من أحد منهم جزية علی حال ... المستحقّ لأخذ الجزية هو كلّ من قام مع الإمام عليه السّلام من المسلمين في نصرة الإسلام و الذبّ عنه مقام المهاجرين، لأنّ المهاجرين في عصر النبيّ صلّی اللّه عليه و آله هم الّذين كانوا يستحقّون أخذها، فمن كانت صفته ما ذكرنا من المسلمين فهو الّذي يستحقّ أخذها و إليه يدفع دون غيره من الناس «2».

و كلامه في اختصاص الجزية بخصوص الأصناف الثلاثة الواجدين للشرائط

                       

الّذي ذكرها واضح الدلالة كوضوح دلالة كلامه الأخير في أنّ مصرف الجزية في زمان الإمام هو خصوص من قام مقام المهاجرين في نصرة الإسلام و الذبّ عنه.

6- و قال السيّد حمزة أبو المكارم ابن زهرة الحلبي (المتوفّی سنة 585 ه) في كتاب الجهاد من الغنية: و من لا كتاب له من الكفّار لا يكفّ عن قتاله إلّا بالرجوع إلی الحقّ، و كذا حكم من أظهر الإسلام من البغاة و المحاربين، و من له كتاب- و هم اليهود و النصاری و المجوس- يكفّ عن قتالهم إذا بذلوا الجزية و دخلوا تحت شروطها، و لا يجوز أخذ الجزية من عبّاد الأوثان سواء كانوا عجما أو عربا و لا من الصابئين و لا من غيرهم بدليل الإجماع المشار إليه ... و لا يجوز أخذها إلّا من الذكور البالغين الكاملي العقول ... و الجزية تصرف إلی أنصار الإسلام خاصّة علی ما جرت به السنّة من النبيّ صلّی اللّه عليه و آله «1».

و هو في الدلالة علی ذكر من عليه الجزية و مصرفها مثل ما سبقه كما هو واضح.

7- و قال أبو جعفر ابن حمزة (من أعلام القرن السادس) في كتاب الجهاد من الوسيلة: فصل في بيان أحكام الجزية، هذا الفصل يحتاج إلی بيان خمسة أشياء:

من يجوز عقد الذمّة له، و من توضع عليه الجزية، و من لا توضع، و قدر الجزية، و من يستحقّها. فالأوّل: اليهود و النصاری و المجوس، و قد ذكرناهم. و الثاني من اجتمع فيه خمس خصال: الحرّية، و الذكورة، و البلوغ، و كمال العقل، و انتفاء السفه عنه بإفساد دينه أو ماله. و الثالث ستّة نفر: المرأة، و العبد، و المجنون، و الصبي، و الأبله، و السفيه المفسد ... و الخامس من يقوم مقام المهاجرين في نصرة الإسلام «2».

و دلالته علی اختصاص الجزية بخصوص الأصناف الثلاثة ممّن وجد الشرائط المذكورة و علی بيان مصرفها واضحة. بل إنّ التعبير عن عقد الجزية بعقد الذمّة فيه دلالة علی أنّ غير الأصناف الثلاثة من سائر الكفّار لا ذمّة لهم تحت لواء الإسلام فلا محالة يقتلون.

و قد صرّح بهذا المفهوم قبل هذا الفصل، حيث قال في الفصل الثاني من فصول‏

                       

كتاب الجهاد- بعد ذكر أنّ اليهود و النصاری و المجوس يقرّون علی دينهم بشرط قبول الجزية و التزام إجراء أحكام الإسلام عليهم-: و الضرب الآخر لا يجوز إقراره علی دينه و هو من عدا هؤلاء من الكفّار و لا يقبل منهم غير الإسلام، فإن لم يقبلوا قوتلوا، و لم يرجع عنهم إلّا بعد أن يسلموا أو يقتلوا عن آخرهم «1».

8- و قال أبو الحسن الحلبي (من أعلام القرن السادس أيضا) في كتاب الجهاد من إشارة السبق: فكلّ من أظهر الكفر أو خالف الإسلام من سائر فرق الكفّار يجب- مع تكامل ما ذكرناه من الشروط- جهادهم ... و من عدا أهل الكتاب من جميع من يجب جهاده لا يكفّ عن قتالهم إلّا بالرجوع إلی الحقّ، و هؤلاء و هم اليهود و النصاری و المجوس- يجب الكفّ عنهم إذا قبلوا الجزية و التزموا بشروطها ... و توضع الجزية علی رءوسهم و أراضيهم بحسب ما يراه الإمام، و تصرف إلی أهل الجهاد، و لا تؤخذ من النساء و لا من غير بالغ كامل العقل، و لا من غير ما ذكرناه من الفرق الثلاث «2».

و هو أيضا قد خصّ الجزية بخصوص الفرق الثلاث ممن وجد منهم الشرائط المذكورة و ذكر أنّها تصرف إلی أهل الجهاد.

9- و قال الكيدري (من أعلام القرن السادس أيضا) في كتاب الجهاد من إصباح الشيعة: و من لا كتاب له من الكفّار فلا يكفّ عن قتاله إلّا بالرجوع إلی الحقّ، و كذا حكم من أظهر الإسلام من البغاة و المحاربين، و من له كتاب- و هم اليهود و النصاری و المجوس- يكفّ عن قتالهم إذا بذلوا الجزية و دخلوا تحت شروطها، و لا يجوز أخذ الجزية من عبّاد الأوثان و لا من الصابئين ... و لا يجوز أخذها إلّا من الذكور البالغين الكاملي العقول ... و الجزية تصرف إلی أنصار الإسلام خاصّة «3».

و هو أيضا قد خصّ الجزية بخصوص الأصناف الثلاثة ممّن وجد منهم الشرائط المذكورة و ذكر أنّ مصرفها خصوص لأنصار الإسلام.

این مورد را ارزیابی کنید
(0 رای‌ها)
محتوای بیشتر در این بخش: « قسمة9 قسمة11 »

پیام هفته

تحمیل نظر خویش بر آگاهان
قرآن : ... ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ کُونُوا عِباداً لي‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... (سوره نحل، آیه 52)ترجمه: هیچ کس (حتی پیامبر) حق ندارد به مردم بگوید به جای خدا مرا عبادت کنید.حدیث: روی الحلبی قلتُ لاَبی عبدالله علیه السلام ما أدنى ما یکون به العبد کافراً ؟ قال: « أن یبتدع به شیئاً فیتولى علیه ویتبرأ ممّن خالفه (معانی الاخبار ، ص 393)ترجمه: ... حلبی روایت می کند که از امام صادق (ع) پرسیدم : کمترین سبب کافر شدن انسان چیست؟ فرمودند : این‌که بدعتی بگذارد و از آن بدعت جانبداری کند و از هر کس با او مخالفت کند روی برگرداند و آنان را متهم و منزوی سازد.

ادامه مطلب

موسسه صراط مبین

نشانی : ایران - قم
صندوق پستی: 1516-37195
تلفن: 5-32906404 25 98+
پست الکترونیکی: این آدرس ایمیل توسط spambots حفاظت می شود. برای دیدن شما نیاز به جاوا اسکریپت دارید